مساقات (القصيدة- الرواية) في تجربة السرد السعوديّة *د. عبد الله الفَيْفي
|
تحدثنا في المساق الماضي عمّا أشار إليه جان إيف تادييه Jean Tadi;e في ما أسماه ب(الرواية الشعرية)، معرباً عن أنه يمثل كسراً في قواعد الخطاب الروائي، وذلك حينما (تتحول الرواية إلى شكل شعري بكل ما يميزه هذا الشكل من (تناسق) و(خفوت)(1).
ولحظنا أن قصارى ما يعنيه هذا هو اختلاط الشعر بالنثر في ضرب من تقنيات الخطاب الروائي الحديث. وذاك غاية ما يدل عليه مصطلح (الرواية الشعرية) لدى (تادييه).
أي أن مصطلح (الرواية الشعرية) ما هو إلا محاولة لفرز هذه الرواية المتمتعة بمسحة شعرية عن الرواية النثرية الاعتيادية، فهو نظير تسميات أخرى، ك(الرواية البوليسية) أو (الرواية الغرائبية) أو (رواية المغامرات) ونحوها.
أما ما هي بصدده هذه المقاربات التي ما زلنا نجريها في الرواية السعودية - حول ما ندعوه ب(القصيدة- الرواية) فيتجاوز فضفاضية هذا الاصطلاح وأريحية ذاك المفهوم، الدائر في فلك الرواية، بوصفها جنساً أدبيّا، من حيث إن نماذج هذا النمط محلّ الدراسة تكاد تمحي هويتها الروائية في شعريتها المطلقة، وهو ما يسوّغ اتخاذها مصطلحاً جنسيًّا أشد تحديداً وأضيق تبئيراً، يتلاءم وطبيعتها، ألا وهو: (القصيدة-الرواية).
ونقف على ثلاثة أعمال من (القصيدة-الرواية) في المملكة العربية السعودية: (سقف الكفاية، لمحمّد حسن علوان: 2002، والحزام، لأحمد أبي دهمان: 2001 الترجمة العربية، والغيمة الرصاصية، لعلي الدميني: 1998)، تمثّل أبرز النماذج من هذا النوع الذي ينتقل فيه النصّ من محض التوالج الشعريّ بالسرديّ إلى ما يُطلق الدارس عليه هنا: (القصيدة-الرواية).
وقد أُنتجت جميعها كما هو واضح خلال نهايات العقد الأخير من القرن الماضي وبدايات العقد الأول من هذا القرن.
وقد تكون لهذا التوقيت في ذاته دلالته التي ربما تتمثل في محاولة الذاكرة الشعرية العربية الانتصاف من جنس أدبي- هو الرواية - كان قد شرع يزاحم فن الشعر في عُقر داره، ويسحب البساط من تحت قدميه في قلب وجوده العربي، جزيرة العرب، فيَسْتَرِق منه أضواءه التاريخية.
فجاءت حركة لا واعية يمارسها هؤلاء الشعراء، ردةَ فعلٍ شعرية تضاف إلى ردّات الفعل الأخرى العربية المتوالية، ولاسيما عقب فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل، فضلاً عن دوافع التيار العالمي الجارف صوب النثر وفن القصّ.
والمؤكد أن أولئك الشعراء قد خطوا خطواتهم نحو الرواية برغبة حقيقية في إنجاز أعمال وفق الشروط الروائية، وأن لهم إلى ذلك حاجاتهم النفسية والاجتماعية لتوسّل قناة جديدة للتعبير، أكثر استيعاباً لهموم الراهن وقضايا العصر من قصيدة شعر.
غير أنهم، وهم يُخْلِصون أنفسهم من أجل هذا الهدف- في نزعة إنسانية يراود حلمُ الرواية مخيلتها ووجدانها- كانوا يحملون هاجس الشاعر النجم، الذي له (الصدر دون العالمين أو القبرُ)!.
ولقد عبر عن هذا الهاجس، من طرف خفي، أحد الشعراء الروائيين - وإن لم تتوفّر في نصوصه شروط هذا البحث المحدّدة - وهو الشاعر غازي القصيبي(2)، حينما قال على لسان البروفسور بطل (العصفورية): (كل أديب يشعر أنه بحاجة إلى كتابة رواية)، أو قوله في حوار البروفسور مع شوقي في باريس: (التفتُّ فإذا بي أمام أحمد شوقي بك، أمير الشعراء.
قلت له (برنس شوقي! ماذا تفعل هنا؟ لا تقل لي إنك تكتب رواية! رجاءً لا تقل لي إنك تكتب رواية!) قال: (هل تعتقد أن أمير الشعراء يعجز عن كتابة رواية؟) قلت: (لا، والله!، يا برنس. هي الرواية شغلانة؟ قدّها وقدود).
نعم، لقد أراد أمراء الكلام- وعيًا أو لا وعيًا- أن يثبتوا أن الرواية ليست ب(شغلانة) عند الشاعر الفحل، وأنه (قدّها وقدود!)، كما قال القصيبي الشاعر على لسان الشاعر شوقي. ليست الرواية (بشغلانة) لدى الشعراء إذن، مثلما لم تكن المسرحية من قبل أو الملحمة، فما الرواية إلا بضاعة الشعراء رُدَّت إليهم! وهذه النزعة الشاعرية الذاتية كانت وراء تميّز نصوص هؤلاء الشعراء بالذاتية الواضحة، فيما هم يكتبون نصوصاً تُفترض فيها الموضوعية.
يتبدى ذلك أولاً، في أن لغة السرد لديهم جميعاً تعتمد على ضمير المتكلم.
ومن ثم تأتي سردية نصوصهم أشبه ما تكون - إن لم تكن فعلاً - بالسيرة الذاتية، المغرقة في ذاتيتها. في حين لو قورنتْ كتاباتهم بروايات مجايلهم من الناحية الفنّية تركي الحمد مثلاً - وليس بشاعر - لتبين أن هذا الأخير لا يعتمد في سرده على ضمير المتكلم، وإن بدتْ أعماله هو الآخر ضرباً من سيرة ذاتية، تتوسّل الشكل الروائي لبثّ خطاب سياسي اجتماعي.
وتلك (السير- ذاتية) المغرقة في ذاتيتها، التي يعتمدها هؤلاء الشعراء، تجعل تعاملهم بضمير المتكلم يراوح بين ضمير المتكلم الغنائي وبين ضمير المتكلم المطابق للمؤلف وسيرته، أي أنه يبدو أشبه بتعامل الشاعر الملحميّ القديم(3).
فماذا كان منتوج تلك الحساسية الجديدة للشعريّة الروائيّة؟ كان أن تمخّضتْ عن تلك النصوص التي ظاهرها الرواية وباطنها الشعر.
أي أنها مثّلت أوبة متأخرة إلى ما يشبه الملحمة الشعريّة، مع فارقين رئيسين:
1) شكلي، يتعلق بتجرّد (القصيدة - الرواية) غالباً من شكلانية الشعر الصارمة، من حيث الموسيقى الخارجية من أوزان وقواف. فيما عدا الشواهد والتضمينات وبعض الظواهر.
2) تركيبيّ فنيّ، يتعلّق بتقصير (القصيدة - الرواية) عن ذلك البناء القصصي الملحمي، أو النسيج السردي الروائي، واستنادها على بنية حكائية بسيطة، تُشحن باستطرادات الخواطر المحلّقة في فضاءات الشعريّة، ما يجعلها تبدو حاملة من الشعريّة المكثّفة أكثر مما تحمل من السرديّة الروائيّة.
ومن هناك استنبتوا - من حيث شعروا أو لم يشعروا - جنساً مختلفاً عن الملحمة الشعريّة وعن حفيدتها الرواية معاً، هو هذا الجنس الذي نسميه: (القصيدة- الرواية).
وبهذا، فإذا كانت الرواية قد جاءت في العصر الحديث وريثة الملحمة الشعريّة - التي كانت هي (القصيدة- الرواية)، في صيغتها العتيقة - فإن (القصيدة- الرواية) في صيغتها الجديدة تأتي بمثابة ارتداد إلى نوع من جنس أدبي مهجور، هو الملحمة.
غير أن (القصيدة- الرواية) الجديدة، تتخلّص من حدّة الحضور ذي الوجود الكامل لكلا الجنسين- الشعري والروائي - كي تنشئ نمطاً جديداً من التماهي بينهما، وإن كانت كفّة الشعري فيهما تميل إلى الرجحان.
وهذا ما يدعو إلى تسمية النص ب(القصيدة- الرواية) لا ب(الرواية- القصيدة). وحينما نستعمل هذا المصطلح فإننا ننفي عن هذا النوع شعريته وروائيته، في آن. لنقيم له هوية في منطقة وسطى بين عالم الشعر وعالم الرواية.
ولكي لا يتكرر هنا المأزق الجدلي الصاخب المصاحب لمصطلح (قصيدة النثر)، يجب أن يفهم أن (القصيدة - الرواية) غير (قصيدة الشعر)، مثلما كان ينبغي أن يفهم من قبل أن (قصيدة النثر) نوع مختلف عن (قصيدة الشعر)، إذ هي لا بشعر خالص ولا نثر خالص.
aalfaify@hotmail.com
***
إحالات
(1) Tadie, Jean Yves, (1978), Le r6ecit poصetique, (Paris: P. U. F), 11. يُنظر: بوعلي، عبد الرحمن، (1996)، المغامرة الروائية، (وجدة- المغرب: جامعة محمد الأول)، 248)
(2) (1996)، العصفورية، (بيروت: دار الساقي)، 22، 36.
(3) ويُنظر: ويليك، رينيه؛ أوستين وارين، (1987)، نظرية الأدب، تر. محيي الدين صبحي، مر. حسام الدين الخطيب (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، 225.
| | |
|