البصير *قاسم حول
|
إلى أين يلتجئ مثلنا سوى عند اللاجئين، عندما أجبرنا على مغادرة وطننا- هذا قبل أن نختار المنافي الباردة أيام حكم الدكتاتور- أقنعت الفلسطينيين في لبنان بضرورة أن يوثّقوا هذه المرحلة في السينما. في البداية قالوا ما لنا والسينما هذه. نحن نعيش على المساعدات ونعمل على العودة. كلا يا أخوتي؛ فالصورة والوثيقة أمران مهمان في تأريخ الإنسانية. استغرقت عملية الإقناع قرابة العام. بعد شهر من تأسيس قسم السينما صادف أن مخصصات أبناء المخيمات الفلسطينية في مخيم صبرا قد تأخرت، ولم تدفع لهم فسرت إشاعة أن مخرجاً سينمائياً عراقياً قد أخذ مخصصات هذا الشهر، ويريد أن يعمل بها فيلماً سينمائياً عن مخيم النهر البارد، (المبلغ الذي أخذته كان 4000 ليرة لبنانية! ما يعادل 800 دولار) ولما دخلت المخيم بدت النظرات قاسية نحوي، لم يمض سوى عام حتى صاروا أحب أصدقائي ويعتبون عندما أدخل مخيماتهم بدون الكاميرا السينمائية. وشكلت لهم قسماً للسينما، وشكلت لهذا القسم لجنة حتى لا أنفرد وحدي بالمسؤولية. وعندما طلبت مساعداً يشاركني الهم السينمائي رشحوا لي من المخيم شخصاً أعمى مساعداً لي في قسم السينما.
بدأ مساعدي يتحسس الكاميرا السينمائية كل يوم ويتعرف على حجمها وكيف يمكن تثبيتها على الحامل، وكان يسألني عن العدسة والغالق وشباك الكاميرا وحركتها الاستعراضية والعمودية وبأي عدسة يمكن التقاط طائرات عسكرية وهي أسرع من الصوت. صار يخرج الكاميرا إلى شرفة قسم السينما كلما سمع صوت الطائرات تغير على بيروت ويبدأ في تحريك الكاميرا باتجاه السماء. قلت له: كيف تصور ولم ترفع الغطاء عن العدسة؟ قال لي صدقت، ولهذا السبب لم أشاهد الطائرات في الكادر فرفعت غطاء الكاميرا فقال لي: إني أرى السماء الآن. وعاد أزيز الطائرات فحرك الكاميرا باتجاه السماء وضغط على نابض الكاميرا وبدأت الكاميرا تدور وهو يضع عينه على ناظور الكاميرا ويحركها بحركات استعراضية وأحيانا يحرك الزووم باتجاه الكاميرات التي يفترض أنه يراها. بقي علينا أن نرسل الفيلم إلى ستوديو بعلبك لنتأكد فيما إذا كان قد صور الطائرات فعلاً، ولكن ستوديو بعلبك كان يقع تحت سيطرة الكتائب اللبنانية خلال الحرب الأهلية ولا يمكننا الوصول إليه أو إظهار وطباعة أي فيلم فيه. في اليوم التالي جاءني وقال لي لقد وجدت ستوديو صغير يظهر الأفلام السينمائية وهو ستوديو يعمل ليلاً لأنه يعمل بالسر لتحميض وطبع الأفلام (الممنوعة) قلت له: ولكن هذه الأفلام تصور في أغلب الأحيان بفيلم قياس ثمانية ملمترا ونحن نصور بقياس ستة عشر مليمترا، فأجابني باندهاش وهل تعتقد أني لا أعرف ماذا صورت. لقد سألت صاحب الأستوديو وقال لي إنه يظهر أفلاماً من قياس 16 مليمتراً أيضاً. كان علينا الذهاب ليلاً إلى الأستوديو وخبّرني أن علينا أن ندخل الأستوديو بحذر فهو يقع في خطوط التماس بين الحركة الوطنية اللبنانية والفلسطينية وبين قوات الكتائب اللبنانية والجبهة اللبنانية وخبرني أن هناك قناصاً في المنطقة. أخذني هو وأوقفت السيارة على مسافة ثم صار يدلني بين الأزقة حتى وقفنا على رصيف في شارع التماس وسألني أن كنت أرى باباً من الحديد في الجهة المقابلة ولونه أخضر وعليه مقبض وفي الأعلى يوجد جرس صغير. قلت له: هو كذلك أمامي في الجهة الثانية من الشارع. قال لي: أحذر فثمة قناص ماهر، أرجو أن تركض وتضغط على جرس الباب وعندما يفتحه صاحب الأستوديو اترك الباب مفتوحاً حتى أدخل أنا فوراً. فركضت وضغطت على جرس الباب وخرج صاحب الأستوديو وطلبت منه أن يترك الباب مفتوحاً وسرعان ما عبر الشارع راكضاً ودخل الأستوديو وأعطيناه الفيلم وانتظرنا حتى تم تحميضه، وطبعنا منه نسخة في آخر الليل.
عبرنا الشارع ركضاً الواحد بعد الآخر، ومرت نحونا بضعة رصاصات من القناص. وصعدنا السيارة وعدنا لمقرنا في قسم السينما. وفي اليوم التالي جمعت منتسبي القسم وعرضنا الفيلم على الشاشة وكان هو يتطلع نحو الشاشة، فشاهدنا طائرة تعبر الكادر من بعيد مرتين، فسألنا وأين هي الطائرات حيث كان يتوقع أن يسمع صوتها وأعتبر نفسه لم يرها فأفهمته بأن الصوت في هذا النوع من الأفلام والكاميرات يسجل لاحقاً وإن كاميرتك قد اصطادت طائرتين!
حكايتي مع هذا الإنسان الطيب كثيرة ومثيرة جداً وكنت لا أستطيع الاستغناء عنه، ويوم أن يمرض أو يغيب عن العمل لسبب أو لآخر أشعر بالوحشة، وأن ثمة ما هو محرك للواقع قد غاب، وأخاف أن ندخل في السكون بدونه حتى مع الواقع الملتهب والخطير الذي كنا نحياه. وبعد كل حكاياته المثيرة والتي تكاد لا تصدق فإنني لم أكن بحاجة إلى دفتر هواتف في قسم السينما حيث كان يحفظ كل هواتف لبنان بصحافتها ومؤسساتها السينمائية، فما أن أحتاج إلى رقم حتى يمليه علي، وعندما أطلب الرقم وأخطأ في تدوير الأرقام يصحح لي الرقم إذ كان يصغي لصوت زمن قرص الهاتف وهو يدور فيعرف فيما إذا كان الرقم صحيحاً أم غير صحيح. وكثيراً ما صحح لي الأرقام التي يمليها علي وأنا أديرها في قرص الهاتف القديم.
كل مراسلي صحافة وتلفزيونات العالم ووكالات الأنباء يعرفونه وكان يجيد الإنجليزية بطلاقة وكان محاوراً سياسياً ويعرف كل أخبار الدنيا. ولم يكن باستطاعة أحد أن يصور دون أن يحصل على الموافقة من مساعدي، وكانوا في شك أنه لا يبصر وأن ثمة لعبة في الأمر لأن معرفته خارج نطاق التصور. تذكرته هذه الأيام وأنا أتابع أخبار الثقافة والمثقفين الذي لم يروا درب الحقيقة ولم يروا المطبات السياسية والثقافية والإنسانية، والذين لم يعرفوا أبواب الأمكنة التي يدقونها كما عرف صاحبي لون باب الأستوديو الأخضر.
تذكرتهم واحداً واحداً وأنا أرقب كتاباتهم التي تزيف الحقيقة وقد وهبهم الله سبحانه نعمة البصر لكي ينظروا إليها ويروا الأشياء بوضوح، لكنهم يتعامون عن رؤية الحقيقة فيما كان صاحبي الأعمى قد حرم من نعمة البصر لكن الله سبحانه منحه نعمة البصيرة.
* سينمائي عراقي مقيم في هولندا
sununu@wanadoo.nl
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|