مفارق الكتابة نحو قراءة متزنة للنقد العربي الحديث مرزوق بن تنباك وقضية الوأد (4) محمد العامر الفتحي
|
حادي عشر - ويورد الدكتور رأيا غريبا آخر إذ يجزم بأن الأبيات التي قالها الفرزدق يفخر فيها بجده صعصعة وعمله الكريم لم يطلع عليها جرير وإلا لكان نقضها.. يقول: (سكتت كتب الأدب والتاريخ والسير عن صمت جرير، وصمت غيره من الشعراء العرب، ولم يثر أحد هذا السؤال، بل لعل أحداً ممن اهتم بدراسة النقائض في كل عصورها لم ينتبه إلى هذه الجزئية من النقائض بينهما). ويقول في اعتذاره لتقصير جرير في الرد على الفرزدق في هذه الجزئية: (إن تعليل صمت المهجوين عنه هو أن شعره الذي يفخر به ويذكر الوأد فيه ويهجو من هجا لم يكن مما يتداوله الناس ولا يعرفونه، وإنما جمع مع جمع الديوان من أفواه الرواة الذين حفظوا الشعر ولم ينتشر في حياة الفرزدق)! وإننا لنعجب كيف يريد الدكتور أن يقنعنا بأن جميع القصائد التي قالها الفرزدق في هجاء جرير وذكر فيها الوأد قد وصلت جريرا خالية من الأبيات التي تذكر الوأد! يقول الفرزدق قصيدة يفخر فيها ويهجو، ثم تنقل إلى أسماع المهجوين وعلى رأسهم عدوه اللدود جرير، وتبقى منها الأبيات التي تذكر الوأد سريّة لا يطلع عليها سوى جامع الديوان إننا لا نحجر على أحد اجتهادا يجتهده، ولكن العقل لا يقبل أن يأتيه الباحث عن دليل باستنتاج غير قابل للتصديق، ثم يبني عليه حكما، ويستنتج منه نتيجة! أيعقل أن تبقى هذه الأبيات في صدور الرواة لا يطلعون عليها أحدا، حتى يأتي من يجمع الديوان ليجدها فيضعها في مكانها؟ أقرب إلى العقل أن يقال: إنما نقض جرير ما تمكّن من نقضه وأشاح عما لا طاقة له به. وأنا إذ أناقش هذه الجزئية لا أتقصد جزئية مهملة عند الدكتور مرزوق.. بل هي كما يقول هو (صمت جرير صار محور هذه الدراسة، وصارت إجابته إحدى معضلاتها) وقد ركّب الدكتور مرزوق فكرته على أساس أن جريرا قد قام بنقض جميع ما أورده الفرزدق من ألوان الفخر، فكيف يصمت عن فخره بإحياء الموؤدات؟! وتناسى أن جريراً قد قال كما ذكر هو: (ما قال لي ابن القين بيتاً إلا وقد اكتفأته إلا قوله:
ليس الكرام بناحليك أباهم
حتى تردّ إلى عطية تعتل
فإني لا أدري كيف أقول فيها). ولم يتنبه الدكتور إلى أن جريراً قال (مما قال لي) كما لم يتنبه إلى كاف الخطاب في البيت و(عطية) مما يعني أن جريراً أراد أن يوضح أنه ينقض ما يلصقه الفرزدق به وبأبيه وأجداده من صفات. ولم يتنبه إلى عجز جرير فيما عدا ذلك مما يورده الفرزدق، فإن ردّ عليه فردُّ كالدعاء كقوله:
أخزى الذي سمك السماء مجاشعا
وبنى بناءك في الحضيض الأسفل
رداً على الفخر العظيم الذي أخذ الفرزدق يطلقه في سماء معركتهما كقوله:
إن الذي سمك السماء بنى لنا
بيتاً دعائمه أعزّ وأطول
بيتاً زارة محتب بفنائه
وجاشع وأبو الفوارس نهشل
إن جريرا هنا يؤكد ما سبق أن قلناه عن عجزه عن الإجابة حين يتعلق الأمر بمكرمة لدى الفرزدق لا قبل له بنقضها، أو بمنقصة في نسبه هو لا قبل له بنقضها.
وفي كل النقائض نجد جريرا يهرب من مواجهة الفرزدق في ساحة الفخر بالآباء والأجداد، وينصرف إلى هجائه بالفسق والفجور أو يدعو عليه كما أسلفت. وتزداد الغرابة مما يصنعه الدكتور حين نجده يحاول استباق الأسئلة التي يوقن أنها ستدور في أذهان متلقي كتابه، ومنها السؤال الذي قال هو فيه (أما كيف قال الفرزدق كل ما قال، ونقل عنه كل ذلك القول، وتحدث الناس عنه، وتردد على ألسنة العامة والخاصة، ثم لا يعرف جرير عنه شيئاً).. وهو سؤال وجيه، وهو في الوقت نفسه حجة لا بد للدكتور من أن يبطلها فهي تقف عقبة أمام ما يريد أن يصل إليه، ومن هنا كانت فكرته العجيبة التالية: (وما نراه هو أن الشعر في حياة الشاعرين لم يكن بهذا الانتشار والسيرورة، ولاسيما شعر الفرزدق الخاص الذي يدور في حلقات الوعظ واللغة)! وهكذا يخرج الدكتور ما ذكره الفرزدق عن الوأد من موضوعه الأساس وهو النقائض، التي أكثر الفرزدق من الفخر فيها بكل ما استطاع أن يذكره من أمجاد آبائه وأجداده، وهو الميدان الذي لم يكن جرير يستطيع مجاراته فيه، لأنه لا سبيل للدكتور إلى انكار انتشارها، فيجعله شعراً خاصاً، يقال في حلق الوعظ واللغة، وشتان بين هذا الشعر وشعر حلق الوعظ! ولكنها الحاجة إلى نفي ما قد يهدم جانبا من النظرية الجديدة!
ويعود الدكتور للاعتماد على ما أسماه (كتب الأدب) فيقول: (وتروي لنا كتب الأدب أن الفرزدق قدم المدينة....). إلى أن يصل إلى هدفه من الاستشهاد وهو تأكيد جهل جرير بما قاله الفرزدق عن قضية الوأد.. وإلا لكان نقضه.. وبيّن بطلانه..! وهنا نعود للتذكير بأننا نأخذ على الدكتور أنه يصدق كتب الأدب في الروايات التي تدعم موقفه التنظيري.. ويكذبها في الروايات التي لا تدعم موقفه. إن كتب التفاسير وكتب اللغة وكتب الأدب والسير لا تساوي عند الدكتور مثقال ذرة في مسألة إثبات قضية الوأد.. فهي عنده إما كاذبة وإما واهمة وإما مستغلَّة. ولكن الكتب ذاتها تصبح عنده مصدرا موثوقا حين يتعلق الأمر بقضية قد تعطي ملمحاً ولو من بعيد يؤكد ما أراد الدكتور تأكيده. ولست أرى في هذا التناقض ما يخدم أساليب البحث العلمي الرصين، ولا المنهج الأكاديمي العادل!
ثاني عشر - ومن الأمور التي ساقها الدكتور مرزوق ما لا يقبل من مثله، كأن يتهم طلبة العلم بالسذاجة التي تصل بهم إلى الحد الذي يستطيع معه الفرزدق أن يستغلهم في نشر فكرة غير صحيحة تتعلق بالوأد، وأنه استطاع من خلال علاقته بالحسن البصري أن يمرر فكرة الوأد، فإذا بالمفسرين يجدون في أبيات الفرزدق دليلا على فكرة لم تكن تخطر ببال أحد منهم عند قراءته لآيات الوأد، وقتل الأولاد! هاهو يقول إن تلك الفئة وجدت في شعر الفرزدق ما كانت تبحث عنه لتفسير معنى تلك الآيات (ما نريد أن نصل إليه من هذا كله أن الفرزدق يعيش بهذه الدوائر الدينية وهو يعرف توجهاتها، ونظن أنه قد ألقى فيها بيته الأول في الوأد، مثلما ألقى بيتيه السابقين عند الحسن في أمر تقوم فيه أحكام فقهية لا تحتاج إلى فتوى الفرزدق وشعره، فوجدت فئة الوعاظ والمذكرين أن ما قال يوافق ما تريد من معنى يفسر ظاهر الآية، أو وجدت ما تبحث عنه من تفسير للموءودة)! ولنا مع هذه الأسطر من كلام الدكتور وقفات: فهو يقول إن إلقاء الفرزدق لأبيات الوأد في حلقة الحسن البصري منح الحسن ومريديه دليلاً فسّر لهم (مسألة الوأد) التي يبدو الدكتور مقتنعاً بأن العلماء كانوا في حاجة ماسة إلى تلك الأبيات ليكتشفوا معناها! ولاحظوا أن الدكتور يقول (وجدت فئة الوعاظ ما تريد) ولم يقل وجدت دليلاً يؤيد ما تعرف! والدكتور يخلط بين حلق العلماء الأجلاء كالحسن البصري وحلق الوعاظ البسطاء الذين يتشبثون بأوهى البراهين ليصلوا إلى قلوب الناس. إن تصوير حلقة علمية رصينة كحلقة الحسن البصري على هذه الصورة من السذاجة وعدم التثبت في البحث عن الدليل لهو من أكبر ما يمكن أن يتهم به المفسرون والفقهاء، وبالتالي مما يشككنا في كل ما توصل إليه علماء هذه الحلق لو أننا وافقنا الدكتور في اتهامه، ولكننا نؤكد على أن أولئك العلماء كانوا أحرص الناس على حمل أمانة الدين والعلم، وأنهم قد أبلوا بلاءً حسناً في تخليص الأحاديث الشريفة والروايات الدينية والتفاسير من كل ما قد يشوب صحتها، أو ينقص من وثوقيتها. ويساوي الدكتور بين إقرار الحسن للفرزدق حين ذكر بيتا في حكم فقهي ثابت ومعروف، وبين ما ظنه من أخذ للمعنى من بيت شعر قاله الشاعر نفسه في مناسبة أخرى! والدكتور يعلم أن سكوت الحسن عن بيت الحكم الفقهي لا يستلزم أن يكون قد سلم مقاليد الفتوى للفرزدق، كما لا يستلزم أن يأخذ عنه غثّه وسمينه! وسكوت الحسن عن الجواب في المسألة الأولى بعد بيت الفرزدق لا يدل بحال من الأحوال على أنه لم يكن يعرف الحكم حتى فتح الله عليه بالفرزدق، فكيف نتصور أن يكون الحسن جاهلاً بمعنى الآية حتى جاء الفرزدق ببيت الوأد فوجد فيه الحسن ضالته!
ثالث عشر - يذكر أن الله سبحانه ذكر قتل الولد في بعض الآيات، ولم يخص البنات بذلك، وتساءل قائلاً: (وعلى أي شيء اعتمد المفسرون في تخصيص ما هو عام مطلق في النص كله) والجواب عندي يخرج من رحم سؤاله.. فما الذي صرف أذهان جميع المفسرين منذ العصر الإسلامي الأول إلى التفريق بين البنت والولد في هذه الآيات؟! الجواب هو.. إن أذهان المتلقين لنص ما، تتلقى ذلك النص، ثم تنصرف به إلى ما يناسبه من الخبرات التي عاشتها تلك الأذهان، أو سبق أن وقفت عليها! إن الذي صرف أذهان الصحابة والذين من بعدهم إلى هذا التفسير، هو الواقع المعيش، ذلك الواقع الذي لامس حياتهم، والتصق بها التصاقا جعلهم يعون تماما مقصد ما ورد من آيات! وهكذا فعلينا أن نختار بين فكرتين اثنيتين! فإما أن نعترف بأن الصحابة والتابعين كانت لديهم التجارب الحياتية والذهنية التي أوضحت لهم بكل جلاء المقصود بالأولاد في الآيات، وهي تجارب عاشها بعضهم وسمع عنها بعضهم الآخر، وهي تجارب تتسق تماما مع ما ورد من تفسير واحد لتلك الآيات.. بدليل أننا لم نقرأ رأياً يخالف هذا الرأي الموحد.. الذي وحدته المعايشة والخبرة الذهنية، وإما أن نصدق بأن معنى هذه الآيات كان غامضا عليهم حتى جاء الفرزدق فنبههم بشعره إلى تفسير لم يكن معروفاً لديهم (كما يقول الدكتور مرزوق)! وفي هذه الحالة علينا أن نصدق أن هذه الآيات بقيت دون تأويل منذ نزولها إلى أن جاء الفرزدق! بدليل أنه لم يرد - كما أسلفنا - تفسير مخالف لهذا التفسير! وهكذا نجد أنفسنا أمام سؤال كبير آخر! فهل سكت كل من جاء قبل الفرزدق عن هذه الآيات ولم يورد لها تفسيرا مطلقا؟! أم أنهم فسروها بتفسير آخر أهمله المفسرون الذين جاءوا بعد الفرزدق؟! وعلى هذا فلنا أن نتهمهم بأنهم أخفوا تراثا تفسيريا كان هو الأقرب إلى عهد نزول القرآن!
انتهت
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|