قصيدة (جدة) لقاء الحضارة بالشعر عبد المؤمن عبد الله القين
|
حينما نقول إن حمزة شحاتة شاعر سبق عصره، قد لا نتجاوز الحقيقة.. فالفترة التاريخية التي عاش فيها هذا الشاعر تمتد من عام 1328هـ، 1910 1390هـ، 1970م وهو كما ورد في ترجمة حياته المختصرة على غلاف ديوانه قد سافر إلى الهند ومكث فيها للعمل أربع سنوات عاد بعدها إلى بلاده ونحن لا نعرف تاريخ وسنة نظم قصيدته (جدة) لنحدد ملامح الحضارة الخارجية فيها، ولكن ما يرويه معاصرو الشاعر ولدّ اته أمثال الأستاذ عبدالعزيز الرفاعي يرحمه الله أنها لم تكن تحتوي إلا على حي راق واحد هو البغدادية ووزارة الخارجية وبقية أحيائها القديمة المشهورة كالكندرة والصحيفة وباب مكة.. كما يقول الأستاذ عبدالفتاح أبو مدين في كتابه (حمزة شحاتة ظلمه عصره) ص 197، إن جدة كانت مدينة متواضعة يحف بها السبخ من أطرافها، غرباً وشمالاً وبعض الجنوب.. قاسية المناخ، يغطيها بخار البحر، وهي في الشتاء ربيع، لأنها لا تعرف البرد. وهناك أسئلة عديدة تدور في ذهن الدارس الباحث في أدب حمزة شحاتة حينما يقرأ هذه القصيدة بالذات، فبمن تأثر الشاعر ليأتي هذا الدفق الوجداني في القصيدة على نسج بديع فريد متجدّد بقافية القاف ذات الحرف الصوتي الوسطي المنطوق من سقف الحلق.. ولكن رغم ثقل نطقه لا يجد المرء صعوبة في استساغة معاني وألفاظ هذه القصيدة الرائعة؟ ثم يأتي سؤال ثان حول البيئات الطبيعية التي شاهدها الشاعر، وهي فيما أعلم من المصادر التي بين يدي لا تعدو بيئة كل من مكة المكرمة وجدة في الداخل والهند في الخارج؟! ونحن لا نعدم الإجابة إذا ما عرفنا أن حسن جدة في القصيدة غير مجلوب على حد تعبير المتنبي آنذاك كما هو الحال الآن.. إذن فنحن أمام عبقرية فذة نسجت من خيال متحضر واع معاني وجدانية أسقطها الشاعر على محبوبته جدة.. هائماً بها.. عاشقاً لها.. متفاعلاً مع معطياتها آنذاك سواء كانت فكرية أو ذات شأن وشؤون أخرى كانت تشغل باله وتؤرقه، لأن طموحه يشحذ همته نحو المعالي وذرى القمم الشماء.. فكانت طلاقة القدرة عنده خير مِعْوَلٍ لروعة قريظه كلمة وليس في هذه القصيدة فقط. وها هو في ذروة تلك القمم، فلكم اعترف معاصروه من الشعراء أمثال السيد محمد حسن فقي الذي نسج على منوال قصيدته (جدة) قصيدة مكة حينما نظمها بنفس الوزن والقافية، وكذلك الشاعر ضياء الدين رجب رحمه الله الذي يعترف مثل فقي بشاعرية شحاتة وأنها أفضل منهما. ولكن على الرغم من ذلك لم يكن معاصرو شحاتة يبدون آراء نقدية تفصيلية حول شعره، إما لأن هذا الشعر لم يكن منشوراً بما فيه الكفاية أو لأسباب أخرى، وإن كان عبدالسلام طاهر الساسي يرحمه الله قد أرّخ له مع بقية الشعراء وكذلك محمد علي مغربي في (أعلام الحجاز). وبعد هذه المقدمة، لن أتناول هنا تحليل قصيدة (جدة) تحليلاً لفظياً ومعنوياً، فقد سبقني إلى ذلك الأستاذ عبدالفتاح أبو مدين في كتابه (حمزة شحاتة ظلمه عصره) وكتابه (وعلامات) حيث يقول: (إن قصيدة جدة الرائعة، نبعت من متيّم في هوى هذا البلد الساحر، فجاءت آية في جمال التصوير والوصف، أفرغ فيها الشاعر المجلّي تلك الشحنة الدافقة، عبر بيان مشرق، فكانت هذه المعاني بعيدة الغور، لمحب وشاعر تتدفق مشاعره بما انسكن في وجدانه، فكان الهوى يتحدث بلغة، كأن حروفها سحر، وصدق من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم : (إن من البيان لسحراً) ص 44). وإذا كانت المدن العالمية تفخر بنصب تمثال لعظيم من عظمائها وحيث إن الإسلام قد حرّم التماثيل، فها هي جدة تفخر بأربعة أبيات من مطلع قصيدة حمزة شحاتة وكأنها قيلت في الأمس القريب وليس منذ أكثر من أربعين عاماً على أقل تقدير، ومن هذا المنطلق يمكن القول إن حمزة شحاتة قد سبق عصره بهذه القصيدة.. فلعلّ رؤاه كانت تستشرف معالمه الثمينة والنهضة في هذه المدينة الساحلية العروس الهائمة، فالمرء حينما يتنزه في الكورنيش يرى المجسمات الجمالية ومن بينها مجسم لابد أن يقف عنده ليقرأ، لا ليشاهد ويمر مرور الكرام فقط، يقرأ فينتشي مع رؤية حالمة يعود من خلالها إما إلى الوراء أو يترجم من خلالها حاضره ثم يتأمل في المستقبل خيراً يقول الشاعر:
النهى بين شاطئيك غريق | والهوى فيك حالم، ما يفيق | ورؤى الحبّ في رحابك شتّى | يستفزّ الأسير منها الطليق | ومغانيك في النفوس الصديا | ت إلى ريِّها المنيع، رحيق | إيه، يا فتنة الحياة، لصبّ | عهده في هواك، عهد وثيق | إن من أسرار تأثير هذا المطلع الشعري الساحر في نفس القارئ المتذوق أن معاناة الشاعر نفسه يمكن إسقاطها على معاناة هذا القارئ، ففي هذه الحالة يشترك القارئ معه في الإحساس وإن اختلفا في الزمن.. لكن نبض الإحساس لدى القارئ في عصرنا هذا يسير مع نبض إحساس الشاعر، وهذا برهان على أن هذه القصيدة كان فيها استشراف لرؤية مستقبل هذه المدينة الساحلية المفتوحة على كل بلدان العالم ومتصلة بها بطبيعة الحال على عكس المدن الصحراوية التي يتقلص فيها الاتصال الدولي ويقتصر على الجو والبر.. ولعل للتجارة أثراً في هذا الانفتاح، فجدة منذ قيام المملكة العربية السعودية على يد جلالة الملك عبدالعزيز يرحمه الله هي ميناء المملكة التجاري الرئيس تليها الدمام في المنطقة الشرقية فضلاً عن أنها بوابة الحرمين الشريفين ومن هنا يمكن دراسة بيئة الشاعر في مدينة مفتوحة انتعشت فيها الثقافة الأدبية أكثر من غيرها من المدن، إما عن طريق ما يصلها من كتب ومجلات من كل من الشام ومصر، ناهيك عن أنها كانت تسمى (صوت الحجاز) و (المدينة المنورة) التي انتقلت مطبعتها إليها من المدينة المنورة. وكما أسلفت، أنا لا أكتب تحليلاً نقدياً عن هذه القصيدة، ولكن الوجه الحضاري لها إذا جاز التعبير هو ما أرمي إلى ترسيخ مبادئه، فليت كل من قرأ الأبيات الأربعة المكتوبة في الكورنيش على اعتبار أنها وثيقة لنمط من أنماط أدب هذا البلد المعطاء، كما يعبر أهل السياحة ليته يعود إلى الديوان فيقرأ القصيدة كاملة، لأن فيها ثقافة لغوية يهملها أكثر الشبيبة ونسيها أكثر المثقفين.. وفي قراءة القصيدة ما يمكن أن يؤدي إلى قراءة بقية الديوان لدى التبعية الباقية ممن تستهويهم البلاغة بمعانيها ومحسناتها وبديعها.. ومعنى ذلك إعادة الارتباط بجزالة الشعر وقوته لدى شاعر فحل قوي فيمكن من صناعته ينظم شعره ليبقى أثره في النفوس والخواطر والقلوب، كالمتنبي وغيره من فحول الشعراء.. ويبرز الجانب الحضاري الموضوعي في آخر المقطع الخامس للقصيدة حينما يقول سائلاً محبوبته (جدة):
أكذا أنت للنقائض ورد | يستوي عنده التقى والفسوق؟ | بين من تمنحيهم وردك السا | ئغ قوم ودادهم ممذوق | من مياسير جاهلين أضاعو | ك وكل بما يشين علوق | ومهازيل كالضفادع في الظلمة | أقصى ما يستطعن النقيق | قادهم أخرق الخطى للدنايا | وهو فيهم، بما جناه، مسوق | وشباب، غراسه مازكت في | ك ولا غرو فالغراس العروق!! | ما أجمل البيت الأخير!! إنه وصف للشباب في زمن الشاعر واليوم أيضاً، وهم عدة المستقبل وما أروع الوصف المكثف في عبارة (فالغراس العروق)!! إن شباب اليوم وقد تعرضوا ويتعرضون لكافة التيارات والتوجهات لا سيما عن طريق القنوات الفضائية المتلفزة لهم بحاجة منها أن نغرس فيهم أسس وثوابت ديننا الحنيف فهو أمضى سلاح لمواجهة كل التحديات وكل التيارات الرخيصة بصفة خاصة كبرامج السفور والإباحة في التلفاز وغير ذلك ولهذا نجد الشاعر وكأنه يعيش اليوم بيننا يقول:
لعلعت صرخة النهوض حوالي | ك وأصواتهم لديك نعيق | وبذلك نضع إصبعنا على موضوع هذه القصيدة الوجدانية أو الموضوع الرئيس المهم فيها، وهو (النهوض) أو التنمية بالمصطلح الحديث.. ثم يعود الشاعر إلى وصف حال الشباب قائلاً:
ومشى الناس للجهاد مغذي | ن فهل نص ناعقيك طريق؟ | إنه سؤال عادل أن يتساءل الشاعر عما أظهره ناعقو جدة.. ثم يقول:
من لهم بالطموح والجد ما أخذ | منك مسعاه والحياة مضيق | هم أسارى مناعم العيش والح | ق عليهم، مما أُذيل حنيقُ | ماذا نقول نحن إذن ما دام الشباب في زمن الشاعر كانوا منعّمين في عيشهم؟ أليس شبابنا بأنعم عيشاً منهم؟ لكأنه والحالة هذه يصف شباب اليوم وليس أيامه، والذين عليهم أن يقرأوا هذه القصيدة، وما توفيقي إلا بالله.
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|