عجزَ الشِّعرُ أن يصوِّر ما بي |
من شجونٍ ولوعةٍ واكتئابِ |
كان يومُ الخميسِ يوماً حزيناً |
لم أذق فيه مطعمي وشرابي |
حيث فيه فقدتُ خلاَّ وفيا |
كان حقَّا من خيرةِ الأصحاب |
إن وقع المُصاب جدا أليمٌ |
عجزتْ أن تطيقه أعصابي |
ولو أنَّ الأعمارَ تُعْطَى لأعطيتُكَ |
عمري خِلوَّا من الأوصاب |
كنتُ أرجو شفاءه فأتاني |
نعيُه بغتةً ودون حساب |
فتأثرتُ ثم دارتْ بي الأرضُ |
فأهويتُ فاقداً لصوابي |
فزعَ الأهلُ حينما أبصروني |
غارقاً في البكاءِ والانتحاب |
تعتريني إذا خلوتُ بنفسي |
طارقاتُ الشكوكِ والارتياب |
وترى النوق في اشتياقٍ إليه |
شاخصاتِ الأبصار للأبواب |
ويُطِلْنَ الحنين حزناً عليه |
والثرى ابتل من دموع (سحاب)* |
وترى النخلَ حينما شفَّهُ الشوق |
تمادى في سرعة الإرطاب |
*** |
قد عرفناه منذ كان صغيراً |
لم يكن مائلاً إلى الألعاب |
ما رأيناه لاعباً ذات يومٍ |
لا بدنَّانةٍ ولا بالكِعاب |
فتراه بعد الدراسة يُمضي |
معظم الوقت ممعناً في الكتاب |
حملَ العبءَ بعد موت أبيه |
وهو دون العشرينَ غض الإهاب |
كان برَّاً بوالديه وبالأهل |
رحيماً بصاحبات الحجاب |
ولإخوانه الصغارِ محبٌّ |
يتولاهمُ بلينِ الجناب |
وعلى أحسن الخلائق ربَّاهم |
بلا قسوةٍ ولا إرهاب |
وينمي محبة الصدق فيهم |
ويغذي كراهةً الكذاب |
وهو برٌّ بأصدقاء أبيه |
وخصوصاً شيخاً من الأعراب |
فتراه يزور إن حلَّ عيدٌ |
ويواسي لدى وقوع مُصاب |
وإذا ما احتاجوا إلى العون في أمرٍ |
تصدّى بهمةٍ واحتساب |
كان عفَّ اللسانِ والكف والنف |
سِ كريماً يداً نقيَّ الثياب |
ثمرُ النخلِ في (مُطِلةَ)* للأهل |
وللصحبِ والفقير الترابي |
فإذا زاد بعد ذلك شيءٌ |
يشتريه المريدُ للاكتساب |
وتراه في ظلمة الليل يسْعَى |
لبيوتٍ تعيش بالانتساب |
كم عجوزٍ دعتْ له في المصلَّى |
آخرَ الليل وهي في المحراب |
*** |
ثلثُ قرنٍ من عمرهِ قد قضاهُ |
في مجالِ التعليم بعد الإياب |
كان فيه مدرساً ومديراً |
بارزاً فيهما على الأضْراب |
وله عند الجميع مقامٌ |
واحترامٌ جم لدى الطلاب |
مرحٌ يقبل المزاح بقدرٍ |
ليس فيه شيءٌ من الإغضاب |
قد قضى عمره بدون زواجٍ |
فدعوناه (سيد العُزّاب) |
لم يكن رفضه الزواج لعيبٍ |
أو لعقمٍ أو قلة الإخصاب |
إنما قصده لكبح جماح النفس |
عن لذة الهوى والتصابي |
وليبقى مع الكتاب طويلاً |
يستقي من معينه المنساب |
حيث لا زوجةٌ تغارُ فتغريه |
بشيءٍ من دلها الجذاب |
ثم يأتي الأولادُ والبيت يُضحي |
مسرحاً للضجيج والألعاب |
ثم تأتي مطالب البيت فالوقتُ |
مضاعٌ في جيئة وذهاب |
ولهذي الأسباب ما عاد للوم |
سبيلٌ، وسدَّ باب العتاب |
وغدا ينتقي من الحور ما شاء |
بحول المهيمن الوهاب |
وبعيداً عن البهارج والأضواء |
أمضى حياته في احتجاب |
لم يكن همّه اللهاثَ وراء المال |
أو مطمحاً إلى الألقاب |
إنما كان همّهُ النفعَ للناسِ |
ومَقْتا للمظهر الكذَّاب |
*** |
إن بيتا في (المِسْهَريّةِ)* يحكي |
قصةَ البدءِ وانطلاق الرِّكاب |
فتح الباب منذ خمسينَ عاماً |
لمريديه شيبهم والشباب |
فمريدوه من مشاربَ شتى |
في ثقافاتهم وفي الآراب |
ولهُ في شتَّى البلاد صداقا |
تُ عقولٍ متينةُ الأطناب |
فالصداقاتُ ثروة تكسبُ المرءَ |
اقتداراً على اجتياز الصِّعاب |
كل علمٍ أدلى له فيه دلواً |
باختلاف في قوة الأسباب |
فهو موسوعةٌ على الأرض تمشي |
في جميع العلومِ والآداب |
وهو في موقف الدفاع عن الحقِّ |
شجاعٌ وليس بالهيَّاب |
يَقرِضُ الشعر بالفصيح وبالشعبي |
لكن بقلّةٍ واقتضاب |
فإذا ما اقتضى الإطالة أمر |
فلهُ قدرةٌ على الإسهاب |
وهو في عالم الرواية ثَبْتُ |
يعتني في اختياره باللباب |
وهو ذو هِمّةٍ وعزة نفسٍ |
ضاعفا من طموحه الوثاب |
لوذعيٌّ باللمح يدركُ ما لا |
يدركُ الآخرون بالانكباب |
وهو في مهمه الفلاةِ قطاةٌ |
يهتدي في سهولها والهضاب |
وهو في الحرثِ والنجوم مُلِمٌ |
حجةٌ في التاريخ والأنساب |
وهو للدارسين تاريخ نجدٍ |
مصدرٌ صادقٌ مليءُ الوِطاب |
ولقد كان قارئاً مستفيضاً |
مع فهم وقوةِ استيعاب |
وتراه لدى الحوار صريحاً |
لا يُماري في قوله أو يُحابي |
كان يأتي مضاربَ البدو يستطلعُ |
ما عندهم عن الأقطاب |
أو لتدوينه نصوصاً من الشعر |
توارتْ عن أعين الكتَّاب |
فيلسوف تظن أن (ابن رشد) |
قد أتى زائرا أو (الفارابي) |
فإذا ما تناول البحث في الطبِّ |
كأنَّا في مركز استطباب |
ولقد كان بالتراث ولوعا |
كسيوفٍ، بنادقٍ أو حِراب |
أو نقودٍ من فضةٍ أو نحاسٍ |
أو جفانٍ قديمة كالجوابي |
لم أحاول إحصاءَ ما يقتنيه |
بل أردتُ التمثيل بالانتخاب |
يتقن الخط باليمين وباليسرى |
وهذا من العجيب العُجاب |
يبدأ السطر باليمين وينهيه |
بيسراه دون أيّ اضطراب |
أنا ما قلتُ عنه إلا قليلا |
وأمور كثيرة في الخوابي |
وستبدي الأيامُ ما قد جهلناهُ |
وما ندَّ تحت جُنحِ الضباب |
*** |
يتراءى قبل الغروب لعيني |
باسمَ الثغرِ آتيا لاصطحابي |
ثم نمضي إلى (مُطِلَّةَ) نمضي |
أول الليلِ فوق تلك الرحاب |
فإذا غابتْ الغزالةُ قمنا |
لأداء الصلاة بعد الغياب |
ثم نأتي بعد الصلاةِ سراعاً |
لتلقّي حديثه المستطاب |
فإذا وجه السؤال إليه |
أحدُ الحاضرين في أي باب |
فترى الجالسين أصغوا جميعا |
باشتياقٍ إلى سماع الجواب |
ثم ينهل كالغمامة سحَّا |
أو كنهرٍ جارٍ غزير العُباب |
وإذا اضطر أن يحاور شخصا |
حظهُ في الذكاء دون النصاب |
لم يكن قاسيا عليه غليظاً |
أو يصفه بالجهل أو بالتغابي |
بل تراه بحكمةٍ وهدوءٍ |
راح يهديه للطريق الصواب |
وإذا كان في الحضور غريب |
فتراهُ يخصهُ بالخطاب |
وإذا ما أتى إليه ضيوف |
هبَّ يلقى الضيوفَ بالترحاب |
وهو عند اللقاء سمحٌ بشوشٌ |
وسريعُ التأثيرِ والاجتذاب |
*** |
كان جلداً على البلاء صبوراً |
ما تشكَّى من علة أو مُصاب |
حملَ الداءَ بين جنبيه دهراً |
وهو داءٌ مكشِّرُ الأنياب |
وهو داءٌ على العلاج عصي |
ويصيبُ الأكبادَ بالالتهاب |
أنا والله ما علمتُ بهذا |
رغم أني من أقرب الأحباب |
ولقد زاد في البلاءِ فتوق |
وقعُ آلامها كطعمِ الحراب |
وهو بين الحضور يبدو سليما |
مثل ظبي يعيش بين الشعاب |
فإذا ما حم القضاءُ فلا نملكُ |
غير الدعاءِ والاحتساب |
كل حي مآله باطنُ الأرض |
إلى أن يحينَ يومُ المآب |
وهو إما إلى نعيمٍ مقيمٍ |
أو إلى النار في أشد العذاب |
ربِّ فارحم ولا تكلنا إلى ما |
قد عملناهُ فهو لمعُ سراب |
ربي فاغفر لي وأسبغ عليه |
رحمة من لدنك عند الحساب |
يا إلهي أسكنه جنة عدن |
تحت ظل النخيلِ والأعناب |
ولتبارك ياربي في ابني أخيه* |
وتفضَّل عليهما بالثواب |
حيث كانا كابنيه في كل شيء |
وينوبان عنه عند الغياب |
واستمرا بعد الوفاة على ما |
كان قبل الوفاة دون انقلاب |
فيجيئان كل يوم مساء |
ويجيءُ الصحابُ تلو الصحاب |
وسنبقى إلى (مُطِلَّةَ) نأتي |
كل يوم برغبةٍ وانجذاب |
وإذا كان في الثرى قد توارى |
فهو حي يعيش في الألباب |
إنْ يكرَّم بمنتدى وطريقٍ |
يحملان اسمه فعينُ الصواب |
وسيبقى في المنتدى نبضه الدَّا |
فقُ في خطّ سيره الإيجابي |
*** |
يا أبا إبراهيم مهما طرقنا |
من ضروب الإيجاز والإطناب |
فلقد قصر البيانُ عن البوح |
بما في النفوسِ من إعجاب |
أنت في الفكر والثقافة رمزٌ |
سوف يبقى على مدى الأحقاب |
يا سمي (الكواكبي) و(ابن سعدي) |
و(ابن عوف) والفارس الغلاب |
أنت ما زلت فارساً وستبقى |
للعصامي قدوةً في الطِّلاب |
وأنا في الختام أبدي اعتذاري |
فأنا لم أقل سوى الأهداب |
***