الإمام محمد عبده.. ولادة المثقف الحديث (7-13) تمازج اللهب والبلور في خطاب الإمام د. عبد الرزاق عيد
|
يميز ايتالو كالفينو بين شكلين جماليين، (اللهب والبلور)، وهو يؤسسهما فلسفيا على نوعين من الأنظمة، الأول القائل ب(النظام الخارج من الفوضى) وهو ما يدافع عنه الفيلسوف الفرنسي (جان بياجيه) مؤسسا بذلك للهياج الداخلي العنيف الذي يتولد عنه النظام (اللهب)، والثاني القائل ب(النظام المنظم ذاتيا) وهو القول الذي يدافع عنه عالم اللغويات والفيلسوف الأمريكي الديموقراطي الشهير (نعوم تشومسكي) مؤسسا بذلك لشكل البلور بوصفه الممثل الحسي لنماذج سيرورة تشكل الكائنات الحية.
من الواضح أن خطاب محمد عبده في هذا السياق ينتمي إلى خط أسلوب (اللهب) الذي يحرق، وهو الذي يقابله خط الأسلوب (البلوري)، الذي يهندس ويصقل، وكنا قد أشرنا إلى أن ممثل خط (اللهب) رفيق دربه النهضوي التنويري الدستوري الديموقراطي، عبد الرحمن الكواكبي الشامي الحلبي (18541902) الذي كان يتردد إلى مجالس محمد عبده بعد هروب الأخير لمصر من السلطنة العثمانية، لينشر كتابه (طبائع الاستبداد) الذي يمكن اعتباره البيان العربي الأول لمبادئ حقوق الانسان.
إن السلطة العثمانية وجدت نفسها في مواجهة اثنين : (عبده الكواكبي) ضد نظامها الإقطاعي القروسطي الاستبدادي في العالم العربي، وهما يتقاطعان مع التيارات الليبرالية التي كانت أكثر تبرعما في الحاضرة العثمانية ذاتها، حيث هذه الأفكار تجد نفسها في انحياز بديهي لفكر عدو السلطنة، أي: الغرب الصاعد وثقافة الأنوار وحقوق الإنسان ومناهضة الاستبداد والاستعباد والانتصار للعقل والحرية: حرية التفكير والتعبير، أي أوروبا التقدم، الصناعة، الحداثة الفكرية والسياسية....
ولذا فالإمام الذي يكتب بروح (اللهب) هذه، لم يكن بعد قد بلغ الثلاثين ولذا يريد أن يحرق هذا العالم القديم حيث : (الهبوط والسقوط والانحطاط)، إذ هو يقارنه بالآخر الأوروبي، فيقارن حال (أنا الانحطاط)، مع الأمم المتمدنة ليكتشف: (ثروتهم وفاقتنا، وعزتهم وذلتنا، قوتهم وضعفنا، وقدرتهم وعجزنا، وصولتهم وانهزامنا، وغير ذلك من المزايا والرزايا التي لاتعد، وبها يعتد، بل في زمان خرج فيه العلم من الأذهان إلى الاعيان، وتنزل من مرتبته الروحانية، وتجلى في الصور الجسدانية.
نقول: إن العقل الموهوب، والحس المشتعل بآتون: واقع اجتماعي، حرارته إلى الهبوط، وأمره إلى سقوط، فيتساءل كيف نتدارك مافات، وبعد أن يجول بالنظر لا يجد (سببا لترقيتهم في الثروة والقوة إلا ارتقاء المعارف والعلوم فيما بينهم، حتى قادتهم إلى رشادهم، فتنوروا خيراتها فاكتسبوها ).
إن روح اللهب... المتقد في الجوانح تشعل مخيلته فيرى أن الغرب (جعل من العالم بيت النار) هو الذي يقوم على خدمتها وعبادتها بكل جد وإخلاص، ويتساءل كيف يمكن المحافظة على الذات بعدم الاحتراق إن لم يكن لدينا نار مثلها، متسائلا بتهكم مرير (هل يمكن استحصالها (النار) بالخرز والخزف أو بدائي الحرف ؟ (إذن لا سبيل أمامنا سوى الاستضاءة بنور المعرفة (البلورية) العقلانية، ونار (العرفان) الصوفية التطهيرية الداخلية، ويمضي بقوة مزيج لهب المعرفة والعرفان المتقدة بداخله،، بدون عقد حضارية، ولا جراح نرجسية وطنية أو قومية لاعتبار الآخر الغربي هو الذي يملك أنوار نيران المعرفة هذه، لكن سرعان ما يشده مشهد درس البلور الصارم والمتوازن لكي لا يحرق خطوط الاتصال والتواصل مع بني قومه، فيعلن أن من يرشدنا إلى طريق التطور والتمدن إنما هم: (أبناء الطائفة، فإنهم من أرواحنا، وقائدو أشباحنا، حيثما توجهوا توجهنا، وفي أي وقت على أي شيء عرجوا عرجنا، ولأن من حقهم أن يقوموا لحث الجمهور على اقتناص تلك العلوم...) (الأعمال الكاملة ?ج1ص 15 ص22 ).
ومن هذا المنظور الذي يثق بأن المدنية والتطور والتقدم قد حطوا رحالهم في الغرب، سنجده يسارع فور ترجمة كتاب غيزو (التحفة الأدبية) لتقريظه، وتقريظ مترجمه الخواجا (حنين نعمة الله الخوري) فهو كتاب (لم يسبق سابق بمثاله، ولم ينسج ناسج على منواله، فإنه كتاب قد جمع فيه من نتائج السياسات ما تحار فيه أرباب الرياسات، حقيق بأن يسمى سبيل النجاة، ومادة الحياة...).
وفي هذا السياق يستحضر محمد عبده الشاب صورة الأمة التي (تنزلت إلى حضيض الانحطاط) وأثر ذلك على لغتها الشريفة التي كانت (متحلية متزينة بحلية الاصطلاحات العلمية، كاصطلاحات الطبيعيات والإلهيات والرياضيات والطب)، هذه اللغة أمست (للصغار والابتذال رهينة)، بينما راحت سائر الأمم تتقدم لتكتسب المزايا التي كانت لهذه الأمة، قبل تنزلها بحضيض الانحطاط، ومن ثم دخول أمرها (بعد التمام في النقصان) فتحلت ألسنة الأمم الأخرى بالعلوم والمعارف، وتطاولت بالفخار على لساننا، ولهذا فهو يشيد بأصحاب الهمة من أصحاب الغيرة والحمية الذين استحصلوا العلوم واللغات.
ولعل الفتى محمد عبده الطالب الأزهري المنفتح والمتفتح كان قد تناهى إليه البعض أو الكثير من التماعات الروح الوضعية لدى كونت ?رغم شدة الترسيمة (الهندسية البلورية) لفلسفة كونت الوضعية فإن الروح التمردي العصياني (اللهبي) لدى الإمام الشاب الذي تغلغل إلى نفسه من خلال قبس النور الذي انقذف إلى (جوانيته) من أن البحث في أسس المجتمع لا بد له من أن يتعارض مع النظام الاجتماعي القائم. هذا لا يعني أبدا أن آراء محمد عبده استندت إلى نظام فلسفة (كونت) الوضعية، لكنه ?فيما يبدو قد تأثر بهذه النزعة النقدية التطورية المسكونة بقانون التطور الحتمي للمجتمع الانساني باتجاه المرحلة العلمية، وعلى هذا كان ذلك المنهج التطوري الكونتي ببعده الراديكالي حافزا على التأكيد على تمجيد الرأي الشخصي والاعتقاد المطلق بالتفكير الفردي الحر في مواجهة النظام الاجتماعي القائم، حيث الأفكار النارية التي تسعى لإحراق العالم القديم المتشبعة بطهرانية المثل العليا الأخلاقية، كما رصدنا في النصوص السابقة التي كتبها محمد عبده الشاب، لا تتناقض (لهبيا) مع درس (البلور) الصارم والمتوازن للوضعانية (الكونتية) التي ستسهم أيضا في إغناء مرحلة النضوج والتأمل الاستراتيجي في مصائر المجتمع بعد إخفاق ثورة عرابي، ومن ثم قطعه النهائي مع الخيارات الانقلابية التي لا تراعي التدرج ودرجة استعداد المجتمع للتغيير، والتي كان من نتائجها احتلال الانكليز لمصر.
هذا الاحتلال الذي سيشكل معضلة اخلاقية لهذا الجيل المندفع نحو العالمية من خلال النظر إلى أوروبا كمثل أعلى، فمن هنا سيضطر لانتاج خطاب متوازن بين الاندفاع نحو المثل الغربية التي حكمت اندفاعات الشباب، وبين التحفظ والريبة تجاه أوروبا (الانكليز) كمحتل لبلاده، بعدما لمس أن التعامل معه غدا مدعاة للحذر من رقابة التيار القومي والتيار الأصولي الذي راح ينعى على الإمام علاقته المميزة بكرومر.
يمكن أن يشار في هذا السياق إلى أن الإمام المتشبع بقيم الثقافة الغربية الحديثة، كان يجد في علاقته بكرومر ما يشبع حاجته الشخصية لعلاقة اجتماعية مثقفة مع شخص يجد لديه مشتركا أكثر من بلاط الخديوي ذي القيم الاجتماعية والثقافية الشرقية التقليدية التي هي خليط من مزيج تركيجركسي.
وقد بلغت علاقة الصداقة ثقافيا حد المكاشفة الجوانية، إذ أن كرومر كان يعتقد أن الإمام من أتباع مذهب (اللاإدراية )، أي المذهب القائل بعجز العقل عن الوصول إلى الحقيقة، ولعل ما يبرر حكم كرومر أن الإمام أفاض في بعض الحوارات والنقاشات، عن بعض الأفكار التي سمحت لكرومر باستنتاجه، مثل قول الإمام في رسالة التوحيد (ليس بإمكاننا معرفة أي شيء عن الذات الإلهية، لأن عقلنا ولغتنا البشريين غير كافيين لاكتناه جوهر الاشياء) ص 6162 من رسالة التوحيد، وص 154 من كتاب حوراني.
بل وربما أوغل الاثنان (كرومر عبده) في الحوارات حد سقوط الحدود والحواجز الرسمية، إذ راحت تروى بعض الطرائف تشير إلى مدى تجرؤ الواحد على الآخر في أن يتمادى في أسئلته حد الانخراط في امتحان تسامح الآخر في مسائل ذات حساسية معتقدية، فتروى هذه الحكاية التي اختلف في روايتها وتأويها، إذ أن كرومر تساءل حول الآية القرآنية: (كتابه وسع كل شيء) و(كل شيء أحصيناه في إمام مبين)، سأل كرومر: كل شيء مذكور بالقرآن، فأجاب محمد عبده : نعم، كل شيء، فتساءل كرومر مداعبا: وحتى المستر كوك، مشيرا إلى خادمه: (وكان كوك واقفا أمامهما يقدم لهما الشاي ويضعها أمام محمد عبده)، فأجاب عبده : نعم وحتى مستر كوك...
وتلى أمامه آية: (وتركوك قائما)! هذه الرواية تشير إلى درجة التسامح والتساهل الذي ميز سلوك الامام تجاه المقدس (القرآني)، إذ رد على دعابة كرومر بدعابة مقابلة.
لكن يقال: أن الإمام ساق هذه الآية كشاهد على أن القرآن انطوى على الاكتشافات العلمية قبل اكتشافها، فأوًل كلمة (كوك) على انها إشارة إلى الفحم الحجري...!
ونحن نرجح الرواية الأولى لأنها الأكثر قربا إلى اتساع عقل الإمام وانفتاحه وتسامحه وتساهله، أكثر من الرواية الثانية التي تدل على تأوّل وليس تأويلا، وتعسف وليس اجتهادا، وهوما يتناقض مع منهجية محمد عبده العقلانية في تفسير القرآن، واعتماده مبدأ أن القرآن للهداية والتعبدوالموعظة وليس للتوثيق والتحقيق.
وقد تمثل هذا التيار في مصطفى كامل كممثل لخط عرابي، الذي رأى محمد عبده في أساليب عمله السياسية بأنها غير شرعية، وهي لن تؤدي إلى أية نتيجة مثلها مثل سياسة عرابي، وإذا أدت إلى نتائج فهي ستكون نتائج زائلة، كما هي حركة عرابي عندما لجأت إلى الخيار العسكري، وعلى هذا لم يكن محمد عبده لينظر بعين الاعجاب نحو الشاب الوطني (الشعبوي: استرضاء المزاج الشعبي العفوي) الصاعد مصطفى كامل، في حين أن مصطفى كامل ?حسب بلنت كان يأخذ على المفتي اهتمامه الزائد باكتساب النفوذ الر سمي.
abdulrazakeid@hotmail.com
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|