هذا غبار دمي! قاسم حول
|
في عمان وفي لقاء ثقافي أخذت مكاني مع بعض الأصحاب على طاولة مستديرة. كان إلى جانبي شاب بقميص وردي اللون وقد دفع تحت المنضدة المستديرة قطعة خشب طويلة حركها برجله كي يبعدها عني عندما أخذت مكاني. لم تكن تلك الخشبة سوى عكازة المشلولين. تأملني ثم أراد أن يسلم عليّ. أراد أن يسلم واقفاً. أدركت أنه يقاوم التعب لكي ينهض فمسكت بيده ومنعته من النهوض وسلمت عليه. أحسست كأنه ابني يراني بعد غياب. عندما مدّ يده ليسلم عليّ شاهدت قطرات دم تنساب من تحت أظفاره. مسك بورق منظف وبدأ يمسح الدم.
عرفت أنه الشاعر حيدر عبد الخضر. وصل عمان من مدينة الناصرية التأريخية في جنوب العراق عسى أن يجد علاجاً لمرض غريب أصابه، من تلك الأمراض التي زرعها البارود في وطني.
هل هي مصادفة أن الشاعر كتب قبل سنوات من إصابته بهذا المرض الغريب ديوان شعر لم ينشره حتى اللحظة عنوانه (هذا غبار دمي) وهو عنوان قصيدة في الديوان جاء فيها:
هذا صليبُ دمٍ
قد زُجَّ في صداً
ثمّ اِستفاق رؤىً
في موكب الأرق
هذا غبارُ دمي
أطلقتهُ عبثاً
فانسابَ أهزوجةً
في سُرّةِ
الورقِ...
كلمات الشاعر ليست محض مصادفة. هو استقراء مخزون في العقل الباطن، استقراء لحالة الرحيل ولما قبل الرحيل ولما بعد الرحيل. كل إنسان يعرف قدره على ما يبدو ولا يفصح عنه سوى الوعي والوضوح وعدم الخوف. عندما كان يحدثني ونحن نجلس سوية كان يبتسم وهو يتحدث عن الحالة الغريبة التي أصابته ولم يشخصها طبيب، يتحدث عنها وكأنه يتحدث لا عن خسارته للحياة، ولكن كمن يتحدث عن خسارة فريق كرة قدم أمام فريق منافس. ويبدو أنها كذلك، فهو ليس بحوزته مصروفات تساعده على مجابهة الفريق الثاني في لعبة الحياة، المشاهدون من الأصدقاء عبروا خط الجزاء في الملعب البلدي للمدينة وتقدموا نحو حيدر عبد الخضر حامي الهدف في لعبة المباراة بين المتبارين. صار حيدر يتكئ على هذا ويتكئ على ذاك عندما يتعب الأول ويتكئ على ثالث عندما يتعب الثاني. صعب عليه النهوض. لم أر وجوماً ولا حرجاً في حديثه. يعرف تماماً أنه في وضع صعب وكان مبتسماً وغير مفتعل الابتسامة.
صورة الوطن العراقي مرسومة على محياه. التعب.. المشي على العكازة.. الدم النازف من تحت الأظفار.. محاولة النهوض.. السفر.. المكوث.. الفرد والآخرون.. الذات المنهكة وسط اللصوص وبائعي الأوطان، رموزهم كلها كانت مدعوة إلى ذلك الحفل الذي حضره الشاعر بحثاً عن حل.. لا أحد.. كيف يمكن لمواطن أن يمشط شعره سادتي وسط دوي المدافع وانقطاع الكهرباء ورسائل التهديد بالهجرة؟! هكذا مشط حيدر عبد الخضر شعره وأصابعه تنزف دماً في حالة غريبة يصعب على الأطباء تشخيصها.
هذه مكابرة المواطن.. مكابرة الوطن.. ومكابرة الشاعر النقي.
من المسؤول عن كل هذا؟
من المسؤول عن كل الذي يحدث للعراقيين؟
وإلى متى؟
هذه هي صورة العراقي الذي زحف مشياً إلى عمان بحثاً عن محاولة شفاء لم تنجح، وليست صورة الشاعر العراقي الذي أتى داخل مجنزرة تسحق رقم أنليل ومسلة حمورابي.
من يعرف الشاعر حيدر عبد الخضر.. ومن يا ترى قرأ شعره المدهش وهو في أول صباه، وهو لا يملك ثمن طبع ديوان لا تتجاوز قيمة طباعته ثلثمائة دولار فقط؟
هل سيضيع ديوان الشاعر (هذا غبار دمي) وسط دوي المدافع والتفجيرات وينسى؟ وماذا يجني من شعره عندما لا يراه مطبوعاً وهو على قيد الحياة، ويوقع على صفحته الأولى كلمات الإهداء لمحبيه، للصحافة، للمبدعين.
لا فضائية تتحدث عنه ولا صحيفة تجري معه حديثاً ولا رئيس ولا وزير وربما ولا مواطن يعرف أن الشاعر حيدر عبد الخضر يحتضر في عمان ويتوسل أن ينقله أحد إلى وطنه وإلى مدينته في الناصرية ليموت هناك ويودع الأهل هناك.
هو لا يملك ثمن العودة للوطن غائباً عن الوعي وربما غائباً عن الحياة. لا أحد يعرف حال شاعر عراقي موهوب حقاً، لأن الوطن مشغول بالمصالحة الوطنية؟!
سينمائي عراقي مقيم في هولندا
sununu@wanadoo.nl
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|