من (عمايات) كيسان الهجيمي!! هل أنت وطني أو مسلم؟! أحمد بن علي آل مريع*
|
شاع في بعض الفترات شعور بأن الوطنية، أو حب الوطن يتنافي وبالضرورة مع مفاهيم الأممية والإنسانية. وبعضهم غالى فجعل الوطن والوطنية مفهوماً وعقيدة تضاد الدين وتتنافى معه.. وهذا في اعتقادي شعور لم يخضع للتحقيق، واعتقاد خاطئ وفهم فطير لأنه وضع للأشياء في غير مواضعها، وتأويل شاذ لا مستند له إلا التصور غير الصحيح.. وبالتالي الحكم الخاطئ. أنقل مروية تراثية تجلي هذا الخلل، فقد روت كتب الأدب أن كيسان الهجيمي النحوي، سأل أستاذه خلف الأحمر، فقال: علقمة بن عبدة جاهلي أو من بني ضبة؟! فقال خلف على الفور: يا مجنون صحح المسألة يصح الجواب...
وفي رواية أخرى لبعض كتب التراجم والأخبار، أن كيسان سأل شيخه خلف الأحمر؛ فقال: يا أبا محرز، المخبل كان شاعراً أو من بني ضبة؟ فقال: يا مجنون صحح المسألة حتى يصح الجواب. وكلا الروايتين تعانيان من الخلل ذاته، وهو اضطراب التصور الذي نجم عنه خلل ذهني معنوي في بناء السؤال، والخطر الأكبر لا يكمن في أن هذا السؤال ملغوم بالفساد فحسب، بل لأن خطر الفساد يتجاوزه إلى ما وراءه؛ حتى أن أية محاولة للإجابة عليه ستؤول إلى الخطأ ذاته، لأنها انسياق وراء مشكلة لا وجود لها..
إن كيسان قد توهم وجود تقابل بين كون علقمة جاهلياً وبين كونه منتسباً إلى بني ضبة، أو بين كون المخبَّل في الرواية الثانية شاعراً وبين كونه منتسباً إلى بني ضبة. هذا الفهم الذي صيَّر وصف النسب (الانتساب إلى بني ضبة) وصفاً يعارض أو يناقض وصف الشعرية أو وصف الجاهلية. على الرغم من أنه لا تناقض بينهما يستلزم منه عند إثبات أحدها رفع الآخر إلا في فهم مريض وهو فهم كيسان، إذ قد يكون علقمة هذا جاهلياً وقد يكون إسلامياً منتسباً إلى بني ضبة، وقد يكون جاهلياً أو إسلامياً غير منتسب إليها، وكذلك المخبل في الرواية الثانية قد يكون شاعراً أو قد لا يكون، ويكون منتسباً إلى بني ضبة وقد لا يكون منتسباً إليهم. لأن الانتساب إلى وصف زمني أو ديني (جاهلي إسلامي) أو وصفٍ فني أو أدبي (شاعر ? غير شاعر) لا يتنافى مع صفة الانتساب إلى بني ضبة أو غيرها... وقد أدرك خلف بفطنته خطأ تلميذه فلم يتورط معه في الإجابة على تساؤله الغبي، وطالبه بالعودة إلى رشده وإعمال عقله وتصحيح السؤال ليصح الجواب!!
والأمر قريب من هذا بل هو عين ما نحن بصدده وإن اختلفت الشواهد: فالذي يجعل من الوطنية مقابلاً للأممية أو الإنسانية أو يجعل من الوطنية مقابلاً للإسلام غير بعيد عن ابن كيسان. وابن كيسان وصف في التراث بأنه رجل أعمى الله قلبه، ورووا عنه أخباراً تؤكد هذه الصفة. وعمى القلب مصيبة لا دواء لها لأنه خلل في البصيرة التي إليها منتهى التصورات.... وسوف نجني جناية كيسان ذاتها لو حاولنا صياغة مثل هذا التساؤل: هل أنت وطني أو مسلم؟! هل أنت وطني أو أممي؟ هل أنت وطني أو إنساني؟! لأن أية إجابة لن تكون صحيحة ما لم نحرر السؤال من علته المنطقية. وكل محاولة للإجابة عليه ستقع في الخطأ ذاته؛ إلا أن نقول للسائل كما قال خلف: يا مجنون صحح السؤال ليصح الجواب.
إني أحب نفسي، وأحب أبنائي، وأحب أبي، وأحب أمي، وأحب أعمامي، وأخوالي، وعائلتي، وعشيرتي، وقبيلتي، ومجتمعي، وبلدتي، ووطني، وأمتي، وأحب الجنس البشري وآنس به وإليه. وإن إيماني بمحمد صلى الله عليه وسلم نبيّاً ورسولاً لا ينافي إيماني بالرسل من قبله، وأعلم أنَّ رسالته إلى الجن كما هي رسالته إلى الإنس، وإيماني بالقرآن لا ينافي إيماني بسائر الكتب السماوية، كما إن طاعة والديَّ لا تنافي طاعة ربي! ونحن نقول من لم يشكر الناس لم يشكر الله، ونحن نقرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59)، دون أية تقابلات مزعجة أو مشتتة... لأنه لا يلزم من أي منها إذا كيّفت بالقدر المقبول شرعاً وعقلاً أي تناقض مع الآخر.. وفقه الأولويات واضح في قوله صلى الله عليه وسلم في النفقة: (ابدأ بنفسك ثم من تعول)، وفي سنن النسائي (جزء 7 صفحة 304 حديث رقم 4652) أن رجلاً من بني عذرة أعتق عبداً عن دبر، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألك مال غيره؟ قال: لا، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم من يشتريه مني فاشتراه نعيم بن عبد الله العدوي بثمانمائة درهم، فجاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفعها إليه، ثم قال: ابدأ بنفسك فتصدق عليها؛ فإن فضل شيء فلأهلك؛ فإن فضل من أهلك شيء فلذى قرابتك؛ فإن فضل من ذي قرابتك شيء، فهكذا وهكذا وهكذا: يقول بين يديك وعن يمينك وعن شمالك. ومثله ما حكاه الله تعالى في كتابه من دعوة نبيه ورسوله نوح عليه السلام، إذ قال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} (نوح: 28)، بدأ بنفسه ثم والديه ثم أقاربه ومعارفه الذين يزورونه في بيته أو المؤمنين به من أهل ملته الذين يصلون معه في مسجده، ثم للمؤمنين والمؤمنات من أمته وممن يأتي من الأمم إلى يوم الدين. فهل لأحد أن يقول: إن ذكر النفس ينفي الوالدين، أو أن ذكر الوالدين ينفي المعارف والقربى، أو أن ذكر من دخل مصلاه من أمته ينفي الدعاء للمؤمنين من الأمم الأخرى، أو أن ذكر المؤمنين ينفي المؤمنات؟!... إن حب الوطن شيء فطري، ولكنه قد يصبح من العقيدة إذا كان هذا الوطن مهبط الوحي، ومأرز الإسلام، ومستقر النبي الكريم عليه الصلاة والسلام في حياته، ومستودع جسده الشريف بعد مماته، ومستقر أصحابه ومأوى المؤمنين من بعده، وفيه أذن الله بعبادته على شريعة الإسلام، فتليت أول الآيات، وأقيمت أوائل الصلوات، ورفع الأذان، وفيه أقدس بقعتين على وجه المعمورة، وعلى ثراه الطاهر قامت في العصر الحديث دعوة التجديد السلفية، وانتشر العلم، وتم بناء الكيان السعودي، الذي ألّف بفضل الله ثم بتضحيات الملك عبد العزيز وأبنائه ورجاله بين القلوب المتنافرة، والعصبيات المتناحرة، وجمع بين شتات الأهواء بالحكمة: حزماً وسياسةً، وبأسباب ذلك جميعاً حُكِّمت الشريعة، ورفع شعار التوحيد، وأمر بالمعروف ونُهي عن المنكر، وحفظت الحدود، ونَعِم الناس بالأمن والأمان، وأصابوا من رغد العيش وبلهنية الحياة ما يغبطهم عليها الشرق والغرب..
* باحث وأكاديمي سعودي
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|