مساقات (مفهوم النصّ) لدى نصر حامد أبي زيد «2» د. عبد الله الفَيْفي
|
1
ذكرنا في المساق السابق أنه إذا انتقل النظر من التعامل مع المصادر والمراجع إلى فهم الدكتور نصر حامد أبي زيد للنصوص في كتابه (مفهوم النصّ: دراسة في علوم القرآن)، (بيروت الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2005)، وجدنا أنه مثلاً، مع عدم توثيق معظم شواهده الشعرية، يخطئ في نقلها أحيانًا، ولا يخلو في استخراج دلالاتها من تكلّف، أحيانًا أخرى. وضربنا على ذلك مثالاً من وقوفه على بيت لبيد بن ربيعة:
فَمَدافِعُ الرَيّانِ عُرِّيَ رَسمُها
خَلَقاً كَما ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلامُها
فقد ضبط (خلَقًا) بتسكين اللام. ثم انطلق قائلاً:
إذا كان تضمّن الحجارة للكتابة لا يُخفيها، والأحرى القول إنه يُبرزها، فإن رؤية الشاعر للكتابة المتضمّنة في الحجارة رؤية لنقوش وأشكال (عارية) عن الدلالة بالنسبة له... وبهذا المعنى جاء المَثَل: (وحي في حجر) لمن يكتم سرّه... ولا شكّ أن هذا المثل كان دالاًّ في ثقافة شفاهية تمثل الكتابة فيها نصًّا غامضًا مستغلق الدلالة... أن هذا المَثَل يشبه إلى حد كبير ما نقوله في أمثالنا العاميّة من أن (السرّ في بير)، وليس المقصود من ذلك أنه في مكان يستحيل الوصول إليه، بل المقصود أنه مودع في مكان يستحيل على غير من أودعه أن يبحث عنه فيه. وتتعقّد الدلالة بارتباط (البير) في الخيال الشعبي بعالم الأشباح والعفاريت والأرواح الشريرة بشكل عام. أن الدلالة اللغوية للمَثَل لا تنفصل عن النظام الثقافي بأعرافه وتقاليده ومعتقداته.
حقًّا إن الدلالة اللغوية لا تنفصل عن النظام الثقافيّ، بأعرافه وتقاليده ومعتقداته، إلا أن تفسير المؤلّف لبيت لبيد يبدو محض تكلّف، أراد به الاستدلال على أن الكتابة كانت سريّة ومجهولة الدلالة لدى العرب، ولذلك سُمّيت وَحْيًا. وما كان أغناه بأدلة أخرى عن هذا الاستدلال التعسّفيّ! ذلك أن خفاء الكتابة على الحجارة الذي أومأ إليه لبيدٌ هو خفاء حسّيّ؛ لأن الرسم قد (عفي) عليه الزمن، و(تأبّدَ) قِدَمًا، و(عُرّي)، حتى صار (خَلَقًا)، باليًا، ومطابق الشبه لآثار الديار التي وصفها:
عَفَتِ الدِيارُ مَحَلُّها فَمُقامُها
بِمَنىً تَأَبَّدَ غَولُها فَرِجامُها
فَمَدافِعُ الرَيّانِ عُرِّيَ رَسمُها
خَلَقاً كَما ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلامُها
وليس في النصّ ما يشير إلى أن خفاءه خفاء دلاليّ أو غموض قرائيّ. ولقد بقي الشعراء يستعملون هذه الصورة البصَريّة النمطيّة، سواء منهم من كان في الجاهلية، أو من حاكَى أنماطهم التعبيريّة بعد الإسلام، ومن كان منهم أُمّيًّا أو كان يقرأ ويكتب. ألم يقل عديّ بن زيد العبادي، على سبيل المثال:
لَمِنَ الدارُ تَعَفَّت بِخِيم
أَصبَحَت غَيَّرَها طولُ القِدَم
ما تَبينُ العَينُ مِن آياتِها
غَيرَ نُؤيٍ مِثلِ خَطٍّ بِالقَلَم
وهو حتمًا لا يشير إلى خفاء دلالة الخطّ بالقلم؛ لأن عدي بن زيد العبادي التميمي، ( 36 ق. هـ = 587م)، لم يكن يجيد العربية قراءة وكتابة فحسب، بل كان يجيد الفارسيّة أيضًا. فهو أوّل من كَتَبَ بالعربية كما قيل وكان ترجماناً في ديوان كسرى، بين كسرى والعرب.
ومن هنا فصورة لبيد لا تعدو نمطًا تصويريًّا مألوفًا في الشعر القديم، لا يَحتمل ما تمحّله أبو زيد حولها من دلالةٍ على غموض الكتابة لدى أُمّيّي العرب.. هذا أن سُلّم أصلاً بذلك التصوّر الدارج عن أُمّيّة العرب المُطْبِقَة قبل الإسلام.
وكذا القول في المَثَل: (وحيٌ في حجر)، فما هو إلا إشارة إلى صعوبة قراءة النقش، وهو أمرٌ معروف اليومَ لدى قارئي أوابد النقوش ومتتبعي آثارها، لا لغموض دلالتها اللغويّة، أو لأُمّيّة الواقف على تلك الكتابات، بالضرورة.
أمّا المثل العامي (سرّك في بير)، فإشارة إلى عمق إخفاء السرّ لدى المتكتّم عليه وعدم إظهاره للآخرين، فهو لديه كخاتم أُلقي في قعر بئر. وما جاوز هذه الدلالة ليس سوى إمعان في التحذلق.
تلك علامات على طريق تحليل نصر أبي زيد للنصوص واستقرائه إيّاها.
2
فإذا تجاوزنا تلك الملحوظات القرائية إلى أطروحة كتاب (مفهوم النص) إجمالاً، تبدّى أنها في ربطها النصّ بالواقع تُغفل طبيعة النصّ نفسه ووظيفته؛ من حيث هي أطروحة تُحاكمه إلى واقعية السياق الخارجي، وهو ما يؤدي إلى حصره في دائرة (النصّ العلميّ أو التاريخي)، لا النصّ الأدبيّ المُفارق.
وعليه، فإن القضية هنا لم تَعُد في الخلاف في النظر إلى النصّ ما إذا كان نصًّا إعجازيًّا مقدّسًا أو نصًّا يتساوق مع واقعه اللغوي والاجتماعي بمقدار ما تتمثّل فيما إذا كان نصًّا ذا طبيعة أدبية أو ذا طبيعة تاريخيّة. وتحليل أبي زيد يكشف عن أنه لا يُقيم وزنًا لهويّة النصّ، أو هو لا يعي تلك الهويّة وخصوصيتها أصلاً!
لقد يكون وراء الإلحاح على تأطير النصّ القرآني بوقائع محدّدة هواجس إيديولوجية ترمي إلى تعطيل امتدادات الدلالات إلى عصور أخرى وحالات يمكن أن يصدق عليها النصّ. ولئن فُهم هذا على المستوى الأيديولوجي سعيًا إلى تقليص أصولية إسلامية أو غلوّ فيها فإنها عملية على مستوى الإجراء النقدي تضحّي ب(مفهوم النصّ) وطبيعته الأدبية لتأخذ بمفهوم النصّ التاريخي.
ومن هذا المنطلق لا بدّ أن يتساءل القارئ: لماذا يتم حصر الدلالة في معنى بعينه، بما يستدعي تلازمًا بالضرورة بين الدالّ وذلك المعنى بين الآية وسبب نزول ما؟! أن طبيعة النصّ القرآني بأدبيتها تتخطّى طبيعة النصّ الإخباري، أو التقريري، أو التوجيهي المباشر.
ولأجل هذا لا ضرورة مثلاً لربط لفظ (تزكّى) في قوله تعالى:
{قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (1415) سورة الأعلى، بفرض الزكاة وزمن ذلك الفرض ولا بالمعنى اللغوي حصرًا دون المعنى الشرعي؛ إذ الآية تحتمل الوجهين: أن تكون بمعنى الزكاة وبمعنى التطهّر والنقاء والصلاح. إلا أن المؤلف قد خاض في هذا (ص92)، مستدلاًّ بالآية وتفسيرها على عدم تفرقة المفسرين بين الدلالة اللغوية والدلالة الشرعية؛ لأن الآية مكية، كما قال: (ولم يكن بمكّة عيدٌ ولا زكاة ولا صوم، وأجاب البغوي بأنه يجوز أن يكون النزول سابقًا على الحكم. والآية في الحقيقة لا علاقة لها بالزكاة بالمعنى الفقهي الشرعي، بل التزكّي هنا مقصودٌ معناه اللغوي...).
ونكمل هذه المداخلات في المساق المقبل، إن شاء الله.
aalfaify@hotmail.com
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|