مع مختارات فاروق شوشة عبدالله بن أحمد الشباط
|
الأستاذ فاروق شوشة من مواليد قرية (الشعراء) محافظة دمياط بمصر عام 1936م حصل على ليسانس كلية دار العلوم + دبلوم تربية وعلم نفس جامعة عين شمس عام 1957م التحق بالإذاعة عام 1958م مذيعا ومقدم برمج ثقافية وأدبية ناجحة على مدى فترة خدمته بالإذاعة التي تدرج في مناصبها حتى أحيل للمعاش عام 1997م وهو يشغل منصب رئيس الإذاعة، وانتخب رئيسا لاتحاد الكتاب بمصر في مارس 1999م.
يقرض الشعر منذ صباه الباكر وتمكن من الجمع في شعره بين القصيدة الكلاسيكية وقصيدة الشعر الحديث، صدرت له تسع مجموعات شعرية منها (إلى مسافرة.. في انتظار ما لا يجيء.. الدائرة المحكمة وغيرها). كما له سبعة كتب تحتوي على دراسات لغوية وأدبية ولا يزال يثرى الساحة الأدبية على مستوى الوطن العربي بأشعاره وبرامجه الثقافية في حماس منقطع النظير مدافعا عن اللغة العربية والمحافظة عليها.. قرأت له الكثير في الصحف السيارة والمجلات المتخصصة والكتب والمجموعات الشعرية والتقيت به مرات معدودة.. إلا أنني كلما التقيت بهذا الرجل أحسست بالقرب.. لأنه رغم ما له من شهرة وما يحظى به من تقدير إنسان بسيط في علاقاته مع الآخرين.. بسيط في تعامله مع من يعرفه ومن لا يعرفه. وأثناء تواجدي بالقاهرة وقع في يدي كتاب عبارة عن مجموعة شعرية عنوانها مختارات شعرية للأستاذ فاروق شوشة.
والكتاب كما هو واضح من عنوانه مختارات من أشعار الأديب الشاعر فاروق شوشة.. قدم لها الشاعر بأنها تمثل رحلة ثلاثين عاما من الشعر بدءا بالمجموعة الأولى (إلى مسافرة) وانتهاء بالمجموعة السادسة (لغة قدوم العاشقين) وهذا يعني أنها موضوعات مختارة من مجموعات سبق نشرها.
أما سر اختياره لهذه المجموعة فلأنها تمثل المراحل العمرية للشاعر بكل منعطفاتها وتخومها.. وبكل اهتزازته وتجاربه مدركا أن تجاورها في خيط منظوم من شأنه أن يعطي لهذه المرحلة معنى، ولهذا العمر ملامح وقسمات وللعذاب الشعري درجة اشتعال وتفجر.
يتحدث الشاعر في المقدمة عن هذه المختارات فيقول:
(خلال ثلاثين عاما تغيرت الصورة، وتبدلت أكثر من مرة وارتفع الحلم وسقط وتهشم.. وامتلأت نفوس كثيرة باليأس والإحباط وآخرون قتلهم التوقف ومزقتهم الهجرة في الداخل والخارج.. وبقي من بقي يصارع الموج ويقاوم القنوط ويداوي بالشعر مرارات الفشل والهزيمة).
ولما كان النيل يمثل الرخاء والنماء والخصوبة في مصر فإن الشاعر يقف على شاطئه واصفا ما حل به:
ألقى النيل عباءته فوق
البر الشرقي ونام
هذا الشيخ المحني الظهر
احدودب ثم تقوس عبر الأيام
وصاغ الوراقون
فنون الكذبة في إحكام
لكن النيل عندما دق الباب.. وجد الناس غير الناس والدنيا غير الدنيا. ولم تعد القاهرة هي القاهرة ولذلك يتساءل الشاعر:
هل سيصلي الجمعة في أزهرها؟
يمشي في الموسكي والعتبة
يعبر نحو القلعة
أو يتخايل عجبا في ظل الأهرام
هذه صورة النيل قبل أربعين عاما عندما كان النيل يمتد وسط القاهرة وبين الجناين والمتنزهات يشم الهواء الطلق.. فلا تخنقه سحب الدخان الداكن المنبعث من البشر وما يركبون ولا تلوثه فضلات ما يأكلون.. ولا أدري أي صورة قاتمة يمكن أن تخطها ريشة الشاعر اليوم عن النيل الذي يوشك على الاختناق؟
سوف نترك الشاعر يتخيل النيل الآن ونقفز معه إلى مرحلة عمرية أخرى وهو يتحدث عن شيء اسمه الحب.. وشيء آخر اسمه الحرية!
تبدأ الأشياء في حياتنا أصغر مما نتصور..
ثم تمتد وتكبر..
فإذا عيناك في الدنيا اتجاهات شمالي وجنوبي..
وإذا اللحظة فيما بيننا..
عمر من الأزمان يطوينا.. ولا ندري بأننا نتغير..
وأنا بين البدايات التي تصبح من بعيد ارتدادات..
أرانا.. قد تجاوزنا حديث القيد والقضبان..
والقهر وأحزان المدينة..
ولعل أحلى العواطف هي ما يعبر به الشاعر الفنان عن حبه لفلذة كبده:
يا أهل هذه المدينة المشدودة الأعناق
في قبضة اللقاء والزحام والفراق
الليل يورث لنا دروبه الفساح
والقمر الذي على شباكنا انحنى
مغردا تغريدة السنا
رنا.. رنا
فتشرق العيون بالأشواق
وعندما وجد الشاعر نفسه الرجل الوحيد مع أربعمائة امرأة في فندق واحد يصبح ويمسي على وجوههن في أحد المؤتمرات قال:
رب ألقيتني لواد ظليل
تتمنى وردة العشاق
ما الذي الآن أشتكي؟ رب نعمى
قتلتني وللعبير اختناق
قد يطاق الجمال فردا ولكن
كل هذا الجمال كيف يطاق؟
فماذا بعد هذه التهويمات الجمالية الرقيقة؟ فهل يتحول الدم العربي لها ماء لكنه أرخص من الماء إلا أن المساواة في الشكل والمعنى:
يقول شاعرنا شوشة:
أخيراً يقول الدم العربي..
تساويت والماء..
أصبحت.. لا طعم.. لا لون.. لا رائحة
يقول الدم العربي: أسيل..
فلا يتداعى ورائي النخيل.
فهل هذا زمن أصبح فيه الدم العربي رخيصا غير ذي موضوع إلى درجة أنه فقد الاهتمام.. ولم يعد أحد يتحسر عليه في هذا الزمن المشبع بالمهانة والنفاق والدجل؟
يتلفع الشاعر بصمته متشحا ليله يجتر همومه ويظل يحلم..
وينطلق الحلم
تزهو الفصول
وتغتسل الأرض
هذا ربيع الحقول
وهذا أوان العناق
ولفح إئتلاق
الزمان الجميل
إن هذه الإشارات لا تستطيع أن تعطي تصورا كافيا عن تلك المجموعة من الباقات الجميلة المطرزة بشعر فاروق شوشة التي أراد بها أن يعبر إلى آماد بعيدة من التاريخ المعاصر ليكون بذلك شاهد عصره في كل عقد من عقود هذا القرن الموشك على النهاية.
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|