لا خطاب تنوير.. بلا ديمقراطية
سهام القحطاني
|
(نعم لدينا أفكار تنويرية.. لكن ليس لدينا مشروع تنويري).
اختتمت جماعة حوار موسمها الثقافي الذي كان محوره (خطاب التنوير)، وقد تضمن قراءات مختلفة للخطاب التنويري في الأدب والنقد والتعليم، ولعلي أقف هنا.. أمام الاستفسارات التي عصفت في الجلسة النهائية للجماعة، ومنها هل توصلنا لمفهوم خاص بالتنوير؟ هل لدينا تنوير؟ هل هناك علاقة متكافئة بين تطور المجتمع في شكلانياته المختلفة والتنوير؟
وأضيف أن.. (هل خطابنا الثقافي ذو حمولات تنويرية؟).. (هل مثقفنا تنويري)؟
لا شك أن عدم وضوح المفهوم ظل المعضلة الأكثر جدلاً منذ أول جلسة للجماعة وحتى آخرها، وخرج جلّنا وهو لا يزال يحلم بالإجابة على سؤال (ما هو التنوير)؟
أنا لا أنكر أن عدم وجود تعريف دقيق لمفاهيم عديدة يُعتبر من المشاكل المفصلية في خطابنا الثقافي، فالتنوير والحداثة والتنمية، العصرنة والعولمة، مفاهيم ما زلنا ندور معها.. يركض بعضنا وراء بعض.. لا شك أن استمرار الحوارات الفكرية والمفهومية في تفكيك معاني المفهوم، يعدّ أمراً حيوياً في إثراء الخطابات الثقافية وحواراتها، لكن من المهم أن يكون نهاية المطاف هناك اجتماع واتفاق في الرأي بين الخاصة والنخب بمختلف توجهاتها وسلطاتها في المجتمع حول المفاهيم الأساسية والأولية، من أجل إيجاد قاعدة من الثبات والاستقرار في النظرية والعمل.. وغياب هذا الاتفاق والتقعيد الثابت هو ما أشعل حرب المفاهيم بين معسكري الحداثيين والتقليديين.
في القرآن الكريم ارتبط النور بالإيمان، قوله تعالى {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء}(النور 35) كما ربط النور بالعلم أي القرآن {قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ}(المائدة 15)، {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ}(الحج 22)، {الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}(سورة إبراهيم 1)، إذ ان القرآن عندما أُنزل لم يحتو على الدين فقط بل كان دستوراً شاملاً يمنهج الرؤية المستقبلية الجديدة للمجتمع المسلم الجديد القادم من مجتمع الكفر، فاتحاً طريق التطور لحياة الإنسان يدفعه نحو التخلص من كل العوائق والموانع التي تقف في طريقه، في سبيل الوصول إلى غيابات أفضل، متجاوزاً ما ألفه واعتاد عليه، فكان القرآن الثورة الأولى ضد الفكر الجاهلي، الثورة التي تبلورت عبر خطاب تنويري بدأ بتغير الثابت عقيدة المرء، فقلبه، فعقله، أي طرائق تفكيره للأمور، ثم تغير المتحرك، خصائصه الإنسانية (السلوكات، الدوافع، اللغة) منتجاً غاية المرء السوية من الحياة، الاستخلاف في الأرض (الخير، العلم، الحرية، الإصلاح، والصلاح، العدالة، والسعادة)، فالتحولات التي أحدثها الإسلام في الفرد والمجتمع والدولة والعلاقات المحلية والدولية كانت علاقات مثالية.. وهكذا نجد أن مفهوم التنوير في القرآن الكريم قام على (مساعدة الفرد على رؤية المستقبل وكيفية المساهمة في صناعته، وتنميته).
فالذات التي تتجلى في المنهج التنويري للقرآن هي ذات، (مجدداً بصفتها فاعلية (روحية) تتدخل في الطبيعة وتحوّلها من مواقعها المستقلة تماماً، كما تصنع التاريخ وتحول المجتمع من منطلقاتها المتعالية)، وهكذا فالإسلام يربط تنويرية الفرد ذاته ووعيه بالفعل والعمل الذي يثاب عليه ويحاسب ويعاقب، وهذا لا يتم إلا عبر المعرفة أو العلم، أي أن الأولوية في المعرفة هي للفعل الفردي والاجتماعي (فالمقصود بالفعل والعمل هنا صيرورات مادية حقيقية تتحرك وتحرك تتأثر وتؤثر).
سبق وأن عرفت التنوير بأنه (قدرة الخطاب الثقافي على تحدي سلطة المعايير، وإنتاج وعي، وتكوين موقف إيجابي ثم التغيير والتغير) وهذا يعني أن الخطاب الثقافي التنويري، يعلمنا كيف نفكر بعقلانية، كيف نمارس الديمقراطية، كيف نصنع الموقف الإيجابي التنموي، واستناداً إلى التعريف والناتج، تتشخص الإشكالية في الخطاب الثقافي ذاته، هل هو تنويري، أي هل يتضمّن تحدياً لسلطة المعايير بتفكيك أبنيتها وإعادة صياغتها في ضوء أسئلة المستجدة، هل يهدف إلى إنتاج وعي، هل هو مساهم في تكوين موقف، وأخيراً هل هو محرض على التغيير والتغير، تلكم كما أظن أهم دلالات الخطاب التنويري، والخطاب يعني في اللسانيات، كل تلفظ يفترض متحدثاً وسامعاً للطرف الأول بنية التأثير في الطرف الثاني، بشكل من الأشكال، وأي خطاب يخلو من التأثير، أو لا يهدف إلى التأثير هو ليس بخطاب، بل مجموعة نصوص، وتتصاعد قيمة الأثر كلما استطاعت أن تحرض متلقيها على التغيير أو التعديل، أو التفكير برؤية مختلفة، رؤية كوجيتويّة تحلل العلاقة بين الذات والفكر والحقيقة، ضمن الإمكان لبنائية رؤية مغايرة للتفكير المتواجد والمتوارث والفعل المتوافر والمتكرر، وهو ما يولّد طاقة التغيير والتغير، والرؤية الكوجيتويّة التي أحسب أنها أهم منتوج الخطاب التنويري لن تتوافر إلا ضمن مثلث، الديمقراطية والعلم والعقلانية، وغياب أحدهم يعني فشل أهداف الخطاب التنويري.
إن لفظة (التنوير) وما تحتويه من مضمون هي استيراد من قبل الآخر، وهذا ما يجعل الآخر متهماً لدينا بالمؤامرة، ويجعل المتبني لها متهماً بالتواطؤ مع الآخر، ولعل هذا التوجس الذي نتعامل به مع الملفوظات المستوردة، هو أهم مسوغ لرفض الخطاب النسقي الممثل للرؤية والضابط للسلوك المتعارف في المجتمع والمتصل بالماضي، لمصطلحات مثل التنوير والحداثة والعصرنة والعولمة ومنتوجاتها، وهذا ما جعل الخطاب التنويري بمترتباته البعدية والقبلية مرفوضاً من قبل الخطاب النسقي الضابط لمراكز الأنظمة الاجتماعية بما فيها النظام الثقافي، بل ومحارب له، لأنه كما يتوهم يمثل الآخر ويسعى إلى استلاب الأنا لضمها للآخر، ولعلي لا ألقي باللائمة فوق عاتق الخطاب النسقي، بل ولحامل الملفوظ أو مستورده نصيب من الإثم، فمكونات وعي المجتمعات مشتركة، وهذا أمر بدهي، وهي عرضة للتغيير والتّحول دائماً، إذ تحل ظواهر جديدة محل الظواهر القديمة في نظام حياة الإنسان، فالعالم يحمل في داخله تضاداً، وبالتبعية تكون الحركة والتّحول صفة ذاتية ومستمرة للعالم.. وهكذا فإن مبدأ التغيير سنة ثابتة وغير متغيرة.. والأمر البدهي الآخر أن المجتمعات تتفاوت في طبيعة تقبل التغيير والتغير، كما تتفاوت في طاقات واستجابات فعل التغيير والتغير.. ومسوغ ذلك التفاوت يرجع إلى متانة سلطة الخطاب النسقي وسلطاته الإشرافية والتوجيهية، المسيطرة على حراك الخطاب الثقافي، وكلما ازدادت متانة سلطة الخطاب النسقي، ازداد ضعف أثر الخطاب التنويري في تفكيك أبنيته والتحاور مع صياغاته المختلفة وإعادة تكوينها، لأن حامل الملفوظ المستورد يعجز عادة على صياغة الملفوظ بصياغة محلية مجتمعية بيئوية بحيث تتسلل للخطاب النسقي فلا يشعر معها بالغربة أو الخوف أو الارتياب منها، كما أن حامل الملفوظ المستورد عادة ما يخفق في تأمين سلامة مشروعه التنويري من خلال تقديمه للخطاب النسقي على أنه منافس له ومهدد لأمنه واستقراره، مع أنه على الاعتبار، هما أقصد الخطاب النسقي والتنويري مساهمان متوازيان في تطور الإنسان والمجتمع وغياب هذا المنطق، يفشل أي فكرة تنويرية.
وهكذا يقع الخطاب التنويري في أزمة آليات التقديم والإنشاء، كيف يقدم خطاباً تنويرياً محمياً من رفض الخطاب النسقي له، ومحاربته.
لا شك أن تحقيق الغاية من الخطاب التنويري هو (التغير الفكري) أي تغير وعي الفرد، والتغير عملية شائكة، لأنها تحفر داخل وعي المتلقي، المتلقي المحصن بدروع الخطاب النسقي المتينة، واختراقها لا يمكن بمنطق الهجوم أو الصدمة، كما فعل العواد والغذامي، بل بمنطق السلم والمفاوضات، لذلك أنا أؤمن أن أي فكر يؤدي إلى صراع ليس تنويرياً، أقول (صراعاً) ولا أقصد بالصراع ها هنا (الاختلاف والخلاف)، لأن الاختلاف والخلاف لزمة حتمية أثناء انتقال السلطات الثقافية وتبادل الأدوار.. وهذا هو الفرق بين التنوير والحداثة، فالحداثة ترتبط (بالانزياح المتسارع في المعارف وأنماط الإنتاج والعلاقات على نحو يستتبع صراعاً مع المعتقدات ومع القيم التي تفرزها أنماط الإنتاج والعلاقات السائدة).. وهناك تواثق بين الحداثة والتطور من خلال المعرفات الماركسية، أي ارتباط التغير بأنماط إنتاجه وعلاقاته بحيث يتبدى العلاقة الجدلية بين المعرفة والبنية التحتية.
والوعي في الحداثة لا يستسلم لليقين والذات العارفة لكل شيء، وإنما يستبدل (بالمطلق النسبي، وباليقين الشك)، ويشترك التنوير مع الحداثة في إنتاج الذات والوعي الفاعلين، لكنهما يختلفان في طريقة تفعيل الفاعلية.. والتنوير أكثر شمولية جغرافياً، في حين أن الحداثة ترتبط بالتحديث، فتمتد رقعتها ما بين المدينة الصناعية أو المدينة (الكوزموبوليتية).
في حين أن التنوير، هو إنتاج التغيير والتغير عبر معايير تغاير الماضي ولا تنفيه أو تلغيه، وبذلك لا يسعى التنوير إلى تهديم الذات أو الهوية الثقافية للفرد، بل تعديلها لتتناسب مع التعامل الإيجابي مع معطيات التمدن البشري وسنة التغير الكوني، وهذا يلزم الخطاب التنويري أن يسعى إلى توفير محرك (الإصلاح) و(الديمقراطية) لشرعنته وحمايته.. وخارج هذا الإطار، ستظل الأفكار التنويرية ضرباً من العبث والهذيان.
والجدير بالذكر في هذا المقام، القول، إن مهمة المفكرين والمثقفين عادة ما تتباين مع ما يفكر به المسؤولون عن إدارة المجتمعات، وهذه إشكالية كبرى تعيق تدشين المشروع التنويري، فالإصلاح الذي هو من أهم أهداف الخطاب التنويري لا يتحقق إلا إذا أصبح القرار السياسي والنشاط السياسي نابعين للفكر والثقافة، وليسا نطاقاً مفروضاً على الأفكار.
وهذا يجعلنا نضع أصغر أصابعنا فوق السؤال، لماذا فشلت الأفكار التنويرية في التحول إلى مشروع تنويري؟
إن الفكرة أو مجموعة الأفكار والتي تمثل تراكم علاقات بين أنا المعطى الثقافي للمثقف ونحن المعطى الثقافي لجماعة المجتمع والمنتجة من قبل النص الثقافي، خلت من دافعية تحريك المتلقي للخروج من مربع رقعة الشطرنج! لأن محتواها مفرّغ من إشكالية, أو رؤية تعيد بناء الحالة المتلبسة بالتمثيل، وهنا أهم موصفات التنوير، تفكيك البنية وإعادة صياغتها وفق منطق بيار بورديو (بنية تنبني بقدر ما تبني).
إن المثقف لدينا هو مثقف نخبوي، والنخبوية مغذٍ غير تنويري، وإن كان يحاول أن يكون تنويرياً، ولكن كيف دون أن يتبنى مشروعاً تنويرياً، باستثناء العواد والغذامي، اللذين فشلا في ذلك، وما عداهما، يمثّلون قول السيد (علي حرب): (المثقف فقد مصداقيته وفاعليته وبات أعجز من أن يقوم بتنوير الناس وتثقيفهم، بل هو الذي أصبح يحتاج إلى أن يتنور ويعيد تثقيف نفسه، بنقد دوره وتفكيك خطابه عن العقل والاستنارة والتحرر).. أقول إننا لا نملك أيها السادة (خطاباً تنويرياً) أو هكذا أزعم، وإن كانت هناك أفكار تنويرية تحشر هنا وهناك، لأن أي خطاب تنويري لا بد أن يتجذر داخل تربة النسق من خلال تفكيك (بنية الخطاب المحتوي على عدد من الأبعاد والخلفيات التي تعتمدها الرؤية المشكّلة للنسق المضاد).
وهكذا فإن الخطاب التنويري لا بد أن يقابل الخطاب النسقي، وجهاً لوجه بنية التقابل تلك، بل قل تفعيل التصادم أحياناً، وأقصد بالتصادم تفكيك الخطاب النسقي وإعادة ترتيبه، لا هدمه، وهذا أمر مهم يجب أن يدركه الخطاب التنويري، لأن المسألة بلا شك تخرج عن تكوين رسالة عشوائية مفتقدة الوعي والبصيرة حتى لا تكون أشبه بمقولة هلال الصابئ (أباطيل ننمقها وأكاذيب نلفقها).
خذ كتباً طرحت خلال موسم جماعة حوار في هذا المجال، مثل حكاية الحداثة وثقافة الصحراء والحداثة في ميزان الإسلام، والكتب التي سارت على منهاجها أي لملمة أطراف التجربة الأدبية التجديدية الفاشلة أو المفككة أوالمتصارعة، دون أن يفتح من خلالها أسئلة أخرى لتحويل اللا معقول إلى مفاهيم منتجة لتجارب اجتماعية تغير وعي المتلقي وتحرضه على تفعيل التغير، وهذه ضمن منتوجات أي خطاب تنويري، إضافة إلى أنها كتب وضعت وسط الدائرة على أنها تقدم مشروعاً تنويرياً، والحقيقة أنها ما هي سوى كتب حاولت على استحياء الخروج من عنق زجاجة الخطاب النسقي، فقدت فاعلية الانسجام الداخلي مع ارتباطات النسق والتلقيح الثقافي، وعندما فشلت لعنت بعضها بعضاً والأمر مختلف كلية، (أباطيل ننمقها وأكاذيب نلفقها).
باختصار إن تحديد موقفنا النهائي من التنوير منوط بحسم موقفنا من الخطاب النسقي، الذي يفتعل الصراع مع كل فكر إصلاحي، بدعوة العداء للتراث، مكوّن شخصيته وهويته الثقافية والتاريخية، ضد التغير، لظواهر العصر المقتدرة، وهكذا تعيش كل فكرة إصلاحية وضعاً متأزماً، أزمة التهمت الكثير من الأفكار التنويرية.
إننا نحتاج في خطابنا التنويري إلى تبني نظرية (الانسجام الداخلي) (الالتفات نحو الداخل والقوي الداخلية.. ومن أجل الحصول على الانسجام الداخلي.. هناك أربعة عوامل مهمة، يعني أنه يجب أن نعمل تفكيرنا ونجد أنفسنا ونبدع وننظر في أربعة مجالات وأن نخطط ونتحرك في أربعة ميادين وفي آن و احد، الشرعية، فلسفة الحياة، النظام التربوي، الأساليب والاستفادات).
والحقيقة أن نظرية (الانسجام الداخلي) من النظريات الحيوية التي تسعى إلى تهيئة المجتمع إلى التفاعل الإيجابي مع المستجدات المعاصرة، والاستعداد الدائم لقبول التلقيح الثقافي الفاعل والواعي، وأعتقد أننا في هذه الفترة في حاجة للعمل من خلالها.
(وتحية للنادي الأدبي بجدة بقيادة شيخنا عبد الفتاح أبو مدين، ورئيس جماعة حوار الرجل الخلوق، والدكتور حسن النعمي وبقية أعضاء جماعة حوار، وأقول برافو على النجاح الباهر للجامعة في موسمها الثقافي وكل موسم وهم بخير).
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
| 
