هؤلاء مرُّوا على جسر التنهدات الشاعر.. أو الطائر المهاجر بقلم/علوي طه الصافي
|
من أرض قامت عليها حضارات متعددة.. ومتنوعة.. ومرت عليها شعوب منذ العصور الحجرية.. يعود عمر بعض الحضارات إلى مئة ألف سنة.. بدأت بصفتها (إرهاصات) أولية لحاجات الإنسان القديم.. وتطوَّرت مع مرور الزمن حتى استطاع إنسانها معرفة (القراءة والكتابة) متنقِّلاً من مرحلة (الرواية الشفهية).. إلى مرحلة (التدوين) حيث بدأ يسجِّل تاريخه.. ومعطيات الحضارات التي تركت آثارها.. ومعالمها.. وكنوزها، على خارطة وجهه بقسماته العربية. حضارات (السلالة السومرية الأولى).. و(الأكادية).. و(الكوتية).. و(السومرية) و(البابلية القديمة)..و (سلالة بابل الأولى).. و(مملكة الكشيون).. و(الآشورية) و(الكلدانية).. و(الفارسية الأخمينية).. و(السلوقية).. و (الفرثونية الآرية).. كل هذه الحضارات قامت على هذه الأرض قبل الميلاد).. أما بعد الميلاد فقامت حضارات (الساسانيين).. وأخيراً, وليس آخراً حضارة (مسك الختام) الشاملة المتكاملة، وهي (الحضارة الإسلامية العربية). ويجري في شرايين، وأوردة هذه الأرض المعطاء نهران خالدان يحكيان قصة شعب يعد من أقدم شعوب العالم التي عرفت الحضارات.. وحكاية أرض غنية بشعبها.. وثرواتها الطبيعية.. وغير الطبيعية. نهران شهدا ميلاد أول تشريعات وقوانين وضعية.. عرفها العالم بتشريعات الحاكم الذي سنها (حمورابي)!! أرض، ونهران شهدوا ميلاد ثلاثة من أنبياء الله سبحانه وتعالى منهم (سيدنا إبراهيم) أبو الأنبياء عليه السلام.. وسيدنا (يونس) عليه السلام.. فكأنَّ هذه الأرض قد تميزت بأنها (أرض الأنبياء).. و(أرض الحضارات).. وهذا التميز أعطاها (خصوصية) متفردة في المنطقة. هذه الأرض هي (العراق).. عراق الحضارات المتتالية الموغلة في القدم.. وعراق (العصر الذهبي) للحضارة والثقافة العربية الإسلامية.. عراق العلماء.. والأدباء.. والشعراء.. والنحاة.. واللغويين.. والبلاغيين.. والرواة.. والجوائز.. والملاحم.. والمعارك.. والجوامع.. والمساجد.. والزوايا.. والمذاهب.. والفرق.. والشعوبية.. والقصور التاريخية التي يقل مثيلها في العالم مثل القصر الذي بناه (سنمار).. ودهاقنة العمارة.. وكواكب النقش المعماري.. وأشهر الذين أسسوا قواعد الخط العربي بكل أشكاله، وأنواعه.. وأوائل الموسيقيين, والمغنين, والعازفين.. ومع الأسف الشديد أرض الجبابرة.. والطغاة.. والسفاحين.. ابتداءً بهولاكو.. مروراً بالحجاج.. وانتهاءً بصدام حسين سوَّد الله وجهَّه!! أما النهران (السيمفونيتان) العظيمتان اللتان تعزفان للنخيل.. والمقامات العراقية المتميزة.. فهما نهرا (دجلة).. و(الفرات). ولا ننسى (دار الحكمة).. و(المستنصرية).. وقبلهما مكتبة الملك البابلي (بانيبال) الذي امتلك أكبر وأهم مكتبة في التاريخ الإنساني بحيث تعد من أهم الآثار العالمية التي تضم شتى أنواع المعرفة مسجلة على لوحات قديمة منها قصة (الطوفان العظيم) وسيدنا (نوح) عليه السلام. ولأن كل تيارات التجديد في الشعر العربي هبَّت نسائمها من أرض العراق ابتداء من (أبي تمام), و(أبي نواس).. وانتهاء بنازك الملائكة.. والبياتي.. والسياب.. فإن هذا يعكس أن شعب العراق تواق إلى (الجديد).. شغوف إلى (التجديد).. وإنه بهذا يعكس (ظاهرة) تحتاج إلى الوقوف عندها دراسة، وتحليلاً.. بل وصل بهم الأمر أنهم اكتشفوا شكلاً جديداً أو نمطاً من الشعر اسمه (البند) بحيث يعد عراقياً لحمة، وسدى!! بعد كل هذه الخلفية التاريخية الحضارية التي أردنا منها الوصول لمعرفة شخصية موضوعنا.. ويهمنا هنا الفقرة الأخيرة المتعلقة بظاهرة (تجديد الشعر العربي) التي ارتبطت بالعراق، لأن صاحبنا من شعراء العراق الذين ربما لم يحققوا الشهرة التي حققها غيره.. لأنه حين بدأ يقول الشعر كان أمامه طريقان: إما أن يكون بوقاً يردد شعارات (حزب البعث).. ويكيل المديح للطاغية (صدام حسين).. فلم يسلك هذه الطريق لأنه رفض توظيف شعره في خضم أفراد (الجوقة) الذين عزفت موسيقى شعرهم على جثث أبناء وطنه.. كما أنه أدرك مبكراً أن (صدام حسين) لا يمثل إرادة العراقيين، وأنه بأعماله الإجرامية.. ووسائل التعذيب والقبور الفردية، والجماعية بكل أنواعها ليس إلا مجرد (هولاكو) جديد.. وطاغية يسعى بكل ما أوتي من قوة وبطش وجبروت إلى إذلال الشعب العراقي بكل طوائفه, وأطيافه، وإنسانيته!! أما الطريق الآخر، والأصعب، والأنكى، والأوجع، فهو أن يسبح ضد التيار.. وكان يعرف أن مقاومة تيار جارف يأتي على الأخضر واليابس فيها مغامرة يعلم الله نتائجها.. لكنها تسجل موقفاً وطنياً.. وترفع رأساً من الركوع, والتركيع.. وترضي نفساً أبية لا تشترى بالمال، أو بالمنصب.. والطريقان متناقضان.. ولا ثالث لهما.. ولا وسط بينهما.. وقد اختار الطريق الأصعب .. كان موقف صاحبنا الشاعر العراقي المبدع (يحيى السماوي) أكثر من صعب، وبخاصة إذا كانت له أسرة وزوجة قدرها أنها زوجة شاعر حر.. وأطفال أبرياء، زغب الحواصل. أعترف أنني لا أعرف التفاصيل التي قد أكون أكثر اشتياقاً لمعرفتها من اشتياق القارئ.. لكنني فوجئت في أحد الأيام حين كنتُ أعمل (نائباً لرئيس تحرير جريدة المدينة بجدة) بدخول رجل ناحل الجسم.. طويل القامة.. في وجهه شحوب.. وقفتُ كعادتي لتحيته، فعرَّفني باسمه بشكل سريع لم أستوعبه.. ثم ناولني كتاباً فإذا هو ديوان شعر.. سألته: هل هو ديوانك؟ أجاب: نعم.. طلبتُ منه الجلوس، لكنه اعتذر مودعاً.. لم أسأله عن جنسيته لأنه يرتدي بنطالاً، وقميصاً عاديين.. وشعر رأسه أقرب إلى (الصلع). وضعتُ الديوان في الدرج على أمل مطالعته في وقت آخر.. وما أكثر ما كان يصلني من كتب، ودواوين شعرية لا أحرص على قراءتها أثناء العمل.. فوقت العمل للعمل، وليس للقراءة الحرة!! مرت أيام كنتُ أقرأ له (رباعية) أسبوعية في جريدة (المدينة) يتناوبها كل يوم شاعر فأقرأها يومياً.. لكنني وجدتُ فيما يكتبه الشاعر (يحيى السماوي) مرارة التجربة.. وتجربة المرارة.. لا أدري لماذا أحسستُ أن هذا الشاعر يمر بتجربة قاسية.. تجربة فيها جراحات الغربة.. وضراوة الظلم.. ظلم الإنسان لأخيه الإنسان.. وان مشاعره يبدو عليها التمزق.. ويغلب عليها هموم لها ذاتيتها، وخصوصيتها.. وأنه يشعر بالغربة القسرية.. والتشرد الأكثر قسراً!! بعد فترة ذهبتُ للصديق الزميل (علوي بلفقيه) المسؤول عن نشر (الرباعيات) وكتابتها بخطه الجميل.. سألته عن الشاعر (يحيى السماوي)، فأخبرني أنه هو الذي أرسله إليَّ ليهديني ديوانه.. وعرفت منه أنه شاعر عراقي لاقى صنوفاً من التعذيب (الصدامي).. وأنواعاً من التنكيل (البعثي).. وأنه يعد في المملكة لاجئاً.. ولكم أن تتصوروا إحساسي بعدما سمعته من الصديق (بلفقيه) الذي يجلس معه، ويرتشف فنجالاً من الشاي، ويسلِّم (رباعياته).. ويرحل بأدب.. فطلبت منه أن يدعوني إذا حضر، لأن أسئلة كثيرة كان يضج بها عقلي. وجاء (يحيى السماوي) فاتصل بي الصديق (بلفقيه) ليشعرني بوجود الشاعر لديه، فذهبت إليه، وبعد التحية، والسلام بدأ الكلام.. وكان الشاعر من حين لآخر يحرك نصفه العلوي بطريقة غير عادية، كأنَّ مرضاً به يؤلمه فيدعوه للحركة.. في البداية لم أرغب في سؤاله دفعاً للإحراج.. لكن الفضول الإنساني لمعرفة ما وراء الحركة.. اضطررت لسؤاله بلطف، ففاجأني بمالا أتمناه لعدو، ولا أتمنى مشاهدته.. فقد كانت علامات التعذيب بالكهرباء بارزة أسفل سرته ثم قال لي وعيناه تدمعان: وما خفي كان أعظم!! سألته، وأنا أشاركه الدموع من الداخل حيث كنت أتفجر كالبراكين.. وفي كلمات صوتي يسكن الحزن: ومع ذلك ما تزال تقول الشعر؟ رد: وبكثافة..أنا أسهر مع الشعر.. وأصحو به.. وأهلوس به.. أصبح الشعر لسان حالي.. ولغتي التي لا أتقن غيرها!! سألته: أهو نوع من التنفيس النفسي.. أو التعويض الخارجي؟ رد باقتضاب: لا أدري.. ربما كان أحدهما.. وربما كان كلاهما.. وربما شيء, أو أشياء لا أدرك كننها!! حين أحسست أنني ربما أثرت فيه أحزاناً لا يود أن يقولها عن وضعه الأسري.. وكيف خرج من تحت السياط.. وتيارات الكهرباء.. وما خفي كان أعظم كما قال يا أمان الخائفين توقفت عن الأسئلة.. لكن اللقاءات فيما بعد استمرت لأنه أصبح يسكن هاجسي.. ويتوسد ذاكرتي.. أخذت ديوانه معي إلى المنزل.. وبعد قراءته احترت في الكتابة عنه، أوعن الديوان، ثم مسكت القلم تاركاً نفسي على سجيتها لكتابة ما تريد.. فكانت هذه الكلمة العفوية الصادقة التي نشرت لي يوم 28 صفر 1414هـ العدد (9585) من جريدة (المدينة) في زاويتي (يقول الناس): (يحيى السماوي.. شاعر يبكي ألماً.. وما أكثر ما يبكي.. فإذا كانت الحياة صعبة، فإن الأصعب أن يعيشها الإنسان سباحة في نهر من الدموع الساخنة!! وإذا كان الرجال لا تبكي إلا عند الملمات، والأحداث الكبيرة، فإن ما مرَّ به (يحيى السماوي) من أهوال، وتعذيب مادي، ونفسي يشيب لها الولدان، كان من الممكن أن تجعله من سكان القبور.. ولكن كما يقول الشاعر: ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء وشاعرنا (السماوي) إذا كان ما يزال يرى الشمس.. ويستنشق الهواء.. ويسير في الطرقات.. ويعايش الناس من خلال قلب يسكنه الحب.. هذا القلب الذي كان من الممكن له أن يتوقف عن الخفق إلى الأبد!! لكنه، استطاع بإيمانه أن ينتصر على العذاب، رغم معاشرته له بياضاً من نهار.. وسواداً من ليل!! والشعراء بل والأدباء والمفكرون أصبحوا معرضين لكل أنواع المهانة بمختلف الوسائل.. ولا أدري لماذا ينظر الحكام إلى هذه الفئة، نظرتهم إلى إنسان مجرم.. بل ومعتاد على الإجرام.. وله صحيفة سوابق؟! إن الفكر بكل معطياته هو ثروة الأمم التي لا تفنى بالتقادم.. كل شيء يفنى.. وتناله الزلازل والكوارث، إلا الفكر فإنه يبقى امتداداً.. نازفاً بالألم.. أو شادياً بالنغم.. ومستلاً سفيه في وجه الظلم، والاعتداء على الحقوق الإنسانية!! حين أتحدث عن الشاعر (السماوي)، إنما أتحدث عن (ظاهرة) قميئة تتمثل في بعثرة ثروة الأمم، ومواراتها غياهب النسيان (سجون التعذيب.. والقمع.. والقهر)!؟ قرأت أن (الزبيري) شاعر اليمن الوطني الكبير الذي قتل اغتيالاً في وطنه.. عندما نفي إلى (الباكستان)، كان يبيع المفاتيح القديمة ليقتات من مردودها.. وأي مردود؟! القصص كثيرة في حياة الشعراء, والمفكرين في الماضي، والحاضر.. ومن التزود الإشارة إلى بعضها.. لأن الإنسان إذا أراد أن يحصيها، فإن المسألة تتطلب منه نهراً من الدموع.. وآخر من النجيع.. وثالثاً.. ورابعاً!! قلبي مع كل من جعله الله شاعراً، أو مفكراً، أو أديباً، أو فناناً، حين تصدمه الحياة بحكومات (تترية).. أو (نازية).. أو (فاشية).. أو (نيرونية).. أو (صدامية).. أو (دول نائمة)!! أيها الشاعر (السماوي) قدرك أن تروي الأنهار التي بدأت تجف، بدموع شعرك النبيلة من أجل وطنك.. وأهلك.. وبيتك.. ومن أجل الفكر المعذَّب.. المقموع.. المقهور!! وقدر أصحاب رحلة الحرف، والكلمة هو الأسى المسكون بالحزن.. والألم.. والجراح.. وكما يقول شاعر تلك الأغنية (الحزاينية) المقهورة: يا عيون عطشانة عطشانة سهر!! يا قلوب تعبانة تعبانة سفر!!..) انتهت ويبدو أن كلمتي قد لاقت استحساناً من شاعرنا الكبير.. لأنني فوجئت به بعد فترة يزورني, وهو يحمل مخطوطة ديوان جديد له، طالباً مني إعداد مقدمة له، مما تصورت أن الصديق (بلفقيه) أعطاه صورة كبيرة عني!! قلت له صدقاً لا تشجيعاً، أو مواساة: أنت بشعرك أقرب إلى نفس القارئ المحلي الذي يعشق الشعر.. ويحن إليه (حنين النيب إلى فصالها) من أي مقدمة مهما كانت مكانة (المقدِّم) الأدبية قال لي بما أخجلني: رغم أنك لاتقول الشعر.. إلا أنك تمتلك حساً راقياً في فهم الشعر.. وهذا ما أكدته في كلمتك عني.. وهذا ليس غريباً عنك فشاعرنا (أحمد الصافي النجفي)، يعود بأصوله إلى أسرتك.. أما صفة (النجفي) فقد ألصقت به لأنه سكن مدينة (النجف).. أما جذور أسرته فترجع إلى (الحجاز) حتى أنه في آخر عمره.. وقبل وفاته طالب بحذف صفة (النجفي) من اسمه. والحقيقة أنه لم يضف جديداً إلى معلوماتي فقد قرأت دراسة عن هذا الشاعر كتبها الصديق (عبد العزيز الربيع) ونشرت في مجلة (اليمامة) الأسبوعية لا أذكر التاريخ أرجع أصله إلى (الحجاز). ولم أشأ أن أخيب رغبته.. فوعدته خيراً.. لكنني حين قرأت مخطوطة الديوان وجدت نفسي أمام شاعر آخر.. غير الشاعر الذي عرفته في الديوان السابق.. فقد اشعلني بحرائق الغربة.. وزعزع أحاسيسي بنوازع الشوق والحنين إلى نهري الحضارات (دجلة والفرات).. والمسيّب.. والرصافة.. ونخيل العراق.. كان ديوانه الجديد يشكِّل الجداول.. والأنهار.. والحرائق.. كان في هذا الديوان متجاوزاً ذاته الإنسانية، بذاته الشاعرية المتدفقة في سلاسة، وعذوبة يبعثان على السكر الحلال.. ووجدت أن أي مقدمة تكتب له سوف تقف موقف (السائح) المبهور تحت سفوح (الأهرامات الشامخة).. وأنها قد تفسد ذائقة القارئ (المتلقي).. فصرفت النظر عن المقدمة!! وبعد فترة حين جاءني من أجل المقدمة شرحت له وجهة نظري، ولكي لا يشعر بما لا أريد أن يشعر به.. وهو ضيف وطنه الثاني قلتُ له: إذا كنت مصراً على موقفك، فلك أن تأخذ كلمتي، وتجعلها مقدمة لأنني لم أتحدث فيها عن ديوان معين, بل تحدثت عن شعرك، ومأساتك باختصار.. وهي صالحة لأي ديوان لك.. شكرني مودعاً، وانسحب بطريقة حضارية.. وظللنا نلتقي من حين إلى آخر.. وعرفت أنه بروحه الاجتماعية بدأ يرتاد المنتديات الثقافية، والصالونات الأدبية بجدة.. وعلى رأسها الصالون الكبير بعطاءاته، ورواده من داخل المملكة وخارجها (اثنينية) أو صالون الأديب الكبير الوجيه الصديق الأستاذ عبد المقصود خوجة الذي طبع له أكثرها.. وبعد أشهر فاجأني بديوان جديد له بعنوان (من أغاني المشرد).. ولأنني قد ارتبطت به إنساناً وصديقاً وزميل حرف، وشاعراً مبدعاً يثيرني شعره..سارعت بقراءة الديوان.. وكتبت كلمة انطباعية تتناسب وزاويتي اليومية بجريدة (المدينة) العدد (9650) تاريخ 1414/5/5هـ قلت فيها: (يبدو أن المأساة في بعض الأحيان تفجِّر ذاكرة المبدع الفنان عطاءً له سماته، وخصوصيته.. عطاءً متوهجاً، يتطاول في شجاعة، وإنسانية في وجه المأساة القبيح ساخراً حيناً, وحريقاً حيناً آخر.. وعناداً بشرياً, وصموداً (إيمانياً) حيناً ثالثاً.. بحيث تتحول المأساة إلى مطية جبانة أمام قوة الإنسان التي منحها له الخالق، تزداد صلابة في مواجهة الأزمات, والأخطار, والقهر النفسي, والتعذيب الجسدي، والشعور بالغربة، والاغتراب.. ألم يقل شاعرنا (ابن النحَّاس المدني) في أجمل قصائده وأعذبها (إنما الغربة للأحرار ذبحُ)؟ تداعت هذه المعاني إلى ذهني بعد قراءة ديوان الشاعر العراقي المبدع (يحيى السماوي) الموسوم بعنوان (من أغاني المشرد)، وبعض الدواوين والكتب تعرف من عناوينها، كما تقول العرب. ومن إعجابي الكبير بقصيده، ونَفَسه الشعري، ومعجم مفرداته الشفَّافة، وموسيقاه الرقيقة وجدت أن الكتابة عن هذا الديوان لشاعر في قامة (السماوي) لا تفيه حقه.. لأنه يحتاج إلى مساحة أوسع!! ويحتاج قبل ذلك إلى شجاعة تتجاوز التردد، والتهيب لاقتحام عالمه الشعري الباهر.. لأن (الانبهار) يسبب قصوراً للدارس!! وهذا (الانبهار) الذي أعنيه يذكِّرني بقصة ذلك الشاعر الغربي كما يروى الذي أراد أن يقول قصيدة بعد مشاهدته لشلالات (نياجرا) فلم يزد على أن قال (نياجرا.. نياجرا) فكأنَّه بهذه الدهشة المنبهرة قال أقصر قصيدة في العالم؟! وشاعرنا (السماوي) ينطبق على مأساته التي مرَّ بها، وما يزال يمرُّ بها من خلال غربته في (أستراليا) ما قاله أيضاً الشاعر (ابن النحاس المدني) الحائية (كلما داويت جرحاً سال جرحُ). هذا النزيف الإنساني تحوَّل عند (السماوي) إلى عناقيد غضب.. وأغان شرَّدته ظروف بلاده ليعاني الغربة بشقيها النفسي، والجسماني.. وقصائده الشعرية تمنحه الحق في أن يكون من أبرز الشعراء المعاصرين.. إذا اهتم بشعره النقاد.. ونقلته وسائل الإعلام إلى شرائح القراء. (يحيى السماوي) شاعر أصيل.. وصوت متميز بأدواته الشعرية خصوصية، وحضوراً, ومعجماً, وموسيقى) انتهت. وحين عدتُ إلى الرياض انقطعت الصلة الشخصية واستمرت الصلة الأدبية من خلال قصائد شعره التي أقرأها له هنا، وهناك.. ثم عرفت أنه غادر المملكة ليستقر في (أستراليا).. وبعد سقوط الطاغية (صدام) عاد إلى بغداد ليواجه الاحتلال (الانجلو اميريكي) وما يستفز روحه الشاعرة فاضطر إلى العودة إلى (أستراليا) مرة أخرى وكان وفياً حيث اتصل بي هاتفياً مرتين من أستراليا. وأنهي هذه الحلقة بنقل أبيات من قصيدة قالها عند عودته الى بلاده، وكانت بعنوان (ما أحلى الوطن!!) قال في الإهداء (إلى وطني العراق لأقبِّل ناسه وأرضه):
ألقيتُ بين أحبَّتي مرساتي | فالآن تبدأ يا حياة حياتي | الآن ابتدئ الصبا ولو انني | جاوزت (خمسيناً) من السنوات | الآن أختتم البكاء بضحكة | تمتد من قلبي إلى حَدَقاتي | الآن ينتقم الحبور من الأسى | ومن اصطباري ظامئاً كأساتي | أنا في (السماوة)«1» لما اكذِّب مقلتي | فالنهر و(الجسر الحديد) هُداتي | هذا هو (السجن القديم) وخلفه | جهة (الرميثة) ساح إعدامات | وهناك بيت أبي.. ولكن لم يعد | لأبي ظل على الشرفات |
والقصيدة طويلة يسكنها (الفرح) بالعودة.. ولكن، وا أسفاه لقد كانت فرحة ناقصة، لم تستمر حيث عاد أدراجه إلى القربة، وأجواء الغربة الذابحة!!.. وكأنها (فرحة بولد ميت) كما يقول المثل!! |
| alawi@alsafi.com |
| | |
|