عبدالله الناصر.. بالإنجليزية الشجرة وقصص أخرى د.سلمى الخضراء الجيوسي
|
صدرت باللغة الإنجليزية مجموعة قصصية للمبدع الأستاذ عبدالله بن محمد الناصر تحت عنوان (الشجرة.. وقصص أخرى)، قدمت لها الناقدة المعروفة الأستاذ الدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي فكتبت:
منح عبدالله الناصر الجائزة الفضية على كتابه (حصار الثلج) (منشورات الساقي، لندن وبيروت 2002م)، في معرض الكتاب الدولي ببيروت لعام 2002م وقد افتتح المعرض رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان.
عبدالله الناصر هو واحد من الكتاب الذين يميلون إلى كتابة القصة القصيرة بشروطها الأساسية المعروفة، أي باعتبارها سرداً مركزاً لحدث مقنن، لا يتجاوز حدود الزمان، أو يطفر خارج الهدف المبدئي الخاص بسرد واقعة أو تجربة واحدة.
هناك كُتَّاب قصة قصيرة كايزابيل اللندي(1) على سبيل المثال، يغطون في قصة واحدة فترة زمنية مطولة من حياة الشخصية الرئيسية فيها.
وأما قصص الناصر فإنها تظل خلافاً لذلك، إذ تمثل واقعة أو تجربة واحدة فيها بؤرة الحدث. وكما هو الأمر بالنسبة للنصوص القصصية في التراث الكلاسيكي، سواء منه تلك التي تعتمد على الخيال الفني أو التي تنقل الحياة بطريقة تسجيلية(2) فإنه يكتب على نحو وقائعي espisodic أي بنهج قديم قدم الكتابة العربية نفسها، وجديد جدة اللغة والأسلوب في الوقت الحاضر. فآلاف القصص والنوادر والوقائع والنصوص السردية التي تزخر بها الكتب والموسوعات التي تمثل الثقافة القديمة وتغطي شذرات، كل يعكس بانوراما تصور مختلف نواحي الحياة العربية في القرون الوسطى، ما زالت حية ومتداولة حتى اليوم.
عبدالله الناصر متمرس جيداً بالأدب العربي الكلاسيكي، ولهذا فإن ثراء الحكايات والمرويات التراثية التي هي في حقيقتها قصص قصيرة من النوعين الفني والوقائعي، خلف أثراً بيناً عليه وعلى كُتَّاب آخرين.
وهناك كتب عديدة في الأدب العربي الكلاسيكي وعلى رأسها (كتاب الأغاني) تصلح مثالاً على ذلك (3)، فهي عبارة عن أعمال قصصية تشتمل على هذا النوع من الحكايات والمرويات. ولا شك أن الكاتب العربي المعاصر الذي يخوض غمار القصة القصيرة في الوقت الحاضر(4) قد ورث نظرة أسلافه القدامى إلى العالم. غير أن النظرة لا تمثل تياراً جارفاً يعكس كلية الحياة التي تبدو فيها مصائر الأبطال (على حد تعبير لوكاتش) فيما هي تتكشف على خلفية حركة العالم كله عبر الزمان، بل تمثل تجربتها الخاصة بها، تجربة لحظات الفرح أو الهم أو التأمل.
كما تصور أحداثاً متفردة تدور حول الكرم وحسن الضيافة والانتقام والوفاء والقسوة والشهامة والحكمة والنزوع الجنسي مكشوفاً أو مقموعاً، والغيرة، والحسية والزهد.. أي جميع التجارب التي خبرها عرب القرون الوسطى، وكانت تتراوح بين الحياة الصحراوية بحدودها المقننة والتي تكمن المفارقة في كونها تعكس تجربة إنسانية شاملة، تتسم بالحرمان الشديد من وسائل الترف التي كانت ترفل بها حضارات فارس وبيزنطة، المجاورة، وبالكفاح المستمر من أجل التشبث بأسباب البقاء، وبين حياة العرب خلال عصور المدنية بكل ما كانت تحفل به مباهج المدينة التي أصبحت متوفرة لجمهور مختلط الأعراق وشديد التنوع. وقد كانت هذه الحياة بتجاربها الحافلة باللهو والرعب من السلطة الحاكمة والأبهة والرفاه والقوة والمال، وبمغامراتها خارج حدود المكان والأعراف، وبتوقها إلى الثروة والجاه، متزامنة مع الصعود المبكر لطبقة وسطى في بغداد والمراكز الأخرى المدنية. ولا شك في أن الحكاية العربية الكلاسيكية التي يمكن اعتبارها قصة قصيرة بامتياز ما زالت متغلغلة في وعي العرب المعاصرين الذين يحرصون على صلتهم الوثيقة بالتراث.
يكتب عبدالله الناصر في عصر مليء بنشاطات أدبية حافلة شملت العالم العربي كله من الخليج إلى المحيط. إنه عصر لم تفلح النكبات القومية فيه بكبح جماح نبض العرب الإبداعي، بل لعله أن يكون عصر فورة أدبية كبرى شمل بعضها مناطق جديدة من الخلق والإبداع(5).
وقد جاءت هذه الفورة في أعقاب أشد الكوارث التي يمكن أن تنزل بشعب وثقافته، هولاً فالعرب الآن هم ضحايا قمع داخلي من جهة، وعدوان خارجي مستمر وعدم استقرار وبحث دائب عن الحلول، من جهة أخرى (6).
ولكن بدلاً من أن تكبح هذه الكوارث الرغبة في الخلق والإبداع، أدت إلى شحذ مضاء العزم على إعلاء شأن الحياة الفكرية والمخيلة المبدعة. وقد برهن الكتاب العرب عن امتلاكهم قدرات خلاقة يقظة ومتعددة الألوان ورغبة في البحث المحموم عن سبل جديدة للتعبير، والتجريب في اشكال جديدة مبتكرة.
كما أن الحيوية الخلاقة التي شهدتها الآداب الوطنية في العالم العربي طفرت إلى خارج ما يدعى بدول الوسط العربي (7)، وتشبع بها الكتاب الشبان في جميع أنحاء العالم العربي. وفي منطقة الخليج لم يكن الأدب بأشكاله الحديثة ناشطاً خلال النصف الأول من القرن العشرين. غير أن المملكة العربية السعودية تمتعت دائماً بوضع متميز، وامتلكت تاريخاً ثقافياً متنوعاً بالمقارنة مع بقية أجزاء شبه الجزيرة العربية.
ونظراً لمركزية موقعها خلال القرون الأولى من ظهور الإسلام وبخاصة في الحجاز (8)، وكونها مهد الدين الجديد، وموطن أدب مستمر تكلل بالإعجاز الأدبي الذي تمثل بالقرآن الكريم، ظلت هذه المنطقة موئل تقاليد أدبية محددة، رعتها وحافظت عليها بصورتها القديمة، بفخر واعتزاز. ولأنها كانت موطن الدين منذ بدايات الدعوة، فقد ظهر فيها نزوع شديد إلى المحافظة الاجتماعية والأدبية.
وكانت نتيجة ذلك ذات حد مزدوج، فبينما صانت بشدة معظم مميزات التقاليد اللغوية والأدبية لم تلبث أن مثلت في وقت لاحق عقبة كأداء امام الكاتب السعودي الجديد، الذي كان يتوق إلى ولوج عالم الأدب العربي الحديث فيما وراء حدود الجزيرة العربية، بكل ما فيه من رحابة وتنوع وطاقة على الابتكار. وهذا ما يدعونا إلى أن نجد في ظهور كُتَّاب ناجحين، من أمثال عبدالله الناصر وآخرين من جيله، مسألة تدعو إلى الإعجاب والتقدير.
فهؤلاء الكُتَّاب، ومعهم رفاقهم في العالم العربي، من الذين حاولوا تحقيق مطلب الحداثة والمعاصرة، كان عليهم أن يبذلوا قدراً من الجهد أعظم بكثير من عرب شبه الجزيرة العربية الآخرين(9).
لقد كان عليهم أن يتجاوزوا نظرة وطيدة إلى العالم تتسم بشدة الثبات، وتقاليد أدبية راسخة تتسم بالعصمة ويتحكم بها موقف محافظ تتخلله نزعة التقوى من جهة والكلاسيكية الوطيدة الأركان من جهة أخرى.
لقد عاش عبدالله الناصر سنوات عديدة في الغرب، ثلاث سنوات في أمريكا وأربع عشرة سنة في لندن. ورؤيته ل(الآخر) تصدر عن موقف يتسم بالتناسق.. موقف يؤلف بين امشاج من الثقافتين، ولكنه يظل في جوهره وفياً لثقافته ولأفضل ما فيها من سمات التقاليد الإنسانية: الكرم العفوي والحماسة والانتماء لكل ما هو صاف ونبيل في الحياة العربية القديمة، وللحضارة العربية الإسلامية، ولإنجازات الماضي العظيمة، وقبل كل شيء، للتقاليد الشعرية والأدبية القديمة وللمشهد التاريخي العربي الإسلامي بكليته. فهو يظل متمسكاً بصلابة ثقافته الموروثة وبتراث عربي متجذر عبر ما ينوف على خمسة عشر قرناً، مهما بلغت درجة انسجامه مع الحياة في الغرب.
وفي ضوء هذا التراث ليس بإمكانه أن يرى (الآخر) إلا باعتباره يدور في مدار آخر، ويحمل مفهوماً ثقافياً مغايراً عن الحياة والتفاعل الإنساني، يتعامل عبدالله الناصر مع بعضه وفق المعايير الإسلامية الموروثة بقبول ليبرالي.
وهذا يتجلى بوضوح في قصته: (حصار الثلج) حيث يستثير قلق امرأة غربية غير قادرة على القيام برحلة تجد نفسها مضطرة إليها بسبب افتقارها إلى المال اللازم، يستثير في بطل القصة شهامة العرب القدامى تجاه المرأة، والرغبة التي لا تقاوم لتقديم العون عندما يكون الأمر ضرورياً. وهذا المؤشر الثقافي ينطوي على موقف أخلاقي يمثل المعايير العربية الموروثة أفضل تمثيل، بل لعل من الأفضل القول انه يمثل عملية تطبيقها في سياق ثقافة مغايرة، حيث لا يكشف الاختلاف عن تباين بين حضارتين فحسب، بل عن موقفين على طرفي نقيض.
إن هذا الضرب من القصة يعتبر بمثابة منجم معلومات لدراسة الاختلافات الثقافية في عالم يحاول الآن فرض وجهة نظر أحادية الجانب فيما يتعلق بالسلوك الثقافي الإنساني.
وهناك مع ذلك برهات معينة يجد الناصر نفسه فيها غير قادر على قبول ما يعتبره بمثابة اختلافات جوهرية بين الأخلاق العربية الموروثة وبين بعض جوانب الثقافة الغربية.
ويمكن ملاحظة ذلك في قصة (بيت العائلة) حيث يقدم صورة انفصام في العلاقة بين أب وابنه في الثقافة البريطانية.. صورة تصف حالة متطرفة من الشعور بالاستلاب وانعدام المسؤولية حيث يبادر الابن لأسباب مادية إلى طرد ابيه من منزله وبذلك يحكم عليه بالعيش فقيراً ووحيداً وبعيداً عن أحفاده.
إن أحداثاً غريبة كهذه، في حال وجودها، لابد أن تصدم أولئك الذين عاشوا في كنف الثقافة العربية، وبخاصة الثقافة التقليدية السائدة في المملكة العربية السعودية حيث يُكرم الأب ويُعتبر الابن حسب القانون الإسلامي مسؤولاً عن إعالة والديه إذا كانا معوزين. ومن المهم أيضاً أن يلاحظ المرء كيف يقدم الناصر ببراعة، كلب الأسرة باعتباره يحتاج إلى قدر أعظم من العناية، وبالتالي إلى قدر أكبر من الدخل، فيضيف بذلك سبباً آخر إلى الحاجة المادية من أجل طرد الأب من المنزل. وهذا يقتضي اللجوء إلى استخدام أشد أنواع السخرية التي تطرح في القصة على نحو ضمني في مواجهة القيم العربية الإسلامية.
إن قبول المواقف الغربية الذي تجلى في قصة (حصار الثلج) غائب هنا فيما يتعلق بما يشعر الكاتب انه يمثل المقاييس الغربية السائدة في العلاقات الأسرية.
ولذلك كله فإن القصة لا تتعثر بسبب وجود نزعة عاطفية مبتذلة أو لجوء إلى الوعظ والنقد المباشر. كما ان العقدة محبوكة جيداً بحيث لا تتكشف ملابسات القصة كلها إلا في نهايتها.
يقدم الناصر في مجموعته القصصية تجارب متنوعة تشف عن موهبة قوية وقدرة نافذة على الاستبصار. كما أن اتساع نطاق الرؤية فيها لا ينعكس في تعدد الثيمات وطرق الأداء، بل يعكس بدوره تنوعاً بالغ الثراء.. فهو يتهكم دون أن يصل التهكم عنده حد التشكك في طيبة الدوافع البشرية، ويسخر دون أن يؤذي أو يجرح. كما أنه يمارس الدعابة البريئة الموجهة إلى جهل السذج والبسطاء على وجه الخصوص. وفي ذلك كله يلوح مراقباً شديد الملاحظة للشرط الإنساني في صورته الشديدة الاتساع. وبينما يبدو ممعناً في التصوير الواقعي حيناً، يطفر في حين آخر، برشاقة لافتة، إلى عالم الفنتازيا.
وعلى الرغم من أن الناصر كرس نفسه لكتابة القصة القصيرة من حيث التركيز على تصوير المواقف أكثر من تطور وتحليل الشخصيات فإنه كثيراً ما يقدم من خلال موقف معين، على رسم صورة واضحة لشخصية البطل الرئيسي.
وهذا يبدو جلياً في قصة (دموع في الظلام) حيث يعاني رجل أعمال كان ناجحاً قبل أن يعلن إفلاسه عذابات تذكر الأخطاء التي ارتكبها وما تبع ذلك من قيامه بجلد الذات والشعور بالندم الشديد.
في قصة من هذا النوع تبدأ، بمعنى من المعاني، من النقطة الأخيرة حيث لا يقدم الكاتب لمحة تشتمل على التفاصيل التي تصور التاريخ المباشر لنشاط رجل الأعمال الذي انتهى بالفشل ومن ثم وصل بنا إلى هذه النقطة.
مثل هذا النوع من القصص يمكن العثور عليه أحياناً في الأدب العربي الحديث.
والحال أن العديد من قصص الناصر، كما أشرنا آنفاً، ينهج نهجاً يعتمد على سرد موجز لحادث مفرد يتصاعد حتى يصل إلى نهاية غير متوقعة. وأحد أبرز النماذج التي تنتمي إلى هذا النوع قصة (الذيب)(10) حيث نقرأ قصة تعكس واقعة مستمدة من الحياة تطرح خلالها مشكلة أو مسألة مهمة قبل أن يتم التوصل إلى حل في نهاية المطاف.
ولكن الناصر يظل قادراً، من جهة أخرى، على خرق جميع هذه القواعد وتقديم سرد قصير متعدد الأبعاد، ومفعم بالترميز والتأشير الذي يستدعي تجارب بشرية أوسع وأشد عمقاً. وهذا الضرب من الأداء يتمثل على أكمل وجه في قصته القصيرة الرائعة: (الشجرة) التي وصفت لي من قبل قارىء متمرس بأنها واحدة من أشد القصص التي عثر عليها في الكتابة العربية الحديثة أهمية.
في هذه القصة التي لا تشغل سوى حيزاً قصيراً جداً نجد معالجة مكتملة للصراع بين الحداثة والتقليد، التغير والثبات، المغامرة والمقاومة، وهي تقدم تجربة لا تقتصر معاناتها على دول الخليج الغنية بالنفط بل تشمل العالم القديم في كل مكان.
إن هذه القصة الضاجة بالحركة، والشديدة الدلالة والتركيز تختزل ضرورة الحداثة وما يرافق هذه الضرورة من حس المأساة وعبث محاولة مقاومة رياح التغيير. ويستثمر الناصر فيها إمكانات القص على نحو مختلف وأشد حداثة وشمولاً. بل إن تركيزها على تجربة واحدة تتسم بالفرادة يومىء في الوقت نفسه إلى تجربة اجتماعية شاملة.
في هذه القصص نوستالجيا عميقة الجذور نجدها لدى عدد من كتاب الخليج(11)، نحو عالم يتلاشى أمام أعينهم مع قدوم النفط والمال والتحديث وهذا التوق إلى حياة آفلة وما اتسمت به من براءة لا تعوض، يحمل معه، جزئياً على الأقل، ضرباً من الرفض العبثي للمواقف الجديدة الآتية مع التحديث ورغد العيش. إن البراءة القديمة هذه وما يتصل بها من حياة الدعة والاستقرار تستحيل هنا، بقدر عظيم من المهارة والذوق، إلى موضوع للرثاء.. ولكن الكاتب على الرغم من إعجابه بعالم آفل، لا يرفض إمكانية التغيير أو حتى ضرورته. ففي أعماقه نفور غريزي من الخلاسية الحضارية والغربنة المفاجئة والزاحفة بقضها وقضيضها. غير أنه سرعان ما يذعن للنتيجة المحتومة التي فرضتها ظروف التغيير الجذري المفروضة من قبل الظروف المادية الجديدة. فهذا التغيير صار سمة الحياة الجديدة في المنطقة كلها، على الرغم من انه ألقى بالعبء الأكبر في ذلك على المملكة العربية السعودية التي تشغل، بحكم الأمر الواقع، موقع حامي القيم الإسلامية والعربية، الموروثة من عهود سحيقة، فضلاً عن كونها مهد الحرمين الإسلاميين الشريفين: مكة والمدينة (12).
عبدالله الناصر إذن يطرح أسئلة تتعلق بالمصير، ويحمل في أعماقه حلماً غائماً، بل مستحيلاً، ليس بوسعه هو أو أبطاله المتخيلين تحقيقه أو حتى الأمل بأن يتحقق. فعقارب الساعة لا تعود إلى الوراء والحياة دخلت حيزاً زمنياً وآخر مكانياً مختلفاً.
يكشف الكاتب، ليس في قصة (الشجرة) وحدها، بل في القصص الآخرى أيضاً، عن وعي بأن رؤية البراءة، أو قل الحياة البسيطة والمضمونة، ستستمر في الانحسار حتى تضمحل في نهاية المطاف، تاركة وراءها ذكريات شيء وطيد ومتجذر لا يمكن أن يجد لنفسه مكاناً في هذه الحياة الجديدة المفتوحة على إمكانات ضرورية (وغير ضرورية في أوقات أخرى) لا تعد ولا تحصى.
ولأن التاريخ جعلهم حماة الحرمين الأشد قداسة في الإسلام، مر السعوديون بتجربة خاصة وفريدة في توقهم إلى الحفاظ على كرامة هذه المهمة وما تطرحه من أعباء دائمة ومبهجة. فهم يجابهون، وسيستمرون في مجابهة القوى التي تنذر بتغيير طريقة حياة موروثة وراسخة. وبعبارة أخرى فإنهم يبذلون جهوداً مضنية من أجل التمسك بما هو ضروري ويوشك على الاختفاء، والمحافظة على ما ستبدده رياح التغيير.
وهذا سيكون مصدر ألم عظيم للسعوديين الذين سيتحملون عبء مخاض الحداثة العسير، وضغوطها المستمرة، ومغامرتها القاسية المُدَوِّخَة والتي لا مناص منها، واندفاعها الأهوج وغير القابل للتغيير في صميم حياتهم اليومية.
وثمة خصائص أخرى تظهر في قصص الناصر، لعل أهمها إيمانه الذي لا يقهر بالبقاء والاستمرار. هذه الخصيصة تبرز في معظم نصوصه، فتفتح الطريق أمام التفاؤل والثقة بالخلاص النهائي. في قصة (عصفور الغضب) هناك روح غضب مسيطر، إلا أن روح الخلاص المجاني الذي تحفل به القصص يمكن اعتباره جزءاً من قانون الحياة والاستمرار. وهذه الخصيصة الأخيرة تهيمن على قصة (أم رجوم) التي تدور حول أناس ضاعوا في الصحراء ثم أنقذوا في النهاية.
ولا شك في ان قصصه الصحراوية هي من أشد نصوصه تأثيراً في النفس، فهي تقدم صوراً منتزعة من تجارب مختزنة في الذاكرة أو التداول الشفوي تجعل القارىء أشد إدراكاً لطبيعة الأخطار التي تحاصر الإنسان، ولقابلية تعرض حياته للأذى فضلاً عن هشاشتها. ويجد القارىء العربي في هذا الضرب من القصص أنه أصبح على صلة بأجداده، وتجربة يناهز عمرها الفي عام، عندما كان العربي يجوب الصحراء بحثاً عن الماء والمرعى والبقاء على قيد الحياة، ويعاني في وجوده هجمة الصحراء المباغتة وأخطارها الشديدة.
ومما يثير الاهتمام ان الناصر يكشف كيف ان الصحراء مازالت قادرة حتى في الوقت الحاضر، على الابتلاع والتدمير. ففي إحدى قصصه، تحل السيارة محل الجمل الأبدي الذي يذرع القفار منذ قرون.. ولكن الجمل سرعان ما يصبح الوسيلة الوحيدة لإنقاذ سائق السيارة التي غرزت عجلاته في الرمل، وصارت الآن مدمرة تماماً بفعل عوامل الطبيعة الصحراوية. إن هذا الحدث هو بمثابة فعل ثناء وتقدير رمزي لحيوان ارتبط تاريخه على نحو لا تنفصم عراه بتاريخ الشعب العربي وأدبه، وبذاكرة سيحفظها الشعر العربي إلى الأبد.
ولا ريب ان إحياء ذلك كله،باعتزاز وحب،احتاج الى كاتب سعودي شديد التبصر، يؤنس شعورنا بالغربة في عصر التكنولوجيا، مستخدماً الصحراء ووحشها الصبور.
ويجب التنويه هنا بأن ثمة جانباً آخر لهذا الكاتب الذي برع في رثاء زمن مفقود، ونعني به قدرته على رؤية الجانب الهزلي من التجربة والسلوك البشري عموماً. لو عدنا القهقري إلى قصة (الذيب) فسنجد ان ثمة عكساً لمسار هذه التجربة ينطوي على مفارقة، وينتهي بتصوير كوميدي للضعف الإنساني والقدرة البشرية على خداع النفس.. فالخوف الذي يجتاح إحدى الأسر من ذئب شارد يجوب الحي، يرغم افرادها على القيام بأعمال المراقبة، مصممين على القضاء عليه والعيش بسلام. وبينما هم يراقبون الذئب في الظلام يظهر فجأة فيبادر أحدهم إلى قتله. وبعد فترة نوم هادىء يكتشفون في صباح اليوم التالي انهم قتلوا حمار الأسرة.
هذا العكس لمسار ما هو متوقع الحدوث.. يوجد عادة في الحلول التراجيكوميدية لدى قصاصين خليجيين آخرين، كما هو شأن قصة (خلالا) للكاتب الإماراتي عبدالحميد أحمد.
تروي القصة ما حدث لبدوي جاهل اغتني حديثاً.. كان يعمل قبل ظهور النفط سقاء يحمل المياه إلى البيوت على ظهر حماره الأثير لديه. وقد تمكن عن طريق شراء الأراضي الممنوحة من قبل الحكومة، من بناء منزل والحصول على سيارة مرسيدس وسائق. وسرعان ما عُثر على الحمار الذي كان لا يقدر بثمن، ميتاً بين جدران منزل (خلالا) ومنازل الجيران الجديدة، وقد تعفنت جثته بعد أن حشر نفسه هناك ولم يفتقده أحد حتى فاحت رائحته وجذبت انتباه الناس. تلك غمزة ساخرة تصلح تعليقاً على الذي أصاب عالماً معدماً على حين غرة.
ونظراً لأن الناصر كاتب واقعي في حقيقته، فإنه ما زال يحتفي بمفاهيم قديمة معينة، وبخاصة السلطة الأبوية. ففي نتاجه لا يعثر القارىء على شعور العداء تجاه سلطة الأب، التي هي مزيج من الهيمنة الشديدة والعطف الحاني، وهي السلطة التي سبق أن ثارت عليها في وقت مبكر كاتبة تنتمي إلى المنطقة التي تتوسط العالم العربي، ونعني بها اللبنانية ليلى بعلبكي في روايتها الشهيرة الأولى (أنا أحيا) الصادرة في عام 1958م. ومن المثير للاهتمام أيضاً أن نلاحظ ان ثمة قدراً محدوداً جداً من النقد السياسي الذاتي في الكتابات الإبداعية الخليجية عموماً. وهذا الموقف يبدو مناقضاً للنقد القوي الموجه للحكومات والحكام المتنفذين، ولاستمرارية المفاهيم والقيم الثقافية التي عفى عليها الزمن وهو نقد شائع في بقية أنحاء العالم العربي على الرغم من انه يُطرح عن طريق الترميز والتلميح. ان المسائل الأساسية المطروحة في أدب الخليج تبدو كامنة في مكان آخر، في تفاعلات الحياة اليومية على اختلافها سواء فيما يتعلق بالمواقف أو الحساسيات، وفي طريقة مواجهة عمليات التحديث والتحول الذي يطرأ على الظروف المحيطة، وفي الأثر السيكولوجي الناتج عن الثراء المفاجىء والانتقال من حياة البداوة القاسية إلى المدنية وصعوبة التخلص من الروابط القديمة والعادات المتأصلة وطرق السلوك والاختفاء السريع لقيم الثقة والبراءة.
وعلى الرغم من جذور الناصر الكلاسيكية الراسخة فإنه يستخدم اللغة العربية المحدثة والسائدة في معظم نماذج الأدب العربي المعاصر. وهو لا يجهد نفسه في اكتشاف أسلوب أدبي مركب يمكن أن يؤدي إلى وقف دفق الأفكار والصور عن طريق جذب الانتباه إلى فتنتها اللغوية والبلاغية. فهو يكتب بأسلوب منطلق نثراً مباشراً إلى حد مثير للإعجاب، متحرراً من الأدوات البلاغية، ولا أثر فيه للمحسنات الاصطناعية. إنه كاتب لا يصبر على الإجهاد اللغوي المفتعل وإنما يبرهن عن عمق الاستبصار في معظم نتاجه، وعن اشتباك مفعم بالحماسة مع مشكلات الحياة في عالم متغير باستمرار.
كل ذلك يسهم في توسيع دائرة تعاطفنا وتعميق فهمنا لمشكلات الواقع الحقيقي في الجزيرة العربية ولدى شعبها.
***
هوامش
(1) كما تفعل في مجموعة قصصها القصيرة: The Stories of Eva Luna الصادرة في عام 1989 الترجمة الإنجليزية منشورات بنغوين بوكس 1991م.
(2) غالباً ما يظهر السرد القصصي القصير في الأدب العربي الكلاسيكي على شكل (الخبر) الذي يقدم إلى القارىء باعتباره حدثاً وقع. وهذا يعود إلى عدم استحسان الإسلام، في بداياته، لشطحات الخيال الجامح المتمثلة في الكتابات القصصية في الفترة التي سبقته، كما في (كتاب التيجان) على سبيل المثال. لقد أكد الإسلام على الحقيقة الحرفية أو قل غير المحرفة. وهذا قمين بأن يكبح جموح الخيال ويحول دونه ودون الانطلاق بلا حدود.
إن الخبر، الجنس الأدبي الذي يبدأ دائما بعملية إسناد تاريخية، كان يضمن على اقل تقدير تقديم صورة عن الحقيقة.
(3) هناك كتب أخرى يمكن الإشارة إليها لعل أهمها كتاب (مشوار المحاضرة) للتنوخي وهو يقع في ثمانية أجزاء.
كما يمكن الإشارة إلى كتاب (الفرج بعد الشدة) الأصغر حجماً والذي لا يقل عنه شهرة.
(4) الأعمال القصصية التي خلفها جرجي زيدان اشتملت على أربع عشرة رواية عكست رؤية الكاتب الواسعة لمختلف جوانب الحضارة الإسلامية، والتي لم يكن ممكناً التعبير عنها بأشكال سردية قصيرة.
(5) هذه الكوارث تنقسم إلى نوعين: النوع الأول فرضه العدو الخارجي، المتمثل بإسرائيل والاستعمار الجديد، والذي تجلى في مختلف أشكال العدوان التي تعرض لها العالم العربي: نكبة عام 1956م، حرب حزيران عام 1967م، فضلاً عن المذابح المستمرة التي تمارسها إسرائيل ضد الفلسطينيين والعرب. لقد أسهمت هذه الأحداث في ظهور أدب صريح ومفتوح، مليء بالاحتجاج المرتفع النبرة حديثاً، ومفعم بالخطابة والبلاغة حيناً آخر.
وأما النوع الثاني فهو رد فعل على العدوان الداخلي الذي كثيراً ما كان المواطن العربي يتعرض بسببه (في أسوأ نماذجه) إلى الإذلال المستمر والحرمان من الحقوق، بحيث انه لو ابدى ميلاً إلى الانشقاق وعبر عن نقد مفتوح، حرم من مصدر عيشه وعوقب على نحو يهدد حياته نفسها. هذا الوضع أدى إلى ظهور أساليب التعبير الموارب في الأدب، بدءاً من الإلماعة allusion والرمز، وانتهاء بمغامرة اللجوء في استعمال الصورة الصعبة التي قد لا تتنبه إليها عين الرقيب.
(6) يعود ظهور الرواية في الأدب العربي، كجنس أدبي مميز، إلى ما بعد منتصف القرن الماضي، كما أن ظهور المسرحية تجلى في محاولات جادة في كتابة الدراما شهدتها مناطق مختلفة من العالم العربي بما فيه منطقة الخليج. وكانت القصة القصيرة قد رسخت جذورها في النصف الأول من القرن العشرين، وازدهرت دون توقف. واما الشعر، الفن الأشد أهمية في الأدب العربي فقد شهد منذ الخمسينات تحولات تمثلت في أضخم ثورة تقنية عرفها في تاريخه الطويل.
(7) تشمل هذه المنطقة مصر ولبنان وسوريا وفلسطين والأردن والعراق، حيث ظهرت تقاليد في الكتابة تجلت في نشاطات أدبية يعود تاريخها إلى عصر النهضة الأدبية العربية في القرن التاسع عشر.
(8) الحجاز مهد الإسلام وحاضرته، ففيها الحرمان الشريفان في مكة والمدينة.
(9) ربما كانت دولة البحرين الصغيرة الأولى في شبه الجزيرة العربية التي ظهرت فيها اهتمامات بالتحديث الأدبي.
(10) هذه القصة القصيرة ترجمت إلى الانجليزية وستظهر قريباً ضمن برنامج (بروتا) في كتاب Modern Arabic Fiction عن دار Columbia University Press بنيويورك.
(11) للتعرف على نماذج أخرى تمثل هذا الاتجاه في القصة الخليجية انظر (على سبيل المثال): قصص عبدالحميد أحمد (الإمارات العربية المتحدة)، وبخاصة قصة: (قالت النخلة للبحر) و (خلالا) في مختاراتي القصصية The Literature of Modern Arabicالصادرة في لندن ونيويورك (كيغان بول انترناشيونال) عام 1988 ص (2849 ) وص (2918). وانظر: عبدالله علي خليفة (البحرين) قصة (الطائر) ص (401 5).
(12) القدس هي الحرم الثالث.
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|