قصة قصيرة الخارج عن أسوار الوقت صالح أحمد القرني
|
كنت صغيراً عندما أشاهد هامته تطل علينا في الحارة.. يداعب الأطفال ليعقد معهم صداقة ودية.. ولعله يتودد إلينا لحاجة في نفس يعقوب.. وأكثر ما يلاعب ولد الشيخ علي.. كان يحبه كثيراً وعلي يستثير الغضب بداخله.. يتميز علي عنا بوسامته الآسرة ووجهه القمري الممتلئ غنجاً ودلالاً.. ويبدو جميلا أكثر عندما يغضب.. يتورد الخدان.. يصبح الوجه شمساً أصيلة.. لا ككل الشموس المنثورة على قارعة الطريق التي تميز حارتنا.
أتساءل كثيرا من تودد يعقوب الآتي من خارج أسوار البلاد.. يلوك المرح.. يتصنع الابتسامة.. ينبتها فوق شفتيه.. يزرع الوهم بقلوب الآخرين وخصوصاً أطفال الحارة.. ولماذا يتردد علينا في أوقات الغياب.. غياب الفحول.. ولماذا يكرهه علي.. أتساءل أكثر.. تكبر معنا التساؤلات.. ويجيب صاحب ذلك الصوت الآتي من الأعماق.. لا تلمني في هواها والجوى.. الصدى لا يقاوم السراب بداخله..
فرّقنا.. فرّقنا.. الجديد يا بنات.. فرّقنا.. فرّقنا..
تمتد إلى قلاعه الداخلية وحصونه أصوات أنثوية مخضبة بالغنج والدلال.. بالفرح بالألم، لينسى أنه وصم بالفحولة ذات يوم.. يرى بابها الموارب.. يرفع صوته أكثر.. فرّقنا.. فرّقنا.. تفتح الباب.. يبتسم لها.. يخفض من صوته الأنثوي. لدينا الجديد يا سيدتي.. ورينا.. وش عندك.. عندي الفانوس. أشوف!!
كانت متلهفة على هذا النوع الجديد من القماش (الفانوس).. ناولها قطعة القماش لتقلبه في يديها الناعمتين، وهو ينظر كأنه ينظر إلى أعماق الخبث بداخله. إنه جديد يا سيدتي.. ويليق بامرأة مثلك. شكراً يا يعقوب. ستكونين أول امرأة تلبسه في الحارة. هاذي ما فيها كلام!!
لم تكن الكهرباء موجودة آنذاك.. قامت البلدية بتوزيع الفوانيس الجديدة على الحواري الشعبية وكانت حارتنا على شارعين وكل شارع به فانوس عند البقالة وعند المسجد الذي نصلي به كلما أذن والد علي للصلاة.
يعقوب بمنتهى الذكاء يطلق الأسماء الجديدة والشعبية على أقمشة بالية أكل عليها الزمان وشرب.. يُمتّر الطرقات صباحاً وأحيانا قبل الأصيل ليغالب وحدته ليلا وسط غرفته التي ملّت من جسده الصاخب من أنين الوحدة وأوجاع النهار.. ويتعاقب الليل والنهار.. ويترادف النهار والليل وصخب الوحدة يعلو بداخل..
وعندما كبرت قليلا رأيت امرأة تخرج من بيته كل يوم أثار خروجها أسئلة بداخلي.. لكنها تحمل ما كان يحمل وتنادي بصوت أنثوي جميل.. لتجد أبواباً مغفلة.. وقلاعاً محصنة.. وأعيناً متربصة بالفراغ..
سألت علياً عنها قال إنه اقترن بها ذات مساء في غفلة من العين اللعينة التي تتربص بالأمل في جوف النساء.. لم يتبادر إلى ذهني سوى صوته الآسر الذي يتلاشى.. ويتلاشى بوقار الهدوء المخيف.
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|