استراحة داخل صومعة الفكر سعد البواردي بوح محمد الجلواح 140 صفحة من القطع المتوسط
|
البوح في مفهومه اللغوي افصاح عن مكنونات النفس يتحدث عن فرح.. أو جرح.. أو شكوى.. يطرحها همسا رقيقاً.. أو لمساً شاعرياً مشحون العبارة والمخاطبة.. شاعرنا الجلواح اختار لديوانه عنوان البوح.. ممتطياً دابت عبر فضاءاته الشعورية مستلهماً منها خواطره طارحاً إياها عبر صفحات ديوانه.. من خلال قراءتها نستطيع ملامسة بوحه.. لمن؟. ولماذا؟.
مجرد نظرة سريعة الاستشراف عناوينه تتزاحم لدينا صور متعددة من بوحه.. لأحسائه التي يسكنها وتسكنه.. لوطنه الذي ينتمي اليه.. للمرأة الحلم.. للأطفال.. للأماني.. للنهار.. للعيون.. للقلب.. للخلود.. للعهود.. للربيع.. للوحدة.. للرؤية.. للشكوى.. للوهم.. للهم.. ولأشياء أخرى.. باح لها ومن أجلها مكنونات صدره.. ومكونات شعره.. لتكن البداية..
لأحسائه باح وغنى:
عن هجرا، فلها يحلو الطرب
واليها موكب النور ركب
واعزف اللحن بما شئت وقل:
هذه الأحساء أصل ولقب
غنها جهراً، ففيها مرتع
للصِّبا. أو للصَّبا. أو للأرب
الصِّبا حيث الطفولة وأحلامها.. والصَّبا حيث ربيع الحب والمكان.. هكذا بوتر شعره.. وبوتيرة إحساسه أخذه البوح نحو معشوقته حيث حقول النخل.. وأرض الرطب الجني.. حيث النماء والماء.. والوجه المشرق الصبوح.. حيث الجمال والرجال.. ولأن أحساءه رمز وطن أكثر اتساعاً وأكبر مساحة اتسعت لديه دائرة البوح.. تعميقاً لهذا الحب وتجسيداً لهذا الانتماء.
سلاما أيها الوطن
وقلب فيك يفتتن
أحب شتاءك المجنون
طاب الطقس والزمن
وصيفك في حرارته
وان لم يؤوني سكن
وشمسك تحرق الأر
واح. ثلج منعش حسن
الشمس يا صديقي لا تحرق الأرواح وإنما الأجساد.. إنها المواجهة التي تستقبل وهج الشمس وسعيرها..
المكتوب (عنوان حب).. والمكتوب على الجبين لابد وأن تراه العين.. هل كتب على شاعرنا الجلواح أن يعاني أم يغني؟!
بريدكِ لا يأتي.. وأنتِ بعيدة
وفي القلب أشواق يبرحها البعد
بريدكِ لا يأتي وأنتِ بعيدة
عن الدار.. والليل المعذب يمتد
أفضل أن يكون الليل بسهده معذِّبا بكسر الذال لا معذباً بفتحها.. العذاب من نصيب من ينتظر..
بريدكِ لا يأتي وأنتِ قريبة
من القلب ان القلب إلاك لا يعدد
ألا يرى شاعرنا أن كلمة (لولاك) أنسب من إلاك.. ثم لماذا البريد؟ إنه أداة ايصال قديمة عفى عليها الزمن يستغرق وصول الرسالة عبرها شهراً أو أكثر هذا إن وصلت.. الهاتف الجوال يختصر مساحة الزمن.. أخشى أنها مستعصية وعصية على الرد.. فكِّر جيداً في السبب.. الاشكالية ليست إشكالية واسطة ايصال.. ولا وسيلة نقل خطاب مكتوب.. لعله المكتوب المنقوش على الجبين الذي لا يجدي معه رسالة ولا هاتف جوال..
(المرأة الحلم) ما برح يطاردها بشعره.. هل أنها بادلته المطاردة أم تركت مشقة اللهاث له وحده؟!
أنتِ محبوبتي التي هي نصفي
هي كلي.. وكل ما أتمنى
يا محبا لأجله تشرق الشمس
وشعرا يرق لفظا ومعنى
إنني التائه الذي قد توارى
عن بحور الهوى فصار المعنى
تخيلها.. أو رآها ربما مقبلة عليه تهاوت جراحه.. أو تداعت عند اللقيا وتحولت الى قصيدة نابضة بالحركة والحيوية تستغرقه بطيفها الجميل لأنها مجرد حلم..
حلم أنتِ في عيوني أراه
وغناء في القلب ينبض لحنا
هكذا نحن الشعراء حلمنا يسبق علمنا.. بل إن علمنا يموت تحت طائلة الوهم.. وسرابية الخيال.. تتكسر مجاديفنا على وقع ضربات الأمواج ولا نكاد ننجو.. هكذا شاعرنا الجلواح يسأل.. (كيف النجاة)؟
سألتني برقة وفتون
واستمالات رقصة كالغصون
لقد استعملت كل أدوات الجداب والاغراء كي تصطاد قلبه.. دلال.. همسة. اعتدال.. شفاه. بسمة. باقة ورد غالية ثم سألته:
سألتني عن السيوف وقالت:
هل يؤدي صليلها للمنون؟!
قلت: يا حلوتي ويا شمس عمري
كيف ينجو من كان رهن العيون؟!
يبدو أن سلاح عيونها قتله.. كما قتل آخرين قبله..
إن العيون التي في طرفها حور
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
إن شاعر حب آخر سقط في معركة غير متوازنة.. حكاية تقاعده صاغها شعراً جميلاً لا يخلو من طرافة ودعابة: هي تسأله وهو يجيب:
تقاعدتَ؟ قلت: (عن عملي
قالت: تباعدتَ! قلت عن مللي
تقربتَ! قلت: قاتلتي
قالت: فمن؟ قلت: ربة المقل
وأشرقت في دلالها خجلاً..
أفدي التي تستعين بالخجل
قالت: تراجعتَ. قلت: في طلبي
عن هجركِ المر. رغم هجركِ لي
قالت: تغربتَ. قلت: في ولهي
اليكِ حتى يتمتُ من أملي
قالت: تعودتَ. قلت: إن تدعي
وصلي وتسعين نحو مقتتلي..
مقطوعة شعرية رائعة بحوارها.. ومضمونها.. وأداة طرحها.. واشراقة ديباجتها لعلها من أجمل عطاءاته الشعرية وهي جميلة.. القصيدة طويلة وممتعة اصطفي منها بيته الأخير الذي ينشد الستر..
قالت: فماذا تريد؟ قلت لها:
ستراً.. وعفواً يكون في عملي
قليلاً ما يلتقي عاشقان ويلتقيان على حب.. النهاية غالباً ما تأتي فاشلة.. في ثقافة الشعر.. لا أدري لماذا؟
شاعرنا الجلواح حدد لحبيبة شعره مكانها قائلاً لها: هذا مكانك.. هل كانت ضائعة ضاقت عليها الأرض بما رحبت؟!
لمحتك بارقة السنا الوضاح
فسرت اليك مواكب الأفراح
وتقمصت أعياد بابل فرحة
بيضاء ترسل بالشذى الفواح
فأتاك يحملها أبوجلواح في
زهو الربيع.. ونشوة الإصباح
هذه المرة عرَّفنا بمحور الحدث وفارسه.. فهو على مقربة منه اسما على الأقل.. هل أنه تشابه أسماء أم تطابقها.! لقد أصاب بعطره الجديد مواجع أغرقت قلبها وأحال آهتها القديمة الى نغمة ترن في الآذان وتشنفها.. العطر جديد.. والآهة قديمة هل أن لعطره الجديد مفعول السحر؟ هل ان عطره وحده هو مفتاح القلب وليس عمره؟ هكذا يبدو وقد استفاق من حيرته:
فلتغضب الدنيا عليك بأسرها
إلا محمد طاهر الجلواح
لن أطالبه بأكثر مما قال.. خصوصية لا أطمع في تجاوزها اعطاها لنا تلميحاً لا تصريحاً.. هذا يكفي:
هذا مكانك.. في فؤادي ملؤه
طيف يهدهد سورتي وعُرامي
لولاه لانكسر النهار بحيرتي
وامتد عمر الليل في أيامي
ورأيتني في كل درب خطوة
حيرى بطول طريقك المترامي
إذا كان للخطوة حيرة.. فإن لي حيرة وقصر فهم لم يقدر على استيعاب مفردة (عُرامي) لعله كان يقصد (غرامي)..
(الى أرمله) مقطع جديد من مقاطع ديوانه الجميل (بوح) عله يبحث لها عن مكان آخر يمنحها الدفء ونسيان الفاجعة:
غطتك آفاق الليالي، والسنين المثقله
والدهر لا يعطي خلوداً، أو حياة مقبله
هذي الورود الفوق خديك تداعت ذابله
هذه التجاعيد التي قد كنت منها جافله
هل كانت مواساته لمأساة عمر يقترب من نهايته؟ حتى وإن كانت مواساة فإنها موجعة بالنسبة لها تذكرها بربيع عمر ذبل وشارفت أوراقه على السقوط أمام هبة خريف العمر.. المرأة تحب كل شيء إلا أن تذكرها بالشيخوخة.. وذبول وردة العمر، والتجاعيد، لماذا آثر شاعرنا إثارة شجونها وهي المحتاجة الى راحة البال..؟ هل أنها عظة تذكرها بأن الحياة رحلة.. وأن النبتة في حقلها تزهر وتذبل؟ حتى هذا تعرفه ولا يحتاج إلى تذكير.. لنأخذ عظته بالقبول.. لنرى:
من قال تيهي في زحام الناس مثل السايله؟
من قال كوني شمعة تفنى بنار مشعله؟
من قال إن الحب يبقى في وفاء الأرمله؟
بدلاً من أن يواسيها إذا به يعزيها، كما لو كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة: وكما لو أنه يستعجل رحيلها:
ما الانتظار والليالي فيك تمضي فاعله
أشعر يا صديقي الجلواح بالتعاطف معها وليس مع قصيدتك.. رغم أنها خطاب شعري ليس إلا.. مضامينه غير مواتية..
من أفول حياة أو تكاد.. الى كسوف شمس.. وبزوغ أخرى:
حجبت عن عيوننا شمس كون
فأطلت تعوض الحجب (ليلى)
ومضى البدر في الخفاء وأضحت
شمسه في المغيب ترحل عجلى
كل هذا الظلام من أجل طلعة (ليلى) وإشراقتها.. هكذا دائما ينزاح التجريديون في إغراقهم واستغراقهم لرسم الصورة الخيالية..
من أجل أن تظهر معشوقتهم يجف ماء النهر من أجل رحيقها.. وتتهاوى أغصان الشجر كي تبدو قامتها وحيدة سامقة.. وتكسف الشمس ويخسف القمر من أجل اطلالتها على الكون شمساً وقمراً يتحرك ويتكلم ويبتسم.. لا يا صديقي الإغراق في الخيال الى درجة المحال ضرب من التوصيف اللامعقول حتى ولو أجازه البعض ورأى فيه خصوبة خيال.. وإبداع.. إنهم في هذا يستشهدون بشواهد لرموز شعرية كبيرة كالمتنبي في قوله:
أنا الذي نظر الأعمى الى أدبي
واسمعته كلماتي من به صمم
الأعمى لا يرى ولكن المتنبي منحه عينين غير منظورتين. والأهم لا يسمع. واسمعه المتنبي من أجل خاطر شعره.
نمضي معه تحت مظلة العتمة الشمسية.. والشمس البشرية.. ونقرأ:
اشرقت كالنهار نورا.. وقالت
قولها العذب: افتدي ذاك قولا
أغمضوا منكم العيون وصونوها
بعيدا عن العمى أو ستبلى!
وفي معادلة غير عادلة يقول مشيرا الى شمس السماء، وشمس الأرض كما يرى في شعره):
إن تكن في كسوفها قد توارت
فهي من شمس حسنكِ اليوم خجلى
كثير. كثير هذا يا صديقي.. المبالغة تقتل الحقيقة ولا تعطي بديلاً..
(أماني) أغنية شعرية لعلها الاسم لمن يهوي: تحمل أكثر من استفهام واحد:
أأصابك البرق اليماني؟
أم ذبتِ في نغم الأغاني؟
ماذا دهاك لكي تكون
فريسة سقطت تعاني؟
ظننته يخاطبها.. هل كان يخاطب غيرها.. ثم ألوى عليها يخاطبها دون ترابط
أنا عاشق لك يا أماني
والقلب يسخر بالرهان
من كل تجربة مضت
كالطيف في رمش الثواني
فكرة عشق مبتسرة.. اطارها محدود.. وصورتها رمادية.. لا تضيف الى رصيد شعر شاعرنا شيئا البتة.
رثائيته لأمه جاءت حارة كحرارة الوداع لغال لا أوبة له:
أنا إن بكيتك فالبكاء مطيتي
نحو السلو.. وكيف يسلو الثاكل؟!
واذا بكيتك فالدموع تحثني
نحو المزيد.. وقلما هي تهمل
أمي حبيبة ناظريّ ومأمني
من كل خطب والخطوب ثواقل
نامت عيونك بعد طيب تلاوة
للذكر يقدم في الديار وتشعل
ورحلت مؤمنة مصدقة بمن
ترجى شفاعته ويعطي السائل
بهذا الرتم الحزين رثى أمه فكان مطواع الحرف.. شجي النبرة.. متدفق العبرة.. ومن كالأم تستحق الرثاء.. ومرارة الرحيل.. وحرارة الحزن؟
ولأنه يستطيب شغب السؤال لا بحثا عن جواب.. وإنما التأكيد لخاطرة تعتمل بين جوانحه:
عراقي هواي. وأنتِ ليلى
وقيسك نهره أمسى يبابا
أيا أملا تبرعم في فؤادي
على أمل لتسقيه الرضابا
يشاغبني السؤال ويكتويني
فردِّي يا متيمتي الجوابا
أتقتل مقلتاك عذاب صبّ
وقد طردت بسحرهما العذابا؟!
أخالها لا تقبل اذا كانت صادقة.. وأخاله هو يبحث عن الأجمل.. كن جميلا ترى الوجود جميلاً:
يرحل الحزن إذا هلَّ ربيع ثم اقبل
فيلفّ الليل من عتمته ما ليس يحمل
ويصير النوم كرها ويكون السهل أجمل
ثم يحلو كل مرّ، والروابي تتجمل
وخضاب الكفّ يشدو والعصافير تهلل
وإذا المشموم في مخدعه أحلى وأكمل
لوحة وجدانية ترسم صورة عاطفة مشبوبة ملؤها عشق الجمال متى كان طيعا لا نفرة فيه ولا شرود معه..
قصائد شاعرنا الجلواح متعددة يصعب استغراقها، آثرت أن أتناول ما أمكن تناوله تحت طائلة مساحة الزاوية التي لا تسمح بالتجاوز..
من قصائده التي استوقفتني مكاشفته للحلم الآتي:
يا ليلا لا يملك آخر
يا كهفاً يقتل خيط النور
ويقتل تغريد الطائر
وسْمٌ أبدي فوق القلب
يتيه شموخاً وبكاء
آه يا ليل متى ألقى
في صبحك صبحا وبشائر؟
ستلقاه يا صديقي ضوءاً في شمعة كونفشيوس (لا تلعنوا الظلام ولكن أوقدوا الشموع) حينها لن تجد الليل المثقل بوساوسه) إنها رؤية عقلانية كرؤيتك الوجدانية التي فتحت أمام قلبك سبل الوصول لمن تهوى..
وهكذا أراك عبر الورق
وعبر آفاق الرؤى والقلق
وفي حروف الوجد مبثوثة
فوق سماء النخل أو في الشفق
أراك في حلم.. ومعزوفة
تقتات من صبري وترمي حُرق
إني هنا أهمس يا حلوتي:
حبك قد أدت اليه الطرق
لعل رؤيتك لها ليست مجرد وهم أو تمنٍ أو تعلق بمواعيد كاذبة.. الطريق الى القلب يمر عبر الحب..
فرض الليل من جنوني دربا
أجتليه بلهفتي واشتياقي
وأرى في المسير طوله عظيماً
كيف اجتازه؟ وكيف التلاقي؟
زادني الوجد يا حبيبة روحي
قلقا، والهوى شديد الوثاق
إنها ابنة البحر.. أو عروس بحر متلاطم الأمواج ،الوصول اليها مجازفة غير مأمونة الجانب.. لذا من بعيد يكتفي نحوها بالهمس.. ويقتفي أثرها بالتمني:
هذه همستي اليك.. وإني
اتمنى لو تقرئين احتراقي
تعب الصوت. والنوى طال حتى
حضر اليأس والهوى بعدُ باق
ماذا يجدي هوى يتلفعه يأس.. إنه مجرد وهم ثقيل يجهد النفس.. ويكتم النفس.. دع الوهم جانبا.. إذ لا يأس مع الحب.. ولا حب مع اليأس حتى ولو كان مع فينوس تمتطي أمواج البحر.. حين تحبها وتحبك سوف تترجل من مركب أبحارها قافلة تنشر الدفء.. والحنان، ومشاركة الحياة بعيداً عن أخطار الغرق، ولطمات الموج الموجعة..
رحلتي مع إبحارك شيقة.. لك مني أصدق المنى.
الرياض ص.ب 231185
الرمز 11321 فاكس: 2053338
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|