وتنكتُ: أي تخطّ أو تكتب. وك(المرقّش)، كان هناك لقب: (المحبّر). وهناك أكثر من شاعر يُدعى (المحبّر)، فمنهم: المحبّر، طفيل الغنوي، والمحبّر الثقفي. والتحبير من الكتابة؛ فيقال: (حبّر فلان كتابه، حسّنه، وكذلك نمنمه، ونمّقه، ورقّشه). (الصولي، أدب الكُتّاب). |
وقد سُمّي الكتاب المشهور الذي رواه السكري عن ابن حبيب ب(المحبّر)، لتلك المعاني. و(إنما سُمّي الحِبر حِبراً لتحسينه الخطّ، من قولهم: حبّرت الشيء تحبيراً وحبرته حِبْراً، زيّنته وحسّنته)، كما يشير الصولي. و(كل ما حسّن من خط أو كلامٍ أو شعرٍ أو غير ذلك فقد حُبِرَ حَبْراً وحُبِّر. |
وكان يقال لطفيل الغنوي في الجاهلية: مُحَبِّرٌ، لتحسينه الشعر، وهو مأخوذ من التحبير، وحسن الخطّ، والمنطق، والأحبار: (العلماء): |
كتحبير الكتابِ بخطّ يوماً |
يهودي(يقاربُ أو يَزيلُ) |
(ابن منظور، لسان العرب، (حبر). وهكذا فلقب (المحبِّر)، مع ما تقدّم من تحليل دلالته على طبيعة الصنعة في شعر طفيل الغنوي، يوحي بالكتابيّة في شعره. ولا ريب، فالتلازم بين الكتابة والصنعة البلاغية أمرٌ طبعي. |
وممّا يقابل هذه الألقاب الكتابية: لقبا (المهلهل) و(الصنّاجة). حيث إن أحد أوجه دلالة (المهلهل) يتعلّق بالمستوى الصوتيّ لشعره المقترن بالشفاهيّة والغنائية؛ فقد قيل إن هلهلة الصوت: ترجيعه. ولا شكّ أن هذه الخاصيّة إلى الخصائص الأخرى المستنبطة من مفهوم (الهَلْهَلَة)، من عدم التنقيح وهَلْهَلَة النسج هي من نتائج الممارسة الشفاهيّة لا الممارسة الكتابيّة. |
وتبدو للقب الصنّاجة علاقة بالجانب الصوتي عموماً في شعر الأعشى، لا الموسيقي منه فقط. ولذا كان يقول ابن رشيق عن شعر الأعشى: إنه (يخيّل لك إذا أنشدته أن آخر يُنشد معك). وتلك هي خاصية الشعر الشفاهي، سيما عند شاعر ممعن في شفاهيته كالأعشى، من حيث كان شاعراً أُمِّيّاً بطبيعة حاله، يعتمد على سمعه لا على بصره، تماماً كما كان يفعل بشّار بن برد، الشاعر الأعمى الأكْمَه، الذي شُبّه بالأعشى، ووُصف بما وُصف به من: أنك تجد له في نفسك هِزّة وجلبةً، ويخيّل إليك إذا أنشدته أن آخر يُنشد معك. |
ومن هنا فللقب الصنّاجة علاقة بالخاصية الصوتية السمعية، وكأنما هذا اللقب يعني أن شعر صاحبه يصمّ الآذان كالصِّنْج. وكلمة (الأصنج) في بعض اللهجات العربية اليوم تعني: الأصمّ. وقد لُقّب آخرون غير الأعشى بألقاب مشتقّة من هذه المادة اللغوية، وللسبب نفسه الذي لقب له، ومنهم: المغنّي (مسلم بن محرز، ت.757م)، الملقّب ب(صنّاج العرب)، والشاعر العبّاسيّ (محمد بن القاسم بن عاصم)، الملقّب ب(صنّاجة الدوح). |
مهما يكن، فتلك خاصية شفاهيّة في مستواها الصوتيّ المجرّد ومستواها الغنائيّ، تربط الشاعر بجماهيره من المستمعين. أوليس مثلاً من أبرز الأسباب في جماهيرية الشعر العاميّ اليوم مقارنة مع الفصيح، وبخاصة الحديث منه أن الجمهور الشفاهي السماعي (عايز كذا)؟! والأمسيات الشعرية هنا خير شاهد. ونحن ولا فخر أمة لها خصوصيتها و(ثوابتها) ورصيدها التاريخي في احترام رغبة الجمهور في مثل هذه الأمور، ولا عزاء! ولهذا البُعْد الشفاهيّ السماعيّ صحّ لدى العرب أن يُستعار لقب (الصنّاجة) أيضاً للرواية الشفاهية السماعية، فكان ابنُ جنّي يلقّب الأصمعيَّ ب(صنّاجة الرواة والنَّقَلَة). ومن ثمّ يمكن القول إن كل شاعر شفاهيّ هو صنّاجة جماهيريّ، شئنا أم أبينا! والذي لا يعجبه يشرب من البحر أو الحبر! غير أن الأعشى قد تميّز في هذه الصفة حتى لُقّب بصنّاجة العرب، ولقبه كسرى ب(مغني العرب) على وزن (فنّان العرب).. خاصة لأنه كان مدّاحاً، (بوقاً)، كما وصفه الأجداد، فهو من أوائل المتكسّبين بإنشاد الشعر في بلاطات الأكاسرة وتابعيهم. |
ولا شكّ أن لعامل العَشَى، ومن بعده كَفّ البصر، علاقة بشفاهية الأعشى الغنائية الفارقة تلك. (ينظر: الفَيفي، عبد الله، (1997)، الصورة البصرية في شعر العميان: دراسة نقدية في الخيال والإبداع، (الرياض: النادي الأدبي)، 299000). غير أن (العَشَى) فيما يبدو قد ينتقل بالعدوى، فيعمّ، فإذا هو يمتدّ عبر الأجيال! |
قطوف (الصوت.. الشارع)، 2002، (آتٍ من الوادي)، 2003، مجموعتان شعريتان لفيصل أكرم، أكرمني بهما، ثم احتجب! هل ادّعى الغضب؟ لست أدري!.. وإن كان من حقّه.. لتأخري في شكره بما يستحقّ. وماذا أفعل والهدايا أكثر أحياناً من مساحة الوقت والجهد والكتابة.. وتسلسلها قد يوقع في حَرَج.. وربما قدّمتُ الاحتفاء ببعضها على آخر لاعتبارات ظرفية، أو لإضاءة تجربة لم تحظ بقدر من الإضاءة بعد. على أن واجب التحية للمنتجين شيء والترويج للمنتج شأن آخر. ودائماً ما أفضّل أن يجد العمل سبيله إلى دراسة نقدية متأنية، وإن تأخرتْ، على أن يُلتفت إليه التفاتة إعلانية عجلَى، لا تُرضي الناقد ولا تليق بصاحب العمل. فيصل نوءٌ كريم، أصدر في بضع سنين (97 2003) ست مجموعات، هذا فقط حسب المعلومات المتوفّرة المدوّنة على مجموعته الأخيرة. ومن يتابع تواريخ القصائد سيستنتج أن الرجل يكتب بشكل ملتزم، وبمعدل قصيدة كل أسبوع، على الأقلّ. وهذه الغزارة الإنتاجية في الشعر ليست بالضرورة ظاهرة صحية، لولا ملاحظة أن الشاعر يشقّ عبرها طريقاً تجريبيّاً متعدّد الاتجاهات. فلو أخذنا مجموعتيه المشار إليهما نموذجين لتبيّنا تحوّلات في اللغة والتجربة والإيقاع. وما يمتاز به فيصل أيضاً عدم (التمذهب) في التعامل مع الأشكال الفنّية، ففي (آت من الوادي) مثلاً تقرأ له قصيدة موزونة مقفاة، وهي: (على سبيل الرثاء) وإن كان في وزنها نظر وقصائد تفعيلية، وهي الغالبة على المجموعة، إلى جانب (النثيرة) أو قصيدة النثر، ك(عن الشيطان أتحدث). إلا أن هذه الأخيرة لم أر فيها شعراً، لا لأنها قصيدة نثر، ولا لأنها تتحدّث عن الشيطان، لكنها جاءت نثراً خالصاً، لا من حيث الإيقاع فحسب، ولكن كذلك من حيث الجملة، والصورة، وشعريّة الشعر، و(شيطان الشعر) شخصيّاً، الذي بدا مصفّداً، كأنه في العشر الأواخر من رمضان! وهذا خلاف غيرها من قصائده التي تشهد تنامياً فنيّاً، واحتفاء أكثر بمواطن التوتر الشعريّ في النصّ. |
ولعلها تخطو إلى الشعرية أكثر بالسعي إلى التخلص من طابع الشرح والتفصيل النثري، الذي يفسد الشعر أيّما إفساد. عندئذ، عندما يلحظ القارئ أن هناك مشروعاً آخذاً في التطوّر التدريجي، قد يجد لغزارة الإنتاج لدى الشاعر وتنوّع التجارب ما يسوّغهما. |
مقام: |