قصة قصيرة
البيت الجديد
شريفة العبودي *
|
" يا أمه، ها البيت يخب علينا ما نبيه نبي نرجع لبيتنا القديم أبي أرجع لغرفتنا القديمة وصديقاتي بنات الجيران".
فاجأتني عبارات ابنتي التي لم تتجاوز العاشرة فاجأتني عباراتها، ولم تفاجأني! ما قالته أدهشني، وإن كنت توقعته، بل انتظرته، ورحّبت به! ما قالته صحيح، بيتنا الجديد يخبّ علينا لم نتمكّن من لم أطرافه حولنا، ولم نشعر بالدفء فيه ولكن لماذا؟
هذا البيت الجديد ظلّ لمدة عشر سنوات كاملة الهاجس الوحيد تقريباً الذي شغل فكري وفكر زوجي، عشر سنوات كاملة ونحن نحلم عشر سنوات ونحن نضع الريال على الريال، ثم التصميم تلو التصميم، وبعدها عشنا فرحة وترقب فترة الإنشاء ورؤية الحلم يتحقق.
حتى الأثاث جمعناه وخططنا له منذ البداية، بداية التخطيط للبيت الجديد وتصميمه.
وظلّ المخزن العلوي لبيتنا يمتليء شيئاً فشيئاً، بل يكاد يفيض، بالأحلام والكراسي والأرائك والتحف واللوحات الملفوفة بعناية حفظاً لها من الغبار حتى ينتهي البيت الجديد.
حتى أولادنا الخمسة تربوا على أحلام البيت الجديد والتوق إليه وهو الغاية المنشودة.
البيت الجديد منتهى أملنا، في البيت الجديد سوف نحقق أحلامنا وننال مرادنا ونكون أسعد أسرة فماذا جرى يا ترى؟
صحيح أن بيتنا القديم لم يقصّر في احتوائنا وإسعادنا ولم شملنا، نحن وأحلامنا الكبيرة لقد شهد ذلك البيت الذي ظنناه متهالكاً أحلى الأيام والليالي وألدّ المعارك والمشاحنات، في صالته الوحيدة في الدور الأرضي كنا نأكل ونشرب ونشاهد التلفاز ونحلم، نحلم ببيت أكبر وأجمل وأكمل، لعلّ ذنبنا الذي اقترفناه أننا لم نعترف بفضل الله علينا في بيتنا ذاك، كنا نجحد تلك النعمة وننتظر بل نترقب زوالها بانتقالنا إلى البيت الجديد! بيتنا ذاك كان له سقف فوق رؤوسنا، وجدران تحمينا وتخفينا عن الأنظار، وحضن دافيء يجري الدم في عروقنا ويبقينا قريبين من بعضنا!
أكاد أجزم أن عبارات ابنتي واحتجاجها على البيت الجديد قد تردّدت، منذ فترة، ليس فقط في رأسها الصغير ولكنها ترددت أيضاً في رؤوسنا كلنا في رأسي ورأس زوجي ورؤوس أولادنا كلهم ورأس والدة زوجي الشخص الوحيد الذي لم يكن شديد الحماس للبيت الجديد، لم يجرؤ أحد على البوح بما في نفسه قبل أن تفعلها تلك الصغيرة.
ولاحت لي والدة زوجي في غرفتها في الدور الأرضي من البيت القديم، الجدّة الحنون التي ظلت غرفتها بمثابة مغارة علاء الدين بالنسبة للأولاد، يسمعون فيها من جدّتهم قصص الأنبياء وأساطير الماضي وحكايات الجن والعفاريت ترى ما هو شعور الجدّة الآن في غرفتها الواسعة الفخمة في البيت الجديد، لم تعد في الحقيقة أحد محاور البيت، ولم يعد أحد يعرج إليها لتحلّ مشاكله أو تفصل بينه وبين إخوته إلا فيما ندر، أصبحت الجدّة لا تكاد تبين وهي متكورّة في سريرها الكبير في غرفتها الزاهية الحديثة التي يبدو أنها لا تمتّ لها بصلة وأدركت أن الحاجة للجدّة وقصصها انتفت لم يعد الأولاد بحاجة لها، ففي غرفهم الخاصّة كل ما يحتاجون إليه.
الخصوصية كانت حلماً وغاية للوصول إلى السعادة.
ما الذي حدث؟ لقد فعلنا الأسباب لجلب السعادة، خصّصنا لكل فرد غرفة وحماماً فيهما كل ما يحتاجه لتقل المناوشات ويسود السلام بينهم، وفي اليوم الذي انتقلنا فيه دُرت وزوجي والأولاد في كل غرفة في البيت حتى السطح ونحن نتلو القرآن الكريم لتحلّ البركة فيه وتهرب منه الشياطين، ولكن يبدو أن السعادة هربت هي الأخرى في ذلك اليوم!
وتذكرت والغصة تسد حلقي أن علاقتي بزوجي بردت وفترت بعد سكنانا في هذا البيت، لم يعد هناك ما نخطّط له أو نتحدّث عن خطوات تنفيذه، ولم نعد نتسابق للفوز بدخول الحمام أولاً بعد أن أصبح حمامنا حمامين، لقد أصبح الصمت ثالثنا بعد مرور عام على انتقالنا إلى هذا البيت.
هذا البيت يخب علينا، ما من سبيل إلى لمّ أطرافه للشعور بالدفء صدمتني الحقيقة التي تحت عيني، وعقدت العزم على عقد اجتماع مع جميع أفراد الأسرة الذين لم أشكّ أبداً بإجماعهم على بيع البيت الجديد وشراء بيت آخر أصغر وأكثر دفئاً ليس المهم أن يكون جديداً، بل من الأفضل أن يحمل شخصية العصر الذي بُني فيه وبعضاً من ملامح من سكنه وتنفس فيه فشخصية البيت من شخصية ساكنيه.
+++++++++++++++++++++++++++
* الرياض/shaioboudi@hotmail.com
+++++++++++++++++++++++++++
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
| 
