وبقدر ما أدهش هذا البيت الجريء أستاذي ولفت نظره إليّ كخامة شعرية، فإنه لم ينس أن يقرعني على جرأتي وتهوري. ونصحني بأشياء طويلة عريضة وبعدم الإغراق في هذا الخيال الجامح. ومع ذلك فقد بشر الوالد بمستقبل شاعر ظهر في الأسرة. وما ان غادر الأستاذ، إلا واحتد الوالد القاضي الجليل وأخذ ينصحني بنصائح ما زالت تسكن وجداني، وطلب مني ألا أهتم بالشعر ولا أقوله أبداً للسبب الذي ذكرته، فتوقفت برهة من الزمن. |
وعندما عدت إلى المدينة المنورة التحقت بالسنة الخامسة الابتدائية وبدأت أكتب بعض ما يعنُّ لي خفية عن أعين والدي. ثم انتقلنا إلى مكة المكرمة والتحقت بالسنة السادسة الابتدائية في المدرسة الرحمانية. وأصبح لديَّ دفتر من ستين ورقة كتبت فيه كل ما جاءني من الشعر، وكنت أخفيه حتى رآني صديقي وأخي الأصغر، السيد فخري عزي رحمه الله، وكان في السنة الثالثة الابتدائية، وسألني عن هذا الشيء الذي أكتبه. فأخبرته عنه وعن أهميته بالنسبة لي وتخوفي من الوالد. وأسر في نفسه شيئاً. وبعد يومين رأيت المربي الجليل الأستاذ عبدالله الساسي، مدير المدرسة الرحمانية بمكة المكرمة، وبعض الأساتذة، يرحمهم الله أجمعين، يهددونه بأن يخبرهم عن مصدر هذا الشعر. فامتلأ رعباً وقال لهم إنه لأخي. وعندما سئلت جبنت، بسبب وعدي للوالد، فقلت إنه ليس لي. وما كان من الأساتذة إلا أن أخذوا تلك المسودة ومزقوها أمامي. فطار صوابي وملئت اكتئاباً لعدة أيام توقفت بعدها عن الشعر لسنين طويلة. ثم عدت إليه. ولما نضجت وانتقل الوالد إلى رحمة الله، شجعني أخي الأصغر نفسه على الإفصاح عنه. فدرست العروض دراسة علمية وبطريقتي الخاصة وبدأت بنشره، وما ذلك إلا منذ سنوات قليلة. |
إذاً فالقريحة الأصيلة الصادقة تتحكم في المواقف وتتغلب على العقبات، ولو بعد زمن طويل. |
الوقت |
* دكتور بهاء، تحمل في داخلك موسوعة قيمة في شتى فنون الحياة.. كيف استطعت التوفيق بين دراساتك العلمية وعملك وهواياتك المتعددة الأخرى، ومن ثم كتاباتك للشعر الفصيح؟ |
أعترف بأنني لا أعرف الكثير، إلا أنني تعلمت منذ صغري أن أكون جاداً في استعمال وقتي والاستفادة مما أتعلمه. فالوقت المخصص للعب كان محسوبا، ولكنه كان كافياً لفتى في مثل سني.. وما بقي من وقتي كان مكرساً للدراسة والاطلاع والاستنتاج. وكنت أسبح كثيراً في الخيال البناء. أي أنني كنت أتخيل نفسي أقوم بهذا العمل أو ذاك، وأدخل مع نفسي في حوار عن أفضل السبل لتحقيقه. ولم يكن ليفارقني هذا النوع من الخيال لحظة واحدة. ثم لما أحسست أنني أحسن صنعاً في عدد من المجالات كان لا بد لي من تعلم فن إدارة الوقت واستغلاله لكي أتمكن من إشباع المجالات التي أحببتها وعشقتها بشكل راق ومستوى رفيع. فتعلمت في الجامعات فن إدارة الوقت واستغلاله والموازنة بين متطلبات العمل ومتطلبات هذه الهوايات المتعددة. فأصبحت خبيراً به بالعلم والممارسة في شؤوني الخاصة. |
أما الشعر، فبداياته وسبب التوقف عنه فترة طويلة من الزمن، ذكرتها فيما سبق. لكن الكشف عن شعري، كان، فعلاً، هو أكبر الأعباء في مجال هواياتي الأخرى، كالتصميم المعماري الإبداعي، وتربية واستيلاد الخيول العربية وبعض المجالات الأخرى. فعند الكشف عنه لم أكن أرغب في أن يكون لي شعر ضعيف أو أن تكون فيه عيوب. فانتظرت مزيداً من الوقت حتى تمكنت من أدواته. |
كيمياء |
* بمعادلة كيميائية معقدة يمكنك الحصول على مركّب.. ولكن هل يمكن أن تقدم على تكرير المعرفة في مصفاة الحبك.. لتنعم بقصيدة رائعة تلونت بعملك المتعلق بالبترول وتكريره..؟؟ |
نعم.. من الممكن أن أقوم بذلك. أنظري قصيدتي "حوار بين شاعر وسفينة" المنشورة في ديواني الأول "عاشق من جبال السروات"، لتجدي أنَّ هناك حواراً أقامه الشاعر بينه وبين السفينة، وتحسين من خلاله، حقيقة، أن السفينة أصبحت تحاوره وترد عليه وتتكلم عن دورها ومساهماتها الممكنة، غير نقل البضائع، وعن فوائدها الأهم لنهضة الشعوب العربية في مجال القوة والقراع في هذا العصر.. عصر القوة والجبروت، وعن نقل التقنية وإقامة التصنيع الوطني الفعال، دون أن يخرج الحوار من جوه الشاعري. ولعمري فهذه القصيدة رائعة جداً في مجالها. |
جياد |
* الخيل معقود في نواصيها الخير.. أحبها شاعرنا منذ صغره.. وفتن بها.. هلا حدثتنا عن هذا العشق..؟؟ |
بدأ عشقي للخيل عندما انتقل بنا والدي رحمه الله إلى خيبر قاضياً لها. وكانت خيبر مليئة بالجياد العربية الأصيلة. فبهرني جمالها وبهرتني عناية أهل خيبر بها. فبالإضافة إلى الجواد الذي اشتراه لي الوالد أهدى الشيخ محمد فرحان الآيدا، رحمه الله، وهو أحد أكبر شيوخ عنزة التي لا تبعد عن خيبر كثيراً.. أهدى مهراً جميلاً إلى أخي الأكبر وصفي، رحمه الله. وكان والدي يهدف من شغل فراغنا بشتى الوسائل الى أن نستعمل وقت فراغنا في ثلاثة أشياء رئيسة، تحقيقاً للقول المأثور وهي: السباحة وركوب الخيل، وقد أجدتهما في خيبر، والرماية التي بدأت بتعلمها عندما كنت في تبوك ثم أجدتها تماما في خيبر. |
وعندما عدنا إلى المدينة المنورة اصطحبنا جوادي معنا، ولكننا، بعد شهور، بعناه عندما انتقلنا إلى مكة المكرمة، وكان ذلك رغماً عني. وبقي حب الخيل ساكنا في فؤادي إلى أن واتتني الفرصة وانتقلت مديراً لإحدى شركات بترومين في انجلترا عام 1977م فاشتريت مزرعة من ثمانية عشر فدانا واشتريت فرسين ومهرة واستولدت منها، إلى أن أصبح العدد لديّ تسعة رؤوس جميعا من أنبل سلالات الجواد العربي الأصيل. ولي قصيدة شهيرة في ذلك عنوانها "أنا وحب الخيل" منشورة في ديواني الأول. |
ثم لما أنشأت مركز الدراسات الاقتصادية والصناعية في جدة وضعت تصميما لمزرعة تكفي لما لا يقل عن خمسمائة جواد عربي أصيل، على أمل أن نجد المستمثر لهذا المشروع الضخم. |
وإنني لا أزال أعشق هذه الخيول النبيلة، وعشقي لها ينبع من خبرة بها وعن علم بأصولها وفروعها وتربيتها ومداراتها وتدريبها، حتى أنني عندما كنت أدرس أو أعمل في الخارج كنت أُدعى، باعتباري عربياً يمتلك جياداً، لأبدي رأي فيها. |
غربة |
* عندما يبتعد الفرد عن وطنه.. ينبثق في داخله الشوق والوجد.. أرى ذلك جلياً في قصائدك الزاخرة بالأمكنة.. هل أجدت فن نقل الأخيلة والأماني.. وغرسها في الغربة القاتلة؟؟ |
نعم، لقد أجدت فن نقل الأخيلة والأماني كما تقولين وغرسها في الغربة القاتلة. فأنا لي خيال واسع ينقلني أو ينقل إليّ وطني وقتما أشاء، وخاصة بلدي المدينة المنورة. وفي كل مكان أذهب إليه تجدين في بيتي شيئاً يدل على أنني سعودي مدني عربي، ومسلم ملتزم التزاماً وسطياً، لا تزمت فيه ولا تفلّت. ولقد أدى هذا الأسلوب إلى إعجاب الكثيرين من أهل البلاد التي كنا فيها، وهي عديدة، بعاداتنا وتقاليدنا.. إعجاباً أدى بأكثرهم إلى محاكاتنا في تصرفاتنا، واعتنق بعضهم الإسلام بسببها. |
وقصيدتاي بعنوان "أول حب في المدينة" و"سر بي إلى طيبة الطيبة" برهانان على قوة تخيلي للمدينة المنورة خاصة، حتى وإن كنتُ على مسافة آلاف الأميال منها. |
شرود..! |
* شرود الكلمات من بين شفاه الشاعر.. هل أرّقك، وكم من الوقت يكفيك لتجاوز عقبته؟ |
لا تشرد للكلمات ولا غيرها من بين شفتي. فمتى ما أردتها تأتي، إلا فيما ندر. المهم أن يكون الجو ملائماً لقول الشعر.. طيباً أو قاسياً، وأن يكون الموضوع الذي تقول فيه شعراً يستأهل، من وجهة نظر الشاعر، أن يقال فيه شعر قوي متميز. |
+++++++++++++++++++++++++++ |
يتبع |