الطين.. والديك الماكر! يوسف بن عبد الرحمن الذكير
|
لا أخال أن «عبده خال» قد استغرق وقتاً أو أطال، في حياكة نسيج رواية سابقة له، قدر ما فعل، في روايته الأخيرة «الطين»، بل أكاد أجزم انه تعمد ابراز تلك الحقيقة، حين ذكر في الصفحة الأخيرة منها أن العمل بالرواية ابتدأ بتاريخ 1/6/1419هـ ولم ينته الا بتاريخ 7/1/1423هـ فلماذا يا ترى استغرق ما يزيد على ثلاث سنوات في كتابة هذه الرواية، بسبعة أشهر وستة أيام؟
إن دار البحث عن الجواب، فيما تمتاز به الرواية من أسلوب جذاب، زاخر بالمفردات الأنيقة، والكلمات الرشيقة، فمن المؤكد أن انتقاء أنيق الكلمات، واصطفاء رشيق المفردات، لن يستعصيا على كاتب خبير متمرس كالخال، بحيث تستغرقه كتابة رواية «الطين» سنيناً وشهوراً طوالاً «.. فرغم أن الأسلوب ميال لما هو سائد في معظم كتابات المعاصرين، وخاصة الشباب منهم من تفضيل وميل إلى التركيز على شاعرية التعبير على حساب حبكة المضمون كما في وصف الكاتب لعاصفة:
«كان شيء ما يحتدم في الفضاء، ويغزل سراً ليوشوش به الأشجار الغافية، فاهتزت له وجلة.. كانت تسير متخفية في أردية رياح طيبة دخلت القرية.. حتى إذا استقرت في قلبها انفجرت فجأة.. ولم تمهد لمحبيئها بعلامات.. فولدت متكاملة».. فهل يعقل أن تنفجر عاصفة فجأة في وسط القرية، أو حتى ان تبرز متكاملة من أردية رياح طيبة؟.. وكيف لم تمهد بعلامات وقد «وشوشت» بسرها للأشجار الغافية؟!.. تلك الهنات في المضمون، يغفر لها بامتياز، ما امتاز به الأسلوب من سبك حاذق ما بين الحديث والتراث، حين أنهى وصف تلك العاصفة بقول أحد شخوص الرواية: انها ريح صرصر كريح ثمود «.. ولا شك ان استخدام تلك الكلمات المنتقاة بعناية وذكاء من تراث مقدس، كفيل بأن يمس الوجدان، ليغفر بل ويمحو كل ما تقدم من زلات المضمون، من ذهن المتلقي»!
***
قد يستحسن التقاط الأنفاس، قبل استئناف اللهاث خلف البحث عن الأسباب، بالركون الى استراحة قصيرة، تكمن في اعتراف! اعتراف أن ما حفز كل ذلك البحث، بل وحتى كتابة المقال لم يكن سوى ديك .. ديك ماكر ختال.. ديك برز صائحاً فجأة من بين السطور.. ليقلب استرخاءة قارئ جوَّاب الى لاهث يبحث عن جواب.. المفارقة أن القارئ الجوَّاب يتخذ عادة من قراءة الروايات، واحات يستظل بصفحاتها من هجير متاهات قراءاته بحثا عن سراب، سراب جواب عن كيف ولماذا باتت أمته التي طالما كانت حادي ودليل قافلة حضارة البشر، لتصبح مهمشة ذليلة، كذيل يهش وينش على مؤخرة إبل تلك القافلة؟ فإذا بالرواية الظليلة ذاتها تنقلب الى متاهة بحاجة لدليل ولغز يبحث عن جواب!!
لغز أماطت اللثام عنه صيحة ديك ماكر.. «يخرج أهالي القرية لأداء الصلاة في غير أوقاتها»..
«ديك تبرأ منه صاحبه، فقذف به الى خارج الدار، لكنه عاد».. كما قال المؤلف بل ويمعن في أسفل ذات الصفحة في التركيز على ذلك الديك بتهميش يقول: «لم اورد تلك الحكاية عبثاً.. فقد فوت الديك نصراً مؤزراً لقائد الجيش الغازي حين نبه بصياحه القوم، فتقافزوا من مراقدهم لدفع الغزاة».. فهل اتخذ الخال من الديك رمزاً، مثلما اتخذ الغذامي من السدرة، رمزاً في رواية «السحارة»، أو حسن النعمي من الكثيب في مجموعة «حدث كثيب قال»، أو الحميدان من الاسطورة رمزاً في «الغجرية والثعبان»، أو من «السد» كناية كما فعل الشمري في «فيضة الرعد»؟!.. وإن اتخذ الخال من الديك كناية أو رمزاً، فلمن هو يرمز؟!.. تساؤل أجبر القارئ المأزوم على التوقف والعودة إلى بداية الرواية، ليقرأها بتؤدة وعناية لعله يجد الجواب بين أوراق واحة قلبها ديك ختال فجأة الى غاب!
***
بداية الرواية يلفها غموض، يحث أنامل القارئ على تقليب الصفحات، لاستكناه خباياه.. فهي تتحدث عن طبيب نفسي في مستشفى حكومي، يكسر رتابة مرضاه زائر مريب.. زائر يرفض الاعتراف بأنه مريض رغم مجيئه لعيادته بمحض إرادته، لكن ما يدعيه من أنه جاء للتو من الموت وما ينثره من طروحات مبهمة ملغزة، تثير التساؤلات حول من هو المريض ومن هو الطبيب، لا في ذهن القارئ فحسب، بل وفي ذهن الطبيب ذاته، وكأنما الطبيب والمريض والقارئ، امتزجوا ضمن ذات واحدة في ضبابية ذلك الغموض!.. غموض حاول الطبيب طرده من ذهنه بلقاء لصديق قديم، دفعت به ظروف الحياة أو ما ورثه من جينات، لاتخاذ علم التاريخ والآثار مهنة!.. مهنة شكلت أول رموز الرواية.. فما إن يشتعل حماس صديقه عالم الآثار لكشف النقاب وفك رموز حضارات الشمال القديمة حتى يواجه بتهديد الخروج عن الملة والتقاليد، لينزوي خلف مكتبه، منشغلاً كغيره بتوافه الأمور.
خيبة أمل الطبيب بصديقه، أعادت الى ذهنه الانشغال بزائره الغريب، الذي ما إن عاد بعد طول غياب حتى اكتشف الطبيب أنه لم يكن بلا سجل فحسب بل وبلا ظل.. حينما أصر على اصطحابه الى حديقة تحت الشمس.. ما شاهده من غرائب وما سمعه من زائره من عجائب تطابق أحداث حياته مع حياته ذاته، دفعه للتساؤل إن لم يكن ذلك الغريب هو ذاته، فقرر البحث عن الجواب بالعودة إلى ينابيع صباه في قريته .. فكل ذاك لم يكن سوى استهلال للدخول إلى صلب الرواية، ضمن أحداث ما جرى في تلك القرية!..
***
قرية منزوية في جبال الجنوب، تذكر القارئ بقرية «أبودهمان» في رواية «الحزام».. إلا أنها مختلفة عنها فيما ترمز إليه.. فهي محاطة من ثلاث جهات بكثبان الرمال ولا منفذ لها إلا من الشمال، على واد ما إن تنضب مياه أمطاره حتى يتحول الى مساكن للبعوض تتغذى على أجساد أهل القرية، ودوابها!.. قرية منسية لكونها تفتقر إلى ما تمد به يدها للآخرين.. قرية بلا تاريخ مسجل إلا حكايات «سجنت» بصدور الكبار.. حكايات عن شيخ القرية الذي أراد اظهار مقدرته بحمل بندقيته باحثاً عمن أحال أمن القرية إلى نهب متواصل، ليجد نفسه محاصراً من اللصوص، فسلبوه بندقيته وجردوه من ملابسه.. ولكن ما بين ليلة وضحاها خرجت القرية من شرنقتها.. أفاقت القرية على دخول السيارات، فأصيب الكثيرون بلوثة، ومن استطاع منهم تحمل الصدمة، لم يقدر على تحمل الأعداد الهائلة من الغرباء النازحين اليها!.. آخرون فرحوا بما هلّ عليهم من كل حدب وصوب من تموينات غذائية غريبة .. فمن ذلك الصباح غدت القرية عاصمة القرى المطلة على ذلك الوادي!
يتذكر أن أباه «رمز آخر!!..» انتهز وجود جيوش متناثرة ليغدو مراسلاً بينها مكتسباً حظوة لدى بعض القادة!.. لكنهم سرعان ما نسوه ما إن مضوا بجيوشهم فانشغل بطموحه لاكتساب احترام الأهالي متنازلاً عن لقب «الشيخ» الذي طالما لقبوه به إلى لقب لم يبح به، ظل ينخر هامته إلى أن أوصله للخرس.
***
وصف القرية ما كان وحده الزاخر بالرموز، بل إن شخوص القرية وما مر بها من أحداث مفعمة بالإيحاءات زاخرة بالايماءات، فهناك على سبيل المثال الإمام والملقن الرافضان فتح مدارس في القرية.. وهناك العجوز التي تفسر ما يحيق بالقرية من هزات، إنها مجرد انتقال للأرض من قرن الثور الحامل لها إلى قرنه الآخر، فما إن يهزأ من تفسيرها متنور، حتى يتلقى ضربة من ابنها تشج رأسه.. وهناك «الطين» اللازب اللاهب.. وهناك، وهناك..
فهل الاجابة عن سبب ما استغرقته كتابة الرواية من طول وقت، تكمن في أن «الخال» لم يحاول فقط رصد الأحداث كما فعل المنيف في خماسيته الشهيرة، ضمن رواية واحدة، بل واستكناه ما قد تأتي به الأيام.. ولكن بحذر وتؤدة دعته الى خلط الأوراق بمهارة فائقة، جعلته يحيط حتى الرموز بأقنعة هلامية تحتمل أكثر من تشخيص، بل وحتى المتعارضة!.. إن صحت تلك القراءة من قارئ مجتهد فلاشك أن في طياتها يكمن الجواب عن أسباب ما تطلبته الرواية من سنين وشهور لإكمالها.. وإن لم تصح فهي على الأقل شهادة بأن الرواية تحتمل أكثر من قراءة، وتلك ميزة لا تحظى بها سوى النوادر من الروايات المميزة، فما كل ديك صداح، يحمل صياحه أكثر من تفسير.
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|