فمع أنه يكمن وراء تلقيب امرىء القيس بلقب (الذائد) استطرافهم تصويره هذا لعملية ذود القوافي وهي تتوارد عليه توارد الإبل العِطاش فقد عبر لقبه أيضا عن أن الشاعر الحق لا يستدعي قوافيه ولا يتصنّعها، بل هي التي تستدعي موهبته وتصنع اسمه ولقبه. والتقفية في الشعر العربي ذات طبيعة إيقاعية نفسية شعرية، لا يملكها إلا الشاعر الموهوب، لا الناظم المتكلف. وعلى محكّها ينكشف شأن الشاعر من الناظم. وإذا كان لقب (الذائد( قد تُوّج به امرؤ القيس الموصوف بأنه سابق الشعراء، خَسَفَ لهم عين الشعر، وأنه أول من فتح الشعر فتبعوا أثره، حسبما يورد (ابن سلام الجمحيّ) و (ابن قتيبة) فإن هذا اللقب يبرز الكيفية الخاصة لإنتاج النص الشعري بين مكوّني الطبع والصنعة، بين اللحظة التجريبية الأولى، التي تتنزل على الشاعر فيها اللغة الشعرية، واللحظات اللاحقة التي يضطر فيها إلى أن يعمل ملكته التحريرية النقدية، ليذود تلك الغزارة من غثّ القوافي وسمينها عنه، كي يعزل مرجانها عن درها، ومن ثم يصطفي من كثرتها بضع قوافٍ جياد. |
إن هذه التجربة التي تلخص أبياتُ امرىء القيس معاناتها لتختصر تجربة الخلق الشعريّ لدى الشاعر، والشاعر ناقد بالفطرة. |
وهي إذ تعكس وصفاً ذاتياًّ للإجراء الشعري لدى امرىء القيس كي تقدّم رؤية عمومية، لما ينبغي لكل شاعر أن يخوضه من معاناة لا ترضى من الشعر بأول خاطر، بل تنشغل بنقد العمل وتمحيصه، حتى يصل إلى سدّة الجودة والإتقان الفني. والعبرة في هذه العملية ليس بطول النص وكثرة القوافي، أو بتقصيد القصائد المهلهلة، فعل المهلهل بن ربيعة، ولكن بالمنتخب الجيد منها. |
وتلك قضية أوغل النقاد جَدَلاً حولها فيما بعد، في «باب المطبوع والمصنوع»، جدلاً يستقي جذوره من تلك الرؤية القديمة إلى طبيعة الخَلْق الشعري وعمل الشاعر في إنتاج النص. وهي رؤية تنم عن وعي مبكّر في الشعر العربي بالمعادلة الدقيقة بين الطبع والصنعة، التي ينبغي أن تسفر نتيجتها عن توازن بين اللحظة الشعرية واللحظة النقدية عند الشاعر. وهي تنمّ كذلك عن وعي كتابي، يتّفق وما يمكن أن يتوقّع في ثقافة شاعر أمير كامرىء القيس. فهذه الانتقائية الحصيفة للقوافي التي تصورها أبياته هي على الأرجح نتاج عقلية كتابية لا عقلية شفاهية. ذلك أن الشعر الشفاهي أميل إلى أن يكون وليد اللحظة الانفعالية، الجماهيرية، ونتاجه خليط من الدرّ والمرجان، والاستكثار من القوافي، بلا تمحيص، ولا اصطفاء، ولا ايجاز. |
ولئن كانت دلالة لقب (الذائد) تتشعّب هكذا في ضروب القضايا الشعرية المختلفة، فلأنه لقب يرتكز على جَرَس الشعر العربي الأول، ألا وهو (القوافي) على أن مصطلح (القافية( لا يعني في هذا السياق مجرد الجزء الأخير من الأبيات الذي يبدأ من أول متحرك قبل ساكنين وإنما يشمل النص كله، من باب تسمية الكل باسم الجزء. فالقوافي تعني الأبيات. واتخاذها إشارة إلى الأبيات دليل على مركزيتها في البنية الشعرية العربية من جهة بوصفها مرتكز النغم في البيت، ورابط الوحدة الصوتية والدلالية في كامل النص ومن جهة أخرى دليل على أهميتها الخاصة لقرع جَرَس الشعر الأول لدى الشاعر العربي، الذي يستدعي لديه لحظات أخرى من الذَّود والعزل والاختيار. ولقد كان تقليد امرىء القيس بلقب (الذائد) بمثابة شهادة استحقاق من متلقّيه بامتيازه فعلاً في ترويض قوافيه، لتصبح ذات ريادة مفتاحية في تاريخ الشعر العربي. (وللحديث اتصال). |
* مقام: |