استراحة داخل صومعة الفكر (2/2) سعد البواردي
|
رائحة الزمن الآتي
ابراهيم احمد الوافي
110 صفحات من القطع الكبير
حسنا قلتَ فأبدعت.. بقيت مفردة وددت لو احللتها محل اخرى "نجمة القيثار" الانسب منها نغمة القيثار.. الرماد.. وبقاياه لا تشجع على التوقف حفاظا على عيوننا من تطايره مع هبة أي هواء حتى ولو كان معبرا عن صورة.. من الصعب يا صديقي استغراق كل محطاتك الموحية بالجمال فزمن المرحلة محدود معدود الخطوات من اجل هذا سنمر مرور الكرام على قصائدك "رفقا وفاء" و"لقاء عند مقبرة قديمة" بما فيها من تأمل يقارن بين الحياة والموت و"رائحة الزمن" التي صعقت انوفنا وما زالت و"آخر رسالة حب" لأنها لا تختلف كثيرا عن اول او وسط رسالة حب.. و"ليلة بكاء على غرناطة.." البكاء على الاطلال كالبكاء على اللبن المسكوب لا يمكن اعادته.. و"رسالتك الى طفلتك" ما تقوله لها هو ما يقوله الآباء لأطفالهم. و"ريثما تولد قصيدة" مخاض لابد منه كي تولد.. ثم "قصيدتك الاخيرة" ولن تكون قصيدتك الاخيرة فأمامنا قصائد وقصائد سنتوقف عندها مستأنسين بأفيائها الوارفة.. اولى تلك القصائد "عندما تغضب سلمى".. ما دهاها؟ وماذا قالت لك؟
"قالت: نداؤك لا يزال يموت في صخب الحجر
وعويلك الابدي عاد ليستريح من السفر
هل تنتظر.. حتى يباح لنا النظر؟"
نعم الانتظار افضل ففي العجلة الندامة وفي التأني السلامة.. لا تصدق تلك المقولة الغبية "خير الشيء عاجله" الا اذا كان بِرا.. ولأن الانتظار بالنسبة اليها اشد من القلق راحت تناشده مناشدة الحرة للحر لأن حبها اقوى من العاطفة وامضى من العاصفة:
"يا سيدي هذي الخيول تصعدت نحو السماء
ومضى النقيع يشق صدر الكبرياء
فاصنع دواء للسعال فربما نضع الرداء"
اين المرض..؟ لعله مرض الهوان لا الهوى.. هذا ما يكشف عنه خطابها المتوهج حماسة وسياسة:
"لا تبتئس.. فهناك خولة انجبت بعد القرون لنا "سناء"
وهناك حنجرة الحجارة ملأت مسارحنا غناء
فلنبدأ التصفيق حين تذاع اغنية البكاء"
ان البكاء من ذلك النوع الذي يضحك لسخريته..
"يا سيدي.. سطر من التاريخ يكفي للادانة
ألديك مفتاح الخزانة.."
مفتاح الخزانة يا صديقي ويا سيدتي بيد الذين يأمرون فيطاعون لأنهم الجبابرة العتاة القساة الأقوياء .. بعد ان فرغت من قراءة خطابها وادركت ماذا تعني اقول لك لا تنتظر حتى يباح لك النظر ان خير البر عاجله..
"نسيج العناكب الخضراء" ليس لنا حظ الاقتراب منها خشية ان نخدش نسيجها ونلحق بها الاذى فتغضب ونتعب .. مكتفين ومستعيضين عنها بموسوعة الشجن اللذيذ:
"وقفت روحي على كفيك يا وطني
فصلا من العشق في موسوعة الشجن
قصيدة من دمي باتت معالمها
حيا لارضك لا يبلى مدى الزمن
قصائدي انت لا صوتي ولا لغتي
غنى بها والدي فاشتاقها اذني
انا هنا منك شلال.. فان كتبت
يداي فيك اهازيجا تشنفني
فانما جدول ينساب في لغتي
بحبك الآن للأقوام يسكنني"
كم هي رائعة تلك القصيدة.. وكم هي رائعة تلك القفلة بكل ما تعنيه من مواطنة وانتماء..
"انا الذي قام في عينيك مؤتلقا
انا ابن صحرائك المعطاء يا وطني"
لاخص قولك يا شاعرنا الوافي والوفي
محطات ثلاث لاحظ لنا فيها.. والحياة حظوظ يخسر فيها الكثيرون.. ويربح فيها الكثيرون.. اما نحن فقد خسرنا حظ التوقف:
"العيد والمطر" و"حديث الطن" و"خروج" تلك الثلاثية التي لم ندخلها.. وخرجنا منها صفر اليدين.. الا ان ربحنا الذي خسرناه كسبناه في "ترنيمة الملاح التائه":
"لمس الحنين بخفة مجدافي
كضبابة سقطت على اشجاني
صفراء تنفثها نيوب تغربي
وتبثها كالسم في الحاني
ما عدت ابكي من حكايات الهوى
ابدا ولا من غربة التحنان"
اذا فماذا تبكي؟ لابد ان في الامر امراً.. يجيب على الفور دون تلكؤ ولا تردد:
"اليوم اهوى غير ان تغربي
بالأمس بات قضيتي وكياني
أهواك لكني احس بداخلي
للأمس اتجار بلا شطآن"
كلنا غرباء في عالم غريب ابحاره ضياع.. وبحاره قرصنة.. وبحور شعره تبتلعها امواج القنوط واليأس الا من رحمة الله.
شاعرنا الابداعي ابراهيم الوافي الذي لم يأخذ حقه في الظهور رغم استحقاقه "يريد ولادة اخرى".. غير مستنسخة.. لا وجود فيها لحياته الاولى المرتبكة.. مجرد ارادة يجسدها الوهم.. وتمليها الاماني الضاربة في سرابية خيالها.. ولكن لماذا لا ندعه يتمنى.. ويتغنى بما يريد حتى ولو كان واهما:
"لو كان لي لانسبت من بين الملابس
اقتفي اثر الدخان
شل الزمان فسافرت
اسراب آمالي بأجنحة الدخان
يا ليل قف بي عند باب الامس في شفتي حنين
شيء طفولي الملامح ضج في القلب الحزين
لكن هذا الجامح الليلي مجهول الهوية
رعف الرؤى والامس.. والنفس الشقية
ومضى يلح علي يستجدي الطموح
شيء جموح"
ما ابشع حياة يستجدي فيها الحي طموحه عاجزا عن تحقيقه ولو بصرخة "لا" وليس "لليت".. التمنيات لا تصنع حياة.. "لا تعبري" قالتها محطة عبرتها قافلتنا الشعرية.. ابت القافلة الا ان تعبر على مضض.. حتى ذلك الصديق على رصيف المحطة الأخرى قالت له لا فاشارة المرور خضراء لا تسمح بالتوقف.. ومحطات اخرى كان لها نفس النصيب لطول الرحلة وقصر المسافة.. ماذا عن المحطة الجديدة.. "قبل ان"..
"ابقي بمنأى عن الاشعار وانطلقي
بلا قيود فأنت الشمس في افقي
تلك الحروف التي ترنو على شفتي
هي الرماد الذي ما زال في ورقي"
رغم ان الرماد دلالة بقايا احتراق.. الا ان المداد اكثر التصاقا بالمعنى لو انه اختاره.. ويختتم قصيدته المعبرة:
"بل انت فجري الذي اخدجت مولده
فجاء عبر زحام الليل بالفلق
احبك الآن "قيسا" لا قصائده
فابقي بمنأى عن الاشعار وانطلقي"
ما دام قيس هو المحب الفاعل.. والفاعل مرفوع بالضمة لماذا حمل نصب النصب؟
شاعرنا طلق الاعوام طلقة بائنة لا رجوع عنها من اجلها.. والعودة اليها فهل يفلح؟
"تركت السنين.. وعدت اليك
شراعا على موجة ضائعة
وصوتا يشق عباب البحار
ويلثم انفاسي الجائعة
يموج بوجهي تراب الطريق
فالقاه في نشوة ناحبة"
النشوة مظهر سعادة.. والنحيب مصدر كآبة وحزن لا يجتمعان على مفهوم واحد.. حسنا لو قلت "فألقاه في لحظة كاذبة" نقلب الصفحات تلو الصفحات.. نعد الخطوات خطوة خطوة.. الخيارات امامنا تحكمها ظروف المرحلة والرحلة.. ولان الصراخ وحده دون الهمس يثير الفضول في عالم لغته الصراخ وصداع الرأس كان لابد لفضولنا من اخذ فرصة ما قبل الاخيرة:
المقطوعة بعنوان "صراخ الاسئلة العذراء":
"يراودني مثل كل ليالي الهجير الذي عاش في
غناء القرى.. والحنين العتيق..
أدرج عيني على السقف ذعرا ولست أرى اي شيء
سوى عالم الحالم المستفيق
لو ان الذي بكيت لهم.. وعزفت بهم
اتوا هرولوا نحو وجهي الشحيح"
ولكنهم لم يأتوا رغم ترجيعه للدعوة..
لانه لا يرى مأمنا لسكونه.. ولا ملجأ لحنينه سوى:
"سوى السقف ادرج عيني عليه
لعل الذي في حنيني يكون
أكون غدا.. انني لن اكون"
وفي النهاية مع صبحه في المدينة هل كان مشرقا لدربه؟ ام شارقا بعينه!
"كأنني والليل في دمي اراقب المدينة
اراقب الشعاع عن كثب
يجتث ثوب الليل في مآذن المدينة
وينقش الصباح في القبب
والناس يهجرون النوم في السرير
وطفلتي التي احب ستنشر الثياب في خيوط من حرير"
حسنا لو ابدلت مفردة "ستنشر الثياب" ب"ستنسج الثياب" انها الاصح..
وينتهي شاعرنا مع المدينة وصخبها الى نهاية تشبه كل نهاياته.. الليل معطفه.. والقبر احرفه.. واظافر من يحب المحناة يغمرها التراب.. لا شيء يهمه..
لقد صعقته الضوضاء.. وانهكته الفوضى وعاد الى رتمه الحزين:
"ويعرف الجميع ان شاعر المدينة
يعيش في المدينة بقرية الظلام"
يا صديقي الوافي الوفي بمشاعره الآن ادركت لماذا رائحة الزمن الآتي الذي تتعشقه بعد ان بت غريبا على حاضرك.. لا يهم.. فأنت بخلجات قلبك وعقلك اقوى من كل انكسار او هزيمة.. بالصدق وحدك تصادقك الحياة..
حتى ولو خذلك الاحياء..
+++++++++++++++++++++++++++
الرياض : ص.ب 231185
الرمز 11321
فاكس 2053338
+++++++++++++++++++++++++++
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|