هؤلاء، مرَّوا.. على جسر التنهدات!! شاعر.. انتفاضة الشهداء2/2
|
بقلم/ علوي طه الصافي (*)
ثم، وهو يحدثني كان متأففاً من الكرسي الذي أقعدته عليه لأنه غير مريح.. ولون الغرفة لا يدعو الى البهجة، سألني: ما مقدار الراتب الذي أتقاضاه؟ استغربت سؤاله الشخصي، لكنني بحكم صداقتي الحميمة القديمة به، لم أبخل عليه بالاجابة، فتبسم، وحين سألته عن سر ابتسامته.. أجابني بكل وقاحة: إنه أقل من راتب "السوبرفايزر" الذي يعمل عنده!! ضغطت على أعصابي.. وسألت في نفسي ساخراً منه: هل يعني هذا عرضاً للعمل "سوبرفايزر" لديه؟ ووددت لو صفعته.. لكنني ضغطت على أعصابي مرة أخرى تقديراً للصداقة التي تربطني به.. رغم معرفتي بأنه لا يحمل غير الابتدائية.. وأنه لا يجيد الانجليزية.. ولكن سبحان المغيِّر الذي لا يتغير.. وعرفت من حديثه.. وكيف صنع ثروته، فإذا هو واحد من مئات أثرياء مرحلة "الطفرة".. فاعتبرت هذه المرحلة مثل "الحرب" التي يغتني بسببها الكثير حتى أصبحت مضرباً لمثل مشهور هو "أثرياء حرب"!!.
ذهبت معه لأثبت له أنه وهو "المليونير" في حاجة لوساطتي، ووجاهتي رغم دخلي المحدود، وأنني مجرد موظف من ناحية، ولأشعره بأن مكانتي الأدبية أكبر من كل الملايين التي يمتلكها من ناحية ثانية.. وان بعض الرجال إذا كانت لهم مئات المواقف التي يحكمونها بثرواتهم، فإنهم في بعض المواقف، وعند بعض الشخصيات يحتاجون لغيرهم ممن هم ليسوا من الأثرياء من ناحية ثالثة.. وتقديراً للصداقة الانسانية من ناحية رابعة.. كل هذ الأسباب دفعتني لمرافقته. لكنني لم أذهب معه مثل "الأطرش في الزفة"، بل حرصت ان أعرف مشكلته قبل مقابلة الوزير.. كان للمشكلة شقان.. أحدهما رأيت وجاهته، وقدرت ان الصديق الوزير من الممكن حله، لأنه منطقي وموضوعي، ولا يحتاج الى وساطة.. أما الشق الثاني فأحسست من خلال تقديري، ومعرفتي الجيدة بأسلوب الصديق "القصيبي" الادارية أنه غير قابل للحل فطلبت من صديقي "المليونير" عدم اثارة الشق الثاني من المشكلة لأن الوزير لن يحله.. فوافق على طلبي.
حين قابلنا الوزير كان لطيفاً كعادته، فعرَّفته بالصديق "المليونير" باسمه المجرد، مع انني أعرف ان صفة "الشيخ" كانت تطلق حينذاك على الوزراء، والأثرياء، ووجهاء المجتمع البارزين فصدر أمر سام كما أذكر بعدم اطلاق صفة "الشيخ" على غير القضاة، ورجال الدين.. ولهذا أصبحت صفة "الأستاذ" تأخذ مكان صفة "الشيخ.. بالنسبة للوزراء، أو غيرهم، وصارت تقليداً في الصحف، باستثناء من يحمل شهادة "الدكتوراه" فإن صفة "الدكتور" تسبق اسمه على أساس انه حق علمي.
لهذا حين تسلم الصديق الدكتور "غازي القصيبي" وزارة الصحة كان يطلق على كل طبيب صفة "الدكتور" حتى لو لم يحمل شهادة "الدكتوراه"، فأصدر قراراً وزارياً حكيماً باستعمال صفة "طبيب" عوضا عن "دكتور" إلا إذا كان الطبيب يحمل شهادة "الدكتوراه" في الطب.. ولأن الصديق "القصيبي" لم يستمر طويلاً وزيراً لوزارة الصحة التي اشهد أنه رفع من مستوى العناية الصحية وتطور ايقاع العمل الصحي في الوزارة من حيث اهتمام الأطباء بالمرضى من المواطنين فقيرهم، وميسورهم، ومن حيث نوعية الرعاية الصحية، وتوفير الدواء.. وكان يقوم بزيارات مفاجئة ليلاً ونهاراً على المستشفيات، وأقسام الطوارئ.. وكانت قراراته الوزارية التصحيحية تتوالى باستمرار.. بل أذكر أنه لم يهمل الجانب الاداري.. وعين وكلاء للوزارة ممن يثق بهم، وبعضهم من طلبته في كلية التجارة، ثم سافروا للخارج وعادوا بشهادات تخصص عالية.. وأذكر أنه أوجد خطاً هاتفياً ساخناً يستقبل شكاوى المواطنين الصحية يعمل خلال الـ"24" ساعة.. وكما قلت لأن عمله لوزارة الصحة لم يطل.. وهذه شهادة للتاريخ عاصرتها.. وعشت آثارها الممتازة.. وقد أشار الدكتور "القصيبي" عن كيفية توليه وزارة الصحة في كتابه المعروف "حكاية.. في الادارة" معذرة لهذا "التداعي" لأن الذكريات تأخذ بعضها برقاب البعض الآخر، لكنها لا تنفصل عن بعضها، لتعلقها بالشخصية التي تمثل محور الذكريات.. وقطبها الرئيس.
وحين شرحت للوزير بطريقتي الخاصة عن شق المشكلة الذي كنت أتوقع حله.. تحقق ما توقعته إذ وافق على الحل.. وفي الوقت الذي كنت أزمع توديع الوزير إذ بصديقي "المليونير" ينتهز الفرصة ليحدث الوزير عن الشق الآخر الذي واجهه الوزير بالرفض الصارم.. والتفت اليَّ قائلاً: "ما حكايتك مع الأثرياء".. قبل أشهر جئت مع ثري.. واليوم تأتي مع ثري.. هل أنت شريك الأثرياء دون أن نعلم؟
كان سؤالاً استفزازياً مصحوباً بالنكتة.. فرددت عليه إنني حاطب ليل.. أو "تأبط شراً".. فأنا بريء من الثراء براءة الذئب من دم يوسف.. فلا خيل عندي أهديها، ولا مال.. فاشل في شؤون الثروات، وكيفية جمعها.. ليلي كنهاري.. ونهاري كليلي.. لكن بعض أثرياء "الطفرة" اليوم، كانوا أصدقاء الأمس، قبل أن يصبحوا أثرياء.
وإذا كانوا يقولون: من صادق السعداء يسعد.. واستتلاء لذلك فإن من صادق الأثرياء صار ثرياً.. فإنني لم أنجح في الحالتين.. فردَّ بدعابة محببة: ومن صادق الوزراء استوزر!! فضحكنا، وكان في طريقه للخروج من مكتبه، فقال لمدير مكتبه مداعباً: إذا طلب الأخ علوي مقابلتي في المكتب، فلا تسمح لأحد بالدخول معه.
حين زرته في السفارة بلندن عندما كان سفيراً للمملكة للسلام عليه كواجب تمليه الصداقة التي تربطني به اعتذر عن مقابلتي يومها "يوم اثنين" عندما حادثه سكرتيره بوجودي.. وطلب من سكرتيره أن أحضر يوم الأربعاء مساء.. وعندما سألت السكرتير لماذا يوم الأربعاء مساء بالذات؟ فرد عليَّ هو الوقت الذي يستقبل فيه الطلبة السعوديين للتعرف على مشاكلهم، وسيرهم الدراسية.. قلت للسكرتير: لكنني لست طالباً، وقد جئت من المملكة لزيارته، والسلام عليه كصديق لا كسفير.. فليس من عادتي وطبيعتي زيارة أي سفير لا تربطني به علاقة صداقة!!.
وخرجت من السفارة، وذيول الخيبة تلفني، لا أقوى على شيء.. وضاقت بي مدينة "لندن" على سعتها.. واتجهت فوراً الى غرفتي في الفندق لأخلو الى نفسي المتأزمة.. فكرت طويلا في هدوء.. محاولاً التخلي عن مشاعري الحساسة.. أقنع نفسي ببعض الحِكَم العربية نثراً، وشعراً.. قلت لنفسي "لعل له عذراً، وأنت تلوم".
وأخذت أقارن بين السفير "غازي" في البحرين حيث أكرمني بتناول طعام الغداء في منزله، وعرَّفني بصديقه المفكر البحريني "الدكتور الأنصاري".. ولم يكتف بذلك، بل دفع مصاريف اقامتي في الفندق عن اليومين اللذين مكثتهما في البحرين لزيارته، والاستئناس بحديثه الممتع.. وبين السفير "غازي" في لندن الذي اعتذر عن مقابلتي له لدقائق معدودة.. هل هو فارق الظرفين "الزمكانية"؟ وهل انتظر في لندن ليومين حتى يأتي يوم الأربعاء مساء، فأذهب اليه؟
وأخيراً، رسا مجداف تفكيري على أنه من العقل والحكمة الانتظار الى يوم الأربعاء مساء، فالصداقة تبنى وتترسخ في سنين.. أما القطيعة فتنشأ خلال دقائق طائشة، يحكمها الانفعال السريع!!.
وذهبت حسب الموعد.. وجدته محاطاً بمجموعة من طلابنا الشباب.. فرَّحب بي بحرارة، وصدق غير مفتعل.. فذاب الجليد اللندني الذي يسكن ذاكرتي.. ويسيطر على مشاعري.. ونسيت كل شيء.. وانتحى بي جانبا بعيداً عن جميع الطلبة.. وسألني كصديق عن أحوالي، ومشاريعي الأدبية.. ثم ودَّعني كما استقبلني، وكما عرفته من عشرات السنين.. وحمدت الله انني انتظرت، ولم أغادر لندن قبل ان أراه. فالناس معادن، والمعادن النفيسة لا تتغير.. ولا تبلى.. وتظل محتفظة بقيمتها وروعتها كالأحجار الكريمة طوال وجودها.. والرجال الرجال كنوز لا تتناقص.. والأصدقاء أروع أرصدتنا في الحياة.
من لندن أطلَّ علينا روائياً من خلال روايته "شقة الحرية" التي قال عنها بعض النقاد أنها ليست رواية.. بل "سيرة ذاتية" وعجبتُ لهذا الرأي لقناعتي بأن أي عمل ابداعي شعراً كان، أم رواية، أم قصة قصيرة.. هو في واقعه وجه من وجوه "السيرة الذاتية".. وفيه من حياة المبدع، والظروف التي أحاطت به.
المبدع ليس جهاز "كمبيوتر" يعمل بطريقة آلية خالية من المشاعر والأحاسيس "الذاتية".. والمبدع لا يكتب من فراغ.. إنه شريحة انسانية فاعلة، متأثرة، ومؤثرة.. يعيش بين جماعة من الناس لهم طباعهم، ونزعاتهم المختلفة.. وحين يبدع لا يستطيع ان يفصل ذاته عما يبدعه، لأنه انسان يحب، ويكره.. يعشق.. ويُعشق.. يبكي، ويضحك.. يفرح، ويحزن.. يفشل،، وينجح.. يجوع، ويشبع..يفقر، ويغتني.. ينتصر، وينهزم.. يسقط، ويرتفع.. فكيف نفصله عن عمله الابداعي الذي يحمل فكره، وتفكيره.. كيف نجرده من ذاته.. وسيرته الذاتية؟
وإذا افترضنا اعتباطا ان رواية "شقة الحرية" مجرد سيرة ذاتية، فماذا عن بقية الروايات مثل "حكاية حب".. و"العصفورية"، وغيرهما، هل نعدهما خاليين من ذات المؤلف؟ سؤال استنكاري ينتصب في وجوهنا!!.
لقد قيل عن رواية "موسم الهجرة الى الشمال" إنها سيرة ذاتية لمؤلفها "الطيب الصالح".. كما قيل عن ثلاثية "نجيب محفوظ" "السكرية.. وبين القصرين.. وقصر الشوق" انها سيرة ذاتية لمؤلفها. ولو نظرنا من خلال هذا المنظور الغريب لصادرنا كل الأعمال الابداعية لصالح "السيرة الذاتية".. وبهذا تنقلب الموازين.. وتصبح كل الاتجاهات اتجاها واحداً.. وهذا مالا يتفق مع منطق سليم.. وحكم عادل يفرز الأجناس الأدبية بعضها عن البعض الآخر.. واختلاط الأوراق على الناقد لا تجعله بمنأى عن الخلط العشوائي.. ان لم تبعده عن التنظير التطبيقي للنقد الموضوعي غير المحكوم بالآراء المتسرعة.
ولاهتمامي بالدراسات المقارنة فقد وجدت تشابهاً تأثيرياً بين رواية "قصة حب" لاريك سيجال.. ورواية "حكايةحب" لغازي القصيبي.
وقد توفرت بعض شروط الدراسات المقارنة من حيث اختلاف اللغتن اللتين كتبت بهما الروايتان.. فالأولى كُتبت باللغة الانجليزية.. والثانية كُتبت باللغة العربية.. ولأن الأولى هي الأسبق في الظهور بثلاثة عقود تقريباً، أو أكثر.. والثانية ظهرت قبل سنتين تقريباً.
وقد ثبت ان "القصيبي" اطلع على رواية "أريك سيجال" قبل ان يكتب روايته "حكاية حب" بدليل اشارة "القصيبي" في روايته لمواقف في رواية"سيجال" ولأن الأخير أسبق بروايته فهذا يدل على تأثر "القصيبي" بها.
أما من حيث المضمون فنجد ان "القصيبي" قد حوَّل "الصراع الطبقي" في رواية "سيجال" الى صراع فكري في روايته "حكاية حب". كما جعل البطل في روايته هو الذي أصيب بمرض عضال بينما البطلة في رواية "سيجال" هي التي أصيبت بمرض عضال.
ولا نستطيع ان نجزم الآن كل الجزم على تأثر "القصيبي" برواية "سيجال" ومحاكاتها رغم توافر أهم شروط الدراسة المقارنة التي أنوي القيام بها بعد حصولي على نسخة من رواية "قصة حب" لمؤلفها "أريك سيجال" التي لا توجد في مكتبتي.. فإذا كان لدى الصديق "القصيبي" وغيره نسخة منها باللغة العربية فأرجو مساعدتي بتزويدي بها، لأتمكن من اجراء الدراسة المقارنة الموضوعية والقليل الذين يعرفون ان غازي القصيبي يتحلَّى بالسخرية اللاذعة، والظرف.. والنكتة في غير خبث!!. ولم يسعدني الحظ لمرافقته في رحلة الى خارج المملكة لاكتشاف الوجه الآخر له.
+++++++++++++++++++++++++++
(*) ص.ب: 7967 / الرياض: 11472
+++++++++++++++++++++++++++
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|