البوهيمية الشعبية
|
يستدرج الأستاذ سعيد الدحية برودتنا بطروحاته الساخنة، ويورط بدهاء عفويتنا الساكنة، إلا أنها ورطة بيضاء لا زلنا على استعداد لدفع المزيد من الثمن الباهظ في سبيل الفوز بالتواصل مع الثقافية وإن رغمت أنوف الرغائب السطحية والوقتية! وعندما تأملت صيده الجديد (البوهيمية) تيقنت أني متورط مع هذا الصديق لا محالة!! حتى أني لأقول في بعض الليالي العاتية (حسبي الله عليك يا سعيد) ومن أراد التأكد من صحة توجسي من (سعيد) فليرجع للعدد 95 وليتأمل صورة الغلاف!! أما وجهة نظري في البوهيمية فأرى أنها لا ترتبط بزمن دون زمن ولا تتوفر في مكان عن مكان، كما أنها لا ترتكن لفكر وحيد ولا تقترن بتوجه جديد، فالنزعة خاصة بفرد له تصوره وميوله وقناعاته بشكله وبمضمونه، والبوهيمية أقرب ما تكون إلى التصوف الذي زخرت به كتب التراث فقد كان لبعض العارفين نزعة نحو العزلة والبعد عن الناس والاكتفاء بقليل من طعام وشراب ولبس الصوف البالي والسرابيل المتهالكة، ولكل زمن بوهيميوه ولكل بوهيمي طريقته! وللأساطير والخرافات دور كبير في تأصيل بعض القيم والعادات المجتمعية فنحن وفي مرحلة مبكرة من طفولتنا كنا نسمع عن خطف الجان للإنسان إذا أكل لحم ماعز ولم يغسل يديه جيداً من رائحة الزفر! وكان بعض الناس يتعب جداً إذا أكل من جدي أو سخلة لأيام ويأتون له بالفقيه ليرقيه ويتمتم حوله! وكان أحد شبان قريتنا معجباً بصوته لدرجة الهوس وقرر ذات مساء أن يصبح شاعراً وفي مناسبة زفاف قريب له ساهم بقصيدة شعبية في العرضة المقامة ليلة الزفاف وبدأ بعض أقرانه يسألونه كيف أصبح شاعراً؟ فقال: أكلت لحم ماعز ولم أغسل يدي وخرجت عند المقبرة في جوف ليلة مظلمة فجاءني اثنان أعرف وجهيهما وحملاني إلى الوادي ووجدت تحت شجرة كبيرة فلجا يسيل بلبن أبيض فسقياني منه حتى رويت وأعاداني للبيت فأصابتني الحمى ثلاثة أيام وما إن أشرقت شمس اليوم الرابع حى بدأ الشعر ينساب من لساني كالحليب! ونحن الصغار جلوس حول المتحدث ورفاقه نتابع بدهشة وتوجس! ونحلم بيوم تخطفنا فيه الجن لنسبح في ملكوت الشعر ويا لبراءة الطفولة، ويروى أن أحد أفراد قريتنا قابل شاعراً قادماً من اليمن وطلب منه أن يعلمه الشعر! فنصحه اليمني بالذهاب إلى بلجرشي (25 جنوب الباحة) ويسأل عن جبل الجن الموجود في قرية حزنة وإذا وصل يمكث هناك ثلاثة أيام بلياليها! قال الراوي: وقد أخذ الرجل بالنصيحة وصعد الجبل ووجد به غاراً لا يتسع لأكثر من شخص فدخله بعد العصر ولما كساه الليل بظلامه ارتعد من الخوف حتى ذابت مفاصله ودخل في غيبوبة امتدت لشهر وحمل من هناك على جمل ومكث سبعة أشهر لا يتكلم وفي أول يوم من الشهر الثامن صدح بأعذب شعر أصاخت له الآذان وطربت له الغواني وسار بذكره الركبان والمشاة! كما أن من تعاطوا علاج الفقهاء في أزمنة ولت يتذكرون الحجبة التي يفرضها المطبب على مريضه ليمكث أربعين يوما لا يرى ضوءاً ولا يكلم بشراً عدا أمه ولا يغتسل ويتمسح كل عشية بشيء من دهن وماء مخلوط بالزعفران وريق الفقيه! وهذه الصور توحي بأن الإبداع نزعة شيطانية ومن تلبسه هذا المخلوق الناري فإنه يحسن في ناظريه ما ليس بالحسن ويقحمه في متاهة جلد الذات وحرمانها من متع الحياة وربما تابع بعضنا مناظر وتصرفات لأشخاص من عبدة الشيطان فاشمأز من بشاعة ما رأى! ولا ريب أن من العقول ما أشقى.
د. علي بن محمد الرباعي
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|