أمّا الوجه الآخر لمظهر التلفيق في نسق القِيَم الثلاث (الجود الشجاعة الأمانة)، فهو عَزْوُ هذه الأخيرة إلى الإرْث والقِدَم! ولو أريد الإنصاف لبدت قيمة (الأمانة) اليوم أحسن حالاً منها في تاريخ العرب، وإلى وقت قريب. وقد تقدّم في مساق مضى بيتُ (طرفة الجاهلي) الداعي إلى التروّي من الحياة بلا هوادة، كما تقدّم بيت (النجاشيّ الحارثيّ الإسلاميّ) الهاجي قبيلة عربية، والمخزي أبناءها، ب(لا يظلمون.. ولا يغدرون). فقيمة (الأمانة) قيمة دينية وحضارية واقتصادية، ترسّخها التربية والنُّظُم الاجتماعية؛ ولأنْ يقول قائل إن للحضارة الغربية، وللتقدّم الفكريّ الحديث، علاقة تأثيرية إيجابية في إشاعة التحلّي بقيمة (الأمانة) في المجتمعات العربية اليوم، أقرب إلى الصواب من أن يزعم أن لهما علاقة تأثيرية سلبية. غير أن من قيمنا السلبيّة تعليق كل تقصيرٍ بعدوّ تقليديّ، هو في هذا السياق (الغرب). |
ولقد أجملتْ (موسوعة القيم) محاولتها لتكريس الماضي، إذ تقول: بأنها تحاول (إحضار قِيَم الماضي وأخلاقه بلغة معاصرة وأسلوب محدث قريب من إدراك المثقّفين، متضمن حصيلة الماضي وقِيَمَه). ولكن ألسنا هنا أمام صورة (الخيمة تدخل القصر)؟! أو قِيَم الماضي تصلح بالضرورة للحاضر؟! أم أنها قِيَم تخلّقتْ في رَحِم الماضي وفق ضرورات مجتمعه؟ ومن المكابرة الزعم أنها صالحة لكل زمان ومكان، كما أن من المغالطة الادّعاء أن قِيَم المجتمعات البسيطة (النّيئة) في الماضي أكمل وأفضل من قِيَم المجتمعات الحضارية المتعلّمة اليوم؟!: {قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} (سورة المائدة:104). هذا فضلاً عن الزعم بأن المجتمع الذي أنتج قِيَم الماضي مع بدائيته غير قادر على إنتاج قِيَمٍ للحاضر، رغم ترقِّيْه. وإذن هو خطاب يصادر على صواب شعارات ورثناها دون برهنة علمية، بل دون أن يعالج شيئاً من مشكلات المجتمع المعاصرة ليكشف خطل قيمه، عِوَض الاكتفاء بالتلويح بالماضي نموذجاً مجيداً لا يُعلى عليه! |
وإذا كان هذا هو رأي هذا الخطاب في الماضي، فله في الحاضر رأي نقيض، تتناثر ملامحه في تضاعيف مقدمة (الموسوعة)، غير أنها تظهر منها على نحو خاصفي الموضوع المتعلّق ب(التغيّر القيميّ والأخلاقي) في مثل الحديث عن (أن البحث عن الرفاه، وما ينتج عنه من لذّة ومتعة وقِيَم، ليس ممّا عُهِد في البيئة السالفة المحكومة بالأخلاق المرعية)(2). لكأن الأسلاف لو تهيّأتْ لهم الظروف الراهنة لما بحثوا عن الرفاه، ولزهدوا في اللذة والمتعة! وتلك مقولة لا يقرّها من له أدنى اطّلاع على تاريخ العرب والمسلمين. بل إنه سيجد في تطلّب ذلك لديهم وفي ما دُوّن عنهم فقط ما قد ينبو عنه الذوق الحديث وما صار اليوم ضرباً من الخيال واللامعقول! وحسب المرء أن يستذكر مثلاً واحداً في تملّك الإنسان للإنسان، في مجتمع الطبقيات، وأُسَر السادة والعبيد، والحرائر والإماء، والجواري والغلمان. فكيف يقال إن (البحث عن الرفاه، وما ينتج عنه من لذّة ومتعة وقِيَم ليس مما عُهِد في البيئة السالفة المحكومة بالأخلاق المرعية)؟! ليس سوى تقديس الماضي من إجابة عن هذا السؤال! |
إلا أن ذلك التصوّر الملائكيّ لمجتمع الماضي وقِيَمه ليس بمستغرب أمام ما تزعمه (الموسوعة)(3) في محاكمتها للمجتمع الراهن وقِيَمه من أن الأخلاق (صارت غير مستقلّة عن واقع الحياة). وهل كانت الأخلاق مستقلة عن واقع الحياة في الماضي؟! هذا ما يدّعيه هذا الخطاب (الموسوعي)! إذْ يوشك أن يقطع بأن القِيَم تنزلّت من السماء ولم تنبت بين ظهرانيّ المجتمع! مع أنه حتى ما تنزّل من تلك القِيَم والأخلاق من السماء إنما تنزّل وفق مقتضيات المجتمعات البشرية، واشتراطات العصر الذي تنزّلتْ فيه الرسالة السماوية. فكان الإسلامُ آخرُ الرسالات السماوية خلاصةَ الأديان السابقة، من حيث كان المجتمع الذي ظهر عليه خلاصة تراكمات بشرية من التربية والتجارب والتحوّلات؛ فجاء في قِيَمه أكثر الأديان استجابة لمستدعِيات الأحوال، والتصاقاً من أخلاقياته بواقعية الحياة و(ديناميّتها). |
ولو تأمّل الباحث في واقع المجتمع المعاصر، لوجد الإسلام المستنير لا قِيَم العرب الماضية وعوائدهم، ولا الإسلام المتأوّل وفق التقاليد والنزعات الإيديولوجية مطواعاً في التشكّل حسب حاجات الإنسان وشروطه (الزمكانية). من حيث كان الإسلام بعكس القِيَم العربية النمطية ونظائرها من القِيَم المؤسلمة قد بثّ في نظريته الشمولية مبادئ عامة، ثم ترك فَلَك الحياة والتطوّر الواسع للإنسان، ما دام يدور على محور تلك المبادئ. وهي مبادئ، إذا تأمّلها العقل المجرّد، رآها عقلانية عالميّة، سهلة التقبّل والتكيُف. |
(وللبحث اتصال، بمشيئة الله). |
إحالات |
1 (د.ت)، شرح ديوان المتنبي، وضَعه: عبدالرحمن البرقوقي، (بيروت: دار الكتاب العربي)، 4: 307308. |
2 موسوعة القِيَم: 1: 97. |
3 م.ن. |
|
aalfaify@hotmial.com |