البناء داخل جدران قديمة قراءة لمجموعة عبدالله الناصر القصصية (سيرة نعل) (4 4) عبدالله الماجد
|
ويبلغ التهكم مرارته في فضح ما يجري في المهرجان من نفاق وتزييف للمشاعر الإنسانية يقول صابر:
(بين يدي قصيدة لشاعر مجهول، أو ربما أنه لم يوقعها باسمه خوفاً، كثيرون يخافون المنحدرات الوعرة.. على كل القصيدة من منظوري أكثر من رائعة، ليس مهماً مَنْ قائلها، المهم أنها قصيدة عظيمة. اسم القصيدة المنشار، وهي تتحدث عن نجار عربي مشهور ينشر الجماجم، ويحول الجمجمة إلى فلقتين محكمتين، ليصنع منها فخاخاً لصيد العصافير البرية الملعونة المتمردة على الأقفاص. آلوه، هل تسمعني؟ نعم نعم أسمعك أسمعك يا صابر ويبدو أن القصيدة جميلة. يا أخي نحن نعاني من تمرد العصافير لذا فنحن محتاجون إلى المزيد من صناعة الفخاح والفزّاعات. ابعث إليّ بالقصيدة كي أطلع مولانا عليها. لا، لا لن أبعثها خشية عليك، فالقصيدة لا تدعو إلى المزيد من صناعة الفخاخ، بل تدعو العصافير إلى المزيد من التمرد، وتعطيهم وصفاً دقيقاً للفخاخ كي يحذروا من الوقوع فيها، أفهمت؟.. نعم، نعم فهمت. لا داعي لبعثها فأنا كما تعلم أخاف من القصائد ذات التضاريس الصعبة ومن الجروف الجبلية والعصافير الملعونة. ولكن قل لي يا فرحان ألا يوجد لديكم عصافير في القاعة السفلى؟.
أعوذ بالله، ولا عصفور واحد. يوجد لدينا، دجاجات، الدجاجة تسلم رأسها ليدك وتنام). (ص18 ، 19).
أعتقد أن الإيحاءات في هذه القصة، واضحة للقارئ المتابع، لكنها تصل إليه بأسلوب غير مباشر.
القاسم المشترك في (فن) عبدالله الناصر، هو البحث عن الأصالة، وتعزيزها في مواجهة عصر الانحلال والتردي، الذي بدأ يجتاح عبر وجوه متعددة، تحمل في جنانها عوامل الهدم لكل ما هو أصيل في حياة الإنسان، وتتعدد رموز الأصالة الموحية في هذا الفن عبر مفردات واضحة بل هي إذا ما تم تركيبها داخل نصوصها، تفجرت بمكنون الاعتراض الذي يبلغ في أدائه الفني العالي إلى (ملحمية الإنشاد) بأمجاد هذا الأصيل في حياة الأمة في أحيان، وفي أحيان أخرى إلى (نشيد الحسرة واللوعة) المعبّر عن هشاشة الأصيل في أعماق البشر المنكسرة عبر هزائم متعددة منها ما هو سيكلوجي (مركب نفسي) خاص ومنها عوامل خارجية عامة.
ما بين الخاص والعام، تعبر إحدى أهم قصص هذه المجموعة التي تحمل عنواناً مباشراً هو (هشاشة) عن هذا المنحى: شجرة التين، رغم أنها شاخت ولم يعد ثمرها مجدياً، إلا أنها تظل في ذهنية الأصالة (شجرة كريمة) بل إنها (شجرة العائلة) ويقفز رمز بقائها إلى مرتبة أعلى إنها (جدتنا) وبمعنى إنساني يُمعن في حدة التأثير هي (جدتنا. هل يتمنى الناس لجدتهم الموت لأنها توفقت عن الإنجاب؟!) (ص67) إلى هذا المستوى الإنساني من التعبير، يرتفع صوت الاحتجاج في مواجهة تدمير رموز الأصالة في حياة الأمة. لكن أمام الضعف الكامن في نفوس البشر والهزائم التي تكسر هواجس الانتصار والقوة يتم تدمير الأصالة. (في صباح ذات يوم كان الفراغ والسماء الزرقاء يملآن مكان شجرة التين). (ص68).
وإذا كانت (شجرة التين) رمزاً من رموز الأصالة، فإن (الحصان الأصيل) دلالة واضحة للأصالة في حياة الإنسان العربي، وهو المعنى الذي تجسده قصة (الممرور) حيث يموت الحصان نتيجة للجهل عن طريق تطبيبه على يد مدع بالطب يكوي الحصان فيموت، في حين لم يكن بالحصان علّة غير أن في رجله (مسمار) يحتاج إلى نزعه. هاهي الأصالة تموت عن طريق الجهل وعدم تقدير معناها، والاحتفاء بها. إن قطع (شجرة التين) بهذه السهولة، هو معنى من معاني (الهشاشة) التي يعاني منها فهمنا لمعنى الأصالة. هذه الشجرة هي تاريخ الأسرة، واجتثاثها هو قطع لكل هذه المعاني.
وما بين (هشاشة) الأصالة في داخل نفوس البشر، كمعنى انثربولوجي، ثقافي، وفقدها وضياعها بأسباب منها الجهل، هذا المعنى يتطور في قصة (سياحة وسباحة) في هذه القصة التي استحالت إلى رسم (كاريكاتيري) مملوء بالمرارة يُشخص التعامل مع صيغ المجتمع الخارجي الذي يحرص على تمجيد الأصيل وتأطيره بالحداثة عبر نسق متناغم، الأصالة تمنح الحاضر وجوداً متطوراً وإلا مات الأصيل وبهت الحاضر. في هذه القصة سيدة عربية تحمل معها نسق إنثربولوجيتها (تصرفاتها الاجتماعية) فهي حينما تذهب إلى التنزه في أحد متنزهات الحداثة والمعاصرة في بلد أوروبي لا تتخلى عن ثقافتها الاجتماعية التي لا تنسجم مع المظاهر العامة والتعامل مع مفرداتها في ذلك البلد، فهي تفترش الجريدة تحت شجرة وتبدأ هي وزوجها في تناول ما حملاها من أكل ومكسرات ثم يتركها ما خلفاه على الأرض. وتتوجه إلى بحيرة البط والأوز وتشرع في إطعام الطيور بكرم زائد على الطريقة العربية، ويبدو أن حاتميتها تجلت حينما أمعنت في نثر الأكل للطيور في وسط البحيرة، فدارت معركة بين الطيور لالتهام الطعام، وفي غمرة هذا الفرح الذي شعرت به نسبت كل شيء، وحينما استدارت اختل توازنها وسقطت في البحيرة, وتم انتشالها بمساعدة فرق الإنقاذ. (وفي الغد خرجت الصحافة بصور ومانشيتات ضخمة، وهي تتحدث عن الواقعة الأسطورية. كما أنها تحذر جميع السيدات العربيات السائحات من خطر السباحة في بحيرات الحدائق العامة). (ص89). لقد استطاع الكاتب أن يبلغنا رسالته تلك وبوضح متناه وصل إلى مستوى التقرير والمباشرة، وهو أسلوب يأنفه الفن القصصي، لكن ما حيلة الكاتب وقد اختار لقصته موضوعاً من الصعب معالجته إلا بهذا المستوى من التقرير والمباشرة. والواقع أن هذه الحالة هي إحدى مثالب الضعف الفني في الإبداع بصفة عامة، وهي حالة ليست خاصة بكاتبنا، وإنما شيوعها في فن المبدعين سببه المباشر اختيار الموضوع. إن كل تجربة قالبها الفني، شعراً، وقصة، أو مقالة، ومسرحية إلى غير ذلك من قوالب الإبداع الفني.
هذه المعضلة الفنية تذكرني على نحو آخر، بأدب (اللامعقول) فحين أراد كتاب هذا النوع من الأدب، اختراق المألوف من التجارب الفنية الرومانسية والواقعية والرمزية، وإحساسهم بلا معقولية الواقع المعاش وعبثيته، لجأوا إلى أُطر فيها من التغريب والإبهام مما اصطلح عليه النقد بتعريفه باللامعقول. وهو في واقع الأمر صورة من صور الهروب من الشرك المنصوب لبعض التجارب وأساليب التعبير عنها. فرأينا كيف يعالج (يوجين يونسكو) موضوع الهلع الإنساني من مجهول قادم تقذف به حياته بعد أيام الحروب والنشاط العلمي والتقني في اختراع كل ما سوف يحيط بهذه الحياة الإنسانية، ويفقدها عفويتها وبساطتها وانسانيتها لقد كانت هذه (نبوءة فنية) مبكرة في بداية الخمسينات من القرن الماضي، فأبدع مسرحيته (الخرتيت) التي تصور نمو كائن يكبر ويتمدد ويصبح له أذرع وجسم يكبر فيتسلق من النوافذ ثم ينزل إلى الشوارع ويسد كل منافذ الحياة. إنه (اللاعقل) الذي يفجر العقل بالتفكير وكيف استحال الإنسان إلى (خرتيت) تنعدم في حواسه المقومات الإنسانية.
قصة (الحرارة) في هذه المجموعة يفترض أن ينظر إليها على النحو الذي تم فيه تحليل قصة (سياحة وسباحة) فهي تعرّي السلوك المزيف والنفاق الاجتماعي، وهي ما تصفه تجربة القصة بوضوح ومباشرة، طبيب يعالج مريضة على أنها ابنة (وزير) فيمنحها اهتمامه الزائد ورعايته، لكنه حينما أراد أن يكتب اسمها الكامل بدأ يسأل عمن تكون ابنة أي وزير ممن يتوقعم، فيتكشف الأمر أنها ابنة رجل من عامة الشعب، بل يشاهد الطبيب الوزير الحقيقي وابنته يغادران من العيادة المجاورة. القيمة الفنية في هذه التجربة، تكمن في ذروة الحدث المتنامية وتفجيرها عند النهاية.
ثلاث قصص في هذه المجموعة، عبرن بشكل متقارب عن حالة الفقد في حياة الإنسان، الشعور بامتلاك القيمة، ثم يفقدها لأنها أصلاً ليست موجودة في حياة هؤلاء البشر. قصة (بنك الريح) شخص يعثر فجأة على ورقة بمائة دولار تلعب بها الرياح وجدها من (قبض الريح) وهو الفقير المعدم، فيحلو له ممارسة اللعبة، فكما وجدها يمارس إطلاقها للريح ويتلذذ بإمساكها دلالة على عدم تصديقه لنفسه بأنه أصبح يملك هذا المبلغ، وعلى ما هو متوقع في آخر تجربة من اللعب مع (قبض الريح) تصعد الورقة وتذوب في الفضاء. وهو نفس المعنى على نحو آخر في قصة (اللقاء) حيث يظن أنه التقى بمن يود لقياها، ويبدو أنه لم يكن قد رآها فالمجهول بالنسبة له رائع، هكذا كان يقول لكن هذ المجهول يتكشف في النهاية عبر رسالة مكتوبة تقول إن حاملة الرسالة صديقتها وتعتذر عن الحضور. هذه القصة لا يمكن اختزالها على هذا النحو، لكنها تقول أشياء مهمة في بنية المجتمع والإنسان الذي لا يزال نصفه الآخر محجوباً، ويتم التعارف بينهما عبر الرسائل وسماع الصوت عبر الهاتف.
هذا التعارف المحجوب في المجتمع الإقليمي، يزداد عمقاً على مستوى المجتمع الإنساني الشاسع، حتى يتصف بصفة الاغتراب بين البشر، ففي قصة (الإنسان) نعيش هذا الاغتراب الذي يشعر به هذا القادم من الصحراء في الشرق، إلى هذه (المدينة الساحرة بالاخضرار وواحات الماء الواسعة) في أقصى الغرب. لقد سهلت المدنيّة سهولة الانتقال بين المدن، وقرّبت المسافات بين البشر، لكن هذه المدنيّة المحمومة بالتسارع في كل شيء، باعدت بين البشر وأصبحت غربتهم فيما بينهم إحدى الأزمات التي يعاني منها إنسان هذا العصر، ويصور هذا (الديالوج) على لسان هذا القادم من الصحراء، عمق مأساة الاغتراب.
(هذه الحسناء بجانبي تغازلها روحي بصوت هامس حزين.. أين أنا منك وأينك مني؟ هي لا تشعر بي وإنما تمارس الرسم على حيطان الفضاء، وأبقى وحيداً بلا أنيس، يا لوحشة الاغتراب! هذه التي بجانبي الآن بيني وبينها آلاف الأميال بل آلاف العصور، رغم دم إنسانيتنا العتيق. لا شيء يؤذيك مثل أن تظل وحيداً مهجوراً رغم وجودك في الناس، لو كنت طائراً وهذه الحساء بجانبي طائراً مثلي لتعارفنا سريعاً بل طرنا نبحث عن عش تندثر فيه بضوء القمر. لكن المشكلة أنني إنسان). (ص 101 ، 102).
لو تجسد التعارف بين البشر حقيقة دون وجل وخوف، لأمكن لبني البشر إعادة صياغة حياتهم على هيئة مُثلى وأكثر إنسانية، ولربما انعدمت مآسي المجتمعات. في هذه القصة المتميزة حينما يتجرأ هو بمحادثة هذه الجالسة بقرية المنهمكة في الرسم، وهو يقول لها إنه غريب وحينما ألح عليها بالكلام، هددته بأن تطلب له البوليس، لكنه يُمعن في فرض أسلوب الحديث مفجراً عمق المأساة: (مشكلتي أنني لم أجر في المكان أحداً. رغم الآلاف لم أجد أحداً! لا أرغب في شيء سوى الحديث). (ص102).
قصة (رأسان) رغم جنوحها إلى الإيماء والإبهام، فإن موضوعها (المباشر) يتحدث عن مسؤول (أمن) ترافقه زوجته يرتادا أحد المقاهي على رصيف الشارع، ثم ينهمكان في تعاطي (الشيشة) وبمهارة معتادة يتم وضع مخدر (الحشيش) في (رأس) الشيشة فيتغير لوم الدخان وتتغير رائحته، ثم يأخذ رأس مسؤول الأمن وزوجته التي كانت تتعاقب معه سحب (أنفاس) الشيشة (يتدحرجان في سحابة الدخان ويشخران بشكل عميق) (ص111). لقد أصبح (رأس الشيشة) رأسين، حينما توقد واشتعل. رأس الشيشة المشتعل اليقظان بلهب الجمر والمخدر، ورأس المسؤول التي تخدرت وتدحرجت ثم غابت عن الوعي. وما أكثر مآسي الأمة التي حدثت بفعل غياب الوعي عن رؤوس المسؤولين فيها وعن أمنها.
وبعد.. إن القيمة الفنية لهذا العمل الإبداعي الفني، تكمن في أنه ابن بيئته، ليس فيه من الافتعال أو التكلف شيء، لقد انبثق بيسر وسهولة. كما تخيله الكاتب، لم يحمّله أحمالاً ليست فيه، إنه نبت صادق من تربته. وكأي عمل فني، فإن للكمال صفاته التي يحلم الفنان ببلوغها، وموت الفنان بلوغ الذروة النهائية التي تعني نهايته. إن الكاتب الفنان يجاهد ويحلم على الدوام ببلوغ هذا الهدف، وأعلى مراتب هذا الحلم أن يستمر طيلة حياته يحلم، إنه مثل غازلة الحرير الدؤوب لا ينتهي عملها طالما هي مستمرة في عملية الغزل. وليس من مهمات النقد الأدبي تصيد تلك الفهوات في العمل الفني والتكلف في إبرازها، فالعمل الفني ليس نصاً فقهياً، أو تدويناً تاريخياً، ولا حتى معادلة رياضية أو فيزيائية إنه بوح إنساني وتصوير للحياة، ومهمة النقد تفسير هذا النص والتبصر بمواطن الخلق والإبداع فيه وإضاءتها.
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|