الحقائق التي لا يذكرها المثقف السعودي أبداً (22) د.زهير محمد جميل كتبي
|
أحب أن أبين أن ورقة القصيبي، استندت إلى جهد فكري مميز، بل اتسمت بقدر عالٍ من الموضوعية والمصارحة، لكنه للأسف الشديد خاف وخاف وخاف أن يسمي الأشياء بأسمائها ويوضح مكان الخطأ والملاحظة مثل قوله (مثقفاً نتمنى لو لم نلتق به)، كنت أتمنى أن يوضح الاسم ويعلل لماذا، ثم يطرح لنا أنموذجاً من فكره، حتى يستطيع المتلقي أن يصدر حكمه على رأي القصيبي، وهل يؤيده أم لا؟ وقوله: (إن مثقفاً كبيراً من مثقفي زمانه اصطنع فرنا يضع فيه أعداءه شاءت عدالة السماء أن يموت فيه)، من هو هذا المثقف يا غازي القصيبي؟! فهل الخوف حتى من الأموات في صناديق قبورهم؟! أليس من حق المتلقي أن يعرف ذلك المثقف الجلاد الجبار؟! وقال القصيبي: (وفي أيامنا هذه قال شاعر عراقي موهوب جداً في طاغية العراق شعراً يتفوق في قبحه وبذاءته على الشعر القبيح)..، من هو الشاعر يا غازي القصيبي؟ فالزمن والمكان والحدث تغير، وورقتك لا تحتمل وضع المزيد من الطلاسم والالغاز، فأنت يا رجل تخاطب وتتحدث إلى مثقفين مثلك، إلا إذا ظننت خاطئا انك الأستاذ وهم التلاميذ الذين جاءوا للتعليم... وهل نسيت يا دكتور غازي إن في القاعة التي كنت تتحدث فيها مثقفين كباراً ومتنورين تنويراً عالي المكانة والقيمة، ولكنهم لم يملكوا آليات وأدوات الظهور، وتسليط الأضواء عليهم لأنهم ليسوا من أصحاب المناصب رفيعة المستوى، وإن تلك القاعة مليئة بالتيارات الوطنية المشحونة بالضجيج الثقافي، وإنها قادرة على التقدم إلى الأمام مع كل مقتضيات الزحف الفكري.
***
خاف القصيبي أن يضع النقاط فوق حروف كلماتها في مواقع مهمة للغاية في ورقته، وكانت بالفعل في حاجة ماسة لشيء قليل من الجرأة وكثير من الصراحة، أن يقول لنا القصيبي انني أقصد هنا ديوان شعر فلان بن فلان، وكتاب فلان بن فلان، حين قال: (هذه الرقابة المتضخمة بنرجسيتها تحجب دون تردد، ديوان شعر لأنه يحتوي على كلمة مثل (قبله) أو (ضمه) أو كلمة أخرى من عشرات الكلمات التي لم يخل منها ديوان شعر عربي واحد، وتجيز كتاباً يضم نخبة من شعراء الوطن وكتابه بالردة بناء على تأويلات مريضة، أمية في أحسن الاحتمالات، ومغرضة في أسوئها).
وسؤالي المشروع الذي أرغب أن أحمله إلى عقل الدكتور غازي القصيبي هو: ضعفت أو تزعزعت أو تلاشت (جرأة وشجاعة) القصيبي المعروفة عنه؟!.
***
وقع القصيبي في خطأ كبير وفادح في نص ورقته الثقافية، فلقد انتقد في مقدمتها حكم التعميمات، وسماه (خطر التعميمات)، ولكنه وقع فيه حين قال: (أن معظم مجتمعاتنا العربية والإسلامية، تندرج بدرجات متفاوتة في ظل النموذج الأول، قامع الثقافة). لا أعرف لماذا لم يمتلك القصيبي الشجاعة الأدبية ليسمي لنا أسماء تلك المجتمعات العربية والإسلامية؟ فهل الهدف من هذا الحكي توجيه ضربات حاسمة لمجتمعات لا تسمعك؟
ولعل ما يثير استغرابي الكبير في ورقة القصيبي، انه يتحدث في المملكة العربية السعودية، وفي عاصمة بلادنا، وأمام ملتقى اسمه الملتقى الأول للمثقفين السعوديين، والمفروض ان الحديث في ورقته عن المجتمع العربي السعودي، فخاف بل جبن القصيبي، أن يقول بشاجعة كاملة إن مجتمعنا هو أحد المجتمعات القامعة للثقافة، ويتغافل القصيبي عن الفكرة الأولى، بل يحذفها، وهو يمضي فيقع في المأزق حين يعترف عن مجتمعنا انه قامع فيقول: (المجتمع الذي يقمع الخارجين...). لماذا لا يعترف أن في مجتمعنا فئة تمارس علينا أقصى حد ممكن من سقف الرقابة ..(للنوايا).. بل مناقشة ومحاسبة نوايانا؟، فلماذا لم يدعُ إلى كشف أخطاء هذه الفئة، ومحاسبة المسرفين منهم، والمخربين لأفكار التطور ومحاولات العرقلة للرقي؟!
***
ولا أعرف كيف أجاز القصيبي لنفسه أن يذكر أنموذج المثقف الحجاج بن يوسف الثقفي، كنموذج للمثقف السيئ أو غير المرغوب فيه، واعتقد هكذا تبدو لي الامور ان القصيبي ذكر الحجاج مستغلاً مساحة الكراهية الكبيرة ضد هذه الشخصية المثقفة الفذة، فأكل مع معاوية وصلى مع علي، فحين ان التراث العربي فيه نماذج من الشخصيات المثقفة والأكثر استبداداً وكراهية من الحجاج بن يوسف الثقفي، لعل من المفيد أن أذكر أنموذجاً وهو المثقف أبو مسلم الخرساني، صاحب الدعوة العباسية، وهو الذي نسبت إليه هذه الأبيات:
قد نلت بالحزم والكتمان ما عجزت
عنه ملوك بني مروان إذ حشدوا
ما زلت أضربهم بالسيف فانتبهوا
من رقدة لم ينمها قبلهم أحد
طفقت أسعى عليهم في ديارهم
والقوم في ملكهم بالشام قد رقدوا
أردت أن أبين للمثقف القصيبي إن الحجاج وأبو مسلم لهما نفس الدور والتأثير في تأسيس الدولة، ولهما نفس الصفات والأخلاق في الثقافة الاستبدادية، ولهما نفس متانة وصلابة وقوة الثقافة الدينية، وربما تفوق أبو مسلم على الحجاج، فلماذا اقتصر ذكرك على واحد، وتجاهلت الآخر ربما بغير قصد، ولكنها الثقافة النقدية لا ترحم المجاملين على حساب الحقيقة، إنك أردت أن تبين لنا بعض نماذج المثقفين في زمن الوحوش، وما أكثر الوحوش في زماننا هذا، فلماذا لا تذكرهم يا رجل؟ لكي يتحرك فكر المتلقي بطريقة منظمة واعية.
***
ذكر القصيبي التالي: (كان فكر المعتزلة يحاور فكر أهل السنة والجماعة، في جدلية صحية سليمة قبل أن تدخل السياسة ميدان الفكر فتسمم كل شيء). صحيح يا أخي غازي ما قلته، ولكن الحقيقة في كثير من رواياتها تقول إن السياسة، أو الإسلام السياسي هو من كان وراء صناعة هذه المعركة الدينية والفكرية والثقافية، ولعل دليلي في هذا ان الخليفة ذاته سجن وعذب ونفى كل من اختلف معه في هذه القضية الجدلية العميقة، وغلبت كفة الحزب الفكري الذي أيده الخليفة، وكان مقتنعا بأفكاره، فانتصر الخليفة، أي انتصر الإسلام السياسي، ولم ينتصر الفكر الديني، وكانت الغلبة للقوي والذي يملك أدوات القوة.
ولعلي لا أتفق معك يا أخي غازي حين قللت من قيمة المقارنة بين الماضي والحاضر، لأن المقارنة وبكل أشكالها تعد في تقديري شكلاً من أشكال العمل على احياء اليقظة السياسية، والدينية، والفكرية، والثقافية.
إن المكاسب الثقافية والفكرية التي تحققها الأمة يا أخي غازي لابد لها من قوة تحميها، وتدفع عنها كل محاولات النيل منها وتخريبها، وحماية تلك المكاسب الثقافية والفكرية مهمة شاقة وصعبة في زمن كثر فيه النفاق والرياء والكذب وقول الزور، وهنا تحتاج الحماية من تدخل فعال من الأمة وبالذات مثقفيها لتقوية الركائز التي تقوم عليها.
***
ولا شك أن هذه الورقة التي قدمها القصيبي تنطوي على مفارقة لافتة للنظر، فكل الجوانب التي ذكرها تلتقي جذرياً في علاقة العلة بالمعلول، تلك التي تحكم الصلة بين الصواب والصدى في مفهوم الثقافة والمثقف، إن الثقافة لابد أن تتعثر ولكن لابد من أن تظل إلى درجة كبيرة في مساحة المناقشة والمحاورة.
ومن اليسير عندئذ أن أقول إن الدكتور غازي القصيبي لم يستطع حتى الآن التخلص من الثقافة القبلية، ورواسبها، فقد استخدم في ورقته بعض المفردات المستخدمة في ثقافة القبيلة مثل قوله: (نتوقعه من قبيلة المثقفين)، وفي موضع آخر (قبل أن أغادر مضارب هذه القبيلة).
***
ويقول القصيبي عبارة تتنافر مع الواقعية وهي قوله: (إن الخطوط الحمراء تكاد تملأ صفحة الفكر كلها... الخ) فالخطوط الحمراء يا غازي تشمل كل مناحي الحياة في مجتمعنا، ولكنها نسبية من موقع لآخر، ومن ساحة لأخرى.
وأجزم أن القصيبي يتفق معي بأننا مطالبون بتطهير أجهزة الثقافة والاعلام من (الجيوب الرجعية).. التي ما زالت متغلغلة ومتحكمة في أروقة الثقافة والاعلام، والتي تحارب المثقفين والكتاب والأدباء بكل ضراوة مستخدمة كافة الأسلحة المباحة وغير المباحة، والماكرة منها.. وفي هذا الوقت تتطلب منا المرحلة اليقظة لقوة هذه الجيوب.
ثم بعدها مباشرة يطرح المثقف غازي سؤالاً قال فيه (أتراني أود أن أسحبكم معي إلى دوامة من اليأس العدمي الأسود؟). وفي اعتقادي ان مكر السؤال عند القصيبي، كامن في استغلال الاجابة عليه، وهي غالبا اجابة أشد مكراً، لأنها تعني ضمنياً تباعد ورقته وأفكاره عن الواقعية، وتخليه عن دور المثقف، فالنفس عادة تأنس لما تهواه، فيصعب عليها أن تستوعب غيره، هذا لا يمنعني القول أن القصيبي محلل له صبر موثق له في الدقة، بل هو ناقد له منطق، ولكنه يقلب ذلك التحليل والمنطق حسب مزاجه، وحسب ما يهوي قلبه.. والعمل الثقافي يعتمد كليا على التوعية والارشاد والتوجيه والاقناع، لأنني من الذين يرفضون أن نحول العمل الثقافي إلى ..(ملحق سلطوي)..، نسكن فيه وفقاً لظروف مصالحنا وغاياتنا، وهذا خطر موجود بالفعل لابد أن نقر ونعترف به.
***
إن المرحلة تتطلب من المثقف السعودي أن يتفهم الظروف المتغيرة، التي ارتقت بمستوى الوعي في ذات الإنسان السعودي، وعليه أن يعرف الكثير من الاجتهادات الضرورية التي تحتمها تلك الظروف المتغيرة، وهناك جوانب كان يجب أن تراعى في الماضي، فينبغي مراعاتها في ظل متغيرات هذه المرحلة المعقدة. إننا نريد حركة ثقافية نهضوية سريعة الحركة والاداء، تبنى بالتدريج حتى تشمل مختلف مناحي الحياة، وفي جهات بلادنا الجغرافية.
والإنسان السعودي وبوعيه وثقافته المتجددة يعرف إن للعبارة ظاهراً وباطناً، ويعي خداع الكلمات، وثقته عالية بنفسه، وأصبح قادراً كل المقدرة على كشف ..(المداهنة).. ومعرفة معظم أساليبها، فلم يعد كما ظن الكثير انه كرة القش، ظاهرها متماسك، وباطنها هش!
أزعم إن ..(الفكر يزني).. وينجب لنا أبناء زنا، وعلى المفكر الزاني أن يعذب ويعاقب نتيجة ارتكابه جريمة الزنا، فالزنا الانساني مصيره معروف لدى المسلمين، أما (زنا الفكر) فلم تحدد عقوبته، ولم تعلن، وقد يقول لي قائل إن (الردة) عقوبة لزنا الفكر، والتي قد تصل إلى القتل، ولكن أنا أدعو إلى تطبيق عقوبة غير عقوبة (الردة) وأريدها ان تكون متسلسلة ومتدرجة، مثل معاقبة ومحاسبة الكتاب الملحدين والكفرة، والذين يستهزئون بالله ورسوله وآياته، وكذلك الذين يطعنون ويشككون في قيم وعادات وتقاليد وأخلاق المجتمع، لا أريد عقوبة بموازين السلطة والسطوة، ولكن عقوبات عبر النقابات المهنية، على أن لا تكون تلك العقوبات تهدف إلى اسكات المعارض لآرائنا، بسجنه، أو قطع رأسه، أو فصله من عمله بحيث تعمل تلك العقوبات على ترسيخ (فكر الغاية، لا الوسيلة).. حتى لا يرقص المثقف أو المفكر أو الكاتب على الأنغام ويفتي لحساب المصالح والغايات والمطامح السلطوية، أو انه يرضي شهوات الكبار التي لا تشبع. ولكي نستطيع ان نحمي الثقافة من الزنا الثقافي والفكري يجب ان نعتمد على أركان مهمة هي:
1 نشر الوعي بين المثقفين لفهم الآخر.
2 الرقابة الثقافية على المثقف، عبر الاهتمام بالرقابة الشعبية، باطلاق حرية الرأي وحرية النقد.
3 فرض أساليب رقابة شعبية لمحاكمة المثقف.
بهذه الأركان وغيرها نلزم المثقف بأن يحاسب ليس من قبل السلطة فقط بل أيضاً من الشعب.
***
مسكين المثقف السعودي كلما أراد أن يكتب أو يفكر يخاف أن يمدح فيقال عنه انه سعى وراء ثمن سجع الكلمات، وإذا وضح الحقائق قالوا عنه انه يطنطن في الرؤى، أو على الأقل يوصف بأنه غير دقيق في توضيحه، فما ايسر على المجتمع أن يسوق التهم للمثقف والكاتب وغيرهما، وإذا كتب الكاتب بصراحة وجرأة قيل عنه انه متهور ومجنون، ولكن هل تريدون يا مثقفي بلادي أن يملأ الشعب الأرجاء صراخاً، عندما تعملون بصدق على اخفاء الحقيقة، فقد تنتحر الحقيقة إذا وصلت حالة اليأس. لا شك ان هناك عجزاً في قول الحقيقة من قبل المثقف، وهذا النقص أو العجز أصبح مسألة محسوسة لدى المواطن السعودي، إن سد هذا العجز، وتعبئة هذا النقص يؤدي الى خلق الانسجام بين السلطة والمثقف والمواطن، وهذا الانسجام يحقق مصالح الجميع.
إن الإنسان السعودي اليوم واليوم بالذات لا يعاني من قصور في الفهم او عجز في الاجتهاد والاستنتاج أو جمود في التفكير، لقد رحل الزمن الذي خرج علينا فيه بعض المثقفين بالنقد لما نكتب ونقول لهم إن ما فعلتموه تملق ومزايدة.
إن واجب ومسؤولية وأمانة المثقف السعودي ان يكون شجاعاً وشريفاً في قول الحق والحقيقة، وان جبن القادرون، وأن يتمرد على المنافقين والكذابين والمزايدين، حتى لا يدفعوا العجلة الاصلاحية إلى الوراء، وإن لم يقم المثقف بهذه الأدوار النظيفة والدينية والوطنية، فإن المجتمع هو الذي سوف يدفع الثمن، وعليه أن لا ينبهر بالباطل وإن كبر وتضخم، فنحن بشر يجوز علينا ما يجوز عليهم من النقد، ونتعرض للخطأ كغيرنا من البشر. ولا بد من مواجهة النظر في الفكر، لابد من ايقاف مد ثقافة النفاق، لابد من إلغاء صحافة القبلات، لأن الدين الاسلامي العظيم عني بالغايات قبل الوسائل.
وفي الأخير أقول لكم يا بني قومي ويا بني مهنتي في الثقافة والصحافة، إنني أقبل بمنطق الصواب والخطأ في الكتابة، وبالذات النقدية منها، وأعرف ان الحق والباطل هو نسبي، وإن الخلاف في الفكر هو كذلك.
يا جماعة ! يا اخوان الثقافة إننا نعيش في مرحلة يتغير فيها كل شيء وبسرعة جنونية، وإن الاستبداد الثقافي سوف ينهار لا محالة، ويرتفع مكانه الرأي والرأي الآخر، وقبول النقد، وصورة بلادنا الثقافية تهم كل الشعوب والأمم لأنه بلد منبع الاسلام العظيم، فعالم المرحلة القادمة هو الذي ستسيطر عليه الثقافة الواعية المخلصة، ولا يفوتني أن أختم مقالي بقولي لكل مثقف سعودي إن المواطن السعودي قادر على استيعاب كل جديد، بل وجدته ينفعل بكل مؤثر وجديد، ويحب أن ينتصر للحقيقة.
والله يسترنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض، وساعة العرض وأثناء العرض.
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|