السيرة الذاتية ما بين البوح والفضح!! أمل زاهد
|
ربما تكمن جاذبية السيرة الذاتية في أنها رحلة بوح ومكاشفة، يأخذ فيها الكاتب بيد قارئه إلى تلك المناطق النائية من نفسه، ويقوم معه باكتشاف واستبطان ذاته وإضاءة تلك الأماكن المعتمة في دواخله، ويرصد فيها الحقبة التاريخية التي عاش فيها والتغييرات الطارئة عليها وأحوال مجتمعه، وطرائق تفكيره وأنساق حياته، وخلال محاولاته لاستدعاء واستذكار الأحداث التي وشمت ذاكرته وانطبعت فيها والأحاسيس والمشاعر التي رافقتها إبان ذلك، لابد أن نتمكن من لمس الروح الحقيقية الصادقة للكاتب التي شكلت أزمته الداخلية، وكأنما يقوم الكاتب مع القارئ بعملية تحليل وتشريح لنفسه وللمحطات المفصلية التي كان لها أكبر الأثر في تكوين ملامحه الداخلية وتحولاته الفكرية والعقلية والنفسية.
يقول كاتب رواية (زوربا الإغريقي) نيكوس كازنتزاكس عن سيرته الذاتية (تقرير إلى كريغ): ((إنها رحلة إنسان يحمل قلبه في فمه، وهو يصعد جبل مصيره الوعر القاسي، فروحي كلها صرخة وأعمالي كلها تعقيب على هذه الصرخة، لذلك فإنك أيها القارئ ستجد في هذه الصفحات الاثر الأحمر الذي خلفته قطرات دمي، الأثر الذي يشير إلى رحلتي بين الناس والعواطف والأفكار، وإنني حريص على الانتهاء بسرعة قبل أن أعتمر خوذتي السوداء وأعود الى التراب لأن هذا الأثر الدامي هو العلامة الوحيدة التي ستتبقى من عبوري على الأرض)). ففي هذه السيرة الذاتية الفكرية الجميلة يحاول الكاتب أن يتخفف من حمل يرى أنه لابد من الرمي بأثقاله والبوح بأسراره قبل أن تغرب شمس كاتبه، وقد كان يرتعد فرقا من احتمال عدم تمكنه من إكمال عمله قبل الرحيل، فهو حريص أشد الحرص على اطلاع قارئه على النقاط التحولية في حياته التي أثرت على تكوينه الفكري والعقلي والوجداني، وهو يرى أن هذا البوح والافصاح عن قلقه الوجودي ورحلته في الصعود إلى المعرفة مهمة بالغة القداسة ومسؤولية تتلبسه ويتحتم عليه أن يفضي بمراحلها وتقلباتها وهواجسها علها تضيء قنديلا لأولئك الذين يسكنهم أبدا القلق الوجودي وتعيث الحيرة ألما وعذابا داخل نفوسهم.
استطاع كاتب السيرة الذاتية العربي أن يخترق الجدار العازل المحيط بالكثير من التابوهات التي اعتادت الثقافة العربية حظرها ومنع الوصول إليها، وتمكن من إزالة الشمع الأحمر المختوم بها، ورغم ذلك بقي التابو الأكبر والمتمثل في الحديث عن التقلبات الشعورية والوجدانية المصاحبة للقلق الوجودي الذي يسكن كل مبدع في رحلته وهو يبحث عن اليقين عصياً على الاختراق، فكبار كتابنا قفزوا فوق هذه المراحل رافضين أن يبوحوا بمراحل رحلتهم في ذلك الطريق الشائك، وكأنما هم يخشون أن يتلبسهم الاتهام، أو أن يوصموا بالشك والكفر إذا ما تطرقوا إلى هذا الجانب، وكأن هذه المرحلة لا تشكل إلا شيئا عابراً في حياتهم ليس له دور في تكوينهم النفسي والفكري، متناسين أنهم خاضوا لجة الحيرة والشك وأدمت أقدامهم أشواك الرغبة في المعرفة والبحث عن اليقين، ضاربين عرض الحائط بما يمكن أن يحققه الحديث عن هذه الخبرة من الفائدة لكل من تعذبه الحيرة، ويقض مضجعه القلق الوجودي، ولنا أن نتخيل كم من الزخم المعرفي والثراء الفكري كان يمكن أن يضيفه عباس محمود العقاد إلى سيرته (أنا)، لو تطرق إلى الحديث عن هذه الرحلة التي لا شك أنه مر بها، أو لو سلط طه حسين الضوء في أيامه أيضا على هذا الجانب، وغيرهما كثير رفضوا الافصاح عن معاناتهم في تلك المرحلة، وربما يعود ذلك إلى أن التابو الديني هو أقوى التابوهات على الاطلاق الذي يخشى الكاتب أن مجرد الإيماء إليه يعرضه للنبذ والرفض من المجتمع والناس.
انطلق كاتب السيرة الذاتية العربي في وقتنا الحالي يكاشف قارئه ويبوح له متخطياً في أحيان كثيرة حدوداً ما كان له أن يتجاوزها لأنها لا تشكل عبئا يريد الكاتب أن يتخفف منه أو رسالة يريد أن يبلغها، وإنما تلعب دور الاثارة التي لا تضيف للقارئ من خبرة الكاتب بقدر ما تمنح السيرة سمعة محددة تساهم في جذب نوعية معينة من القراء لها وإضفاء صفة الشجاعة الكاذبة على كاتبها وذلك بفضحه مثلا لبعض الأسرار العائلية التي لا يؤثر حذفها على الهدف المراد منه من كتابة السيرة، أو التماهي في وصف تفاصيل جنسية مقحمة على العمل، ورغم هذا الانفتاح على البوح إلا أنه تبقى كثير من الأمور التي يتوجب الحديث عنها طي الكتمان والاخفاء والتعتيم، فمن النادر مثلا التطرق الى تجربة نفسية أقضت مضجع الكاتب وقلبت موازين حياته كتجربة الاكتئاب مثلا، وما يرافقها من إحساس بالدونية والعبث وكراهية الذات والرغبة في محاكمتها، والنفور من الحياة والرغبة في الانزواء بعيداً عن أي مظهر من مظاهرها والمشاعر القاتمة التي تغلف حياة المكتئب برمتها بثقلها وسوداويتها، وهو ما لم تجد شخصيات سياسية مهمة غربية حرجاً في الحديث عنه ووصف أدق تفاصيله مثل رئيس فرنسا السابق (فاليري جيسكار ديستان)، فقد وصف في مذكراته بتفصيل شديد تلك المشاعر التي زجت به في أتون مشاعر الاكتئاب وقادته الى مرحلة عدم القدر على مطالعة صورته في المرآة كنتيجة لرفضه ذاته وعدم تقبله لها، كما حكت أيضا السيدة (بار برا بوش) والدة الرئيس الأمريكي أيضا عن تجربة مماثلة مرت بها بكل صراحة ووضوح.
من المهم جدا لاتعرض لمثل هذه التجارب الإنسانية والحديث عنها من دون خجل أو مواربة خاصة من أشخاص معروفين حتى تعبر هذه الخبرة الى المتلقي فيعلم أنه من شخص محصن ضدها، وأنها أمر يمكن التعامل معه، ومن ثم تجاوزه وممارسة الحياة بشكل طبيعي بعد التخلص منه، ولكن تبقى ازدواجية الإنسان العربي واضطراره لارتداء الأقنعة التي تخفي حقيقة ملامحه النفسية، الحاجز المنيع الذي يقف في وجه أية محاولة من هذا النوع للبوح والافصاح، فلا يملك الكاتب إلا أن يهيل التراب على تجربة كهذه خوفاً من الشظايا التي قد تصيبه بعد تفجيرها ونشرها على الملأ.
تبقى السيرة الذاتية من أكثر صنوف الأدب جذبا للقراء، وربما يعود ذلك إلى الفضول الذي يسكن النفس البشرية ويتأجج في أعماقها للتلصص على حياة الغير ومعرفة أسرارهم وخباياهم، والرغبة في كشف المستور من حياة العظماء، والزعماء والمشاهير والكتاب خاصة إذا كانت حياة رواي السيرة حافلة بالمثير ومعروفة بالمغامرات، ولذلك غالباً ما يصاحب نشر السيرة الذاتية حملة دعائية واسعة النطاق تشدد على أن الكتاب يحيوي أسرارا لم يسبق نشرها أو يرصد أحداثاً لم تطلها يد الكشف من قبل أو يتضمن اعترافات معينة يتوق القارئ لمعرفة خباياها.
amalzahid@hotmail.com
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|