نواصل مع ترجمتنا لدراسة البروفيسور تامر مصطفى المنشورة في فبراير 2000 والتي ستشكل أحد فصول كتابي المترجم «الأزهر والسياسة» الذي لا يزال تحت الترجمة:
وإذا تأملنا في مصالح الأزهر كمؤسسة، فسوف نفهم لماذا يتعاون العلماء مع الحكومة لتشويه سمعة الإسلامويين المتطرفين؛ فمن المسلم به أن هناك ثلاثة أهداف (مصالح) مركزية للأزهر، طوال تاريخه:
(1) الحفاظ على استقلاله المؤسسي.
(2) الحفاظ على منزلته المحترمة في المجتمع المصري، باعتباره المفسر الشرعي «الوحيد» للنصوص الدينية.
(3) المحافظة على استمرار الدعوة إلى الإسلام (54).
وعبر دعم جهود الحكومة لتشويه سمعة الإسلامويين المتطرفين، عزّز الأزهر كل هذه الأهداف الأساسية. وكان أول هذه الأهداف المركزية، وهو المحافظة على الاستقلال المؤسسي للأزهر، طوال سنوات، يمثل صراعا مباشرا مع رغبة الحكومة في السيطرة التامة على المؤسسات الدينية. وكما ذكرنا آنفا، فقد أدى هذا المنحى إلى صراع طال أمده بين الأزهر والحكومة؛ ولكن مع تصاعد العنف في بداية التسعينيات، أصبحت الحكومة تعتمد اعتمادا متزايدا على انتقادات الأزهر الدينية القاسية للإسلامويين المتطرفين (55). وأدى هذا الوضع إلى زيادة نفوذ الأزهر على الحكومة، أكثر من أي وقت مضى. وتعزز استقلال الأزهر بصور أكبر طوال هذه الفترة، لأن الحكومة أيقنت أن تدخلها في شؤون الأزهر سيقوض كثيرا جهوده الهائلة في تفنيد مطالب الإسلامويين المتطرفين ومزاعمهم. وهكذا، تطور استقلال الأزهر. وبحلول عام 1992، استطاع الأزهر، بالفعل، اتخاذ مواقف حاسمة بشأن قضايا اجتماعية وسياسية تختلف اختلافا كليا عن مواقف الحكومة. وكان هذا التطور المفصلي نتيجة مباشرة لهذا النفوذ الجديد للأزهر.
وأما ثاني الأهداف المركزية للأزهر، وهو الحفاظ على منزلة محترمة في المجتمع المصري باعتباره المفسر الشرعي «الوحيد» للنصوص الدينية؛ فقد تم تحديه بوضوح بعد بروز الجماعات الإسلاموية المتطرفة. وكما ذكرنا آنفا، فقد رفض الإسلامويون المتطرفون دور العلماء الرسميين التقليدي كعلماء مبجلين ولا غنى عنهم لتفسير النص الديني. وللحفاظ على مكانته، تحرك الأزهر لتشويه سمعة المتطرفين على أسس دينية، واستفاد من جهود الحكومة في قمع الإسلامويين المتطرفين جسديا. وفي الجوهر، تعاون الأزهر مع الحكومة عبر أسلوب «تقسيم العمل» (Division of Labor) حيث يضمن احتكار الأزهر للقيادة الدينية على أن تقمع الحكومة المتطرفين. وفي المقابل، يقوم الأزهر بتشويه سمعة الإسلامويين المتطرفين والرد عليهم على أسس دينية (56). وأدت مواقف الأزهر المحرجة والمنتقدة بصورة متزايدة لسياسات الحكومة أيضا إلى تعزيز مكانته المحترمة في المجتمع المصري. واعتبرت هذه المواقف كإشارات مهمة للجمهور المصري بأن الأزهر ليس بوقا ولا دمية للحكومة، كما يدعي الإسلامويون المتطرفون.
تصاعد التهديد الإسلاموي المتطرف للدولة أيضا سَهَّلَ، بشكل غير مباشر، جهود الأزهر لتعزيز هدفه المركزي الثالث المتمثل بالدعوة ونشر الإسلام في مصر. فكما ذكرنا، اُضطرت الحكومة المصرية لمنح المزيد من الاستقلالية للأزهر حتى يتمكن من تقديم ردود دينية تحظى بصدقية وموثوقية عند الشعب ضد الإسلامويين المتطرفين. وفي الوقت الذي كان فيه الشغل الشاغل للحكومة هو محاولة السيطرة على الجماعات الإسلاموية المتطرفة التي تهدد استقرار مصر، استفاد الأزهر من مهمته الجديدة التي أدت إلى زيادة نفوذه لتحقيق أهداف ومصالح إضافية تمتد لنطاق أبعد وأوسع من الدور الذي رسمته الحكومة له (57). وكما لاحظ – بحق - المستشرق الهولندي يوهانس يانسن أنه «بالرغم من أن الأزهر وخريجيه هم، في الأساس، موالون لأية حكومة تَقُود مصر؛ إلا أن الأزهر كان دائما مصدرا لـ «ـضغط هادئ» (ناعم) نحو المزيد من أسلمة المجتمع» (58). وهذه الملاحظة الذكية تدعونا إلى فحص الكيفية التي نجح عبرها الأزهر في التعامل مع وضع دولة مبارك الحرج والضغط عليه للسعي نحو تحقيق دولة ومجتمع أكثر تدينا في مصر المعاصرة.
الأزهر يتخذ وضعية الهجوم
عارض الأزهر سياسة الحكومة معارضة متزايدة، خلال الفترة الممتدة بين سنتي 1992-1996، حول عدد من القضايا الحساسة. كما نجح في الحصول على تنازلات مدهشة من الحكومة. ولعل أبرز مثال على زيادة حرية الأزهر للمناورة كان معارضته الحازمة لسياسة الحكومة المصرية حول «ختان الإناث» (59). ففي سبتمبر 1993، بثت شبكة »سي إن إن «العالمية تقريرا عن ختان الإناث في مصر، حيث صور المراسل عملية جراحية بدائية مرعبة لفتاة تبلغ من العمر عشر سنوات وهي تصرخ وتركل بينما يتم قطع جزء حساس من أعضائها التناسلية كجزء من التقاليد التي تتبع في مصر وأفريقيا.
وبالرغم من أن التغطية ا لدولية لقضية ختان الإناث دفعت الحكومة المصرية إلى إدانة تلك الممارسة، إلا أن الأزهر دافع بشدة وعناد عن هذه الممارسة. وأصدر جاد الحق علي جاد الحق، شيخ الأزهر، فتوى تنص على أنه «إذا لم يتم ختان الفتيات كما أمر النبي ، فإنهن ستتعرضن لحالات تؤدي بهم إلى الفسق والفجور» (60). ولا يزال ختان الإناث مسألة خلافية حتى الآن، حيث تعارضها رسميا المؤسسات الحكومية ولكن يدافع عنها معظم علماء الأزهر والإسلامويون المتطرفون وتعمل المحكمة كمنتدى للجدل.
والمثال الآخر والأهم لتزايد انتقادات الأزهر لسياسة الحكومة يتمثل في معارضته القوية لـ «مؤتمر الأمم المتحدة الدولي للسكان والتنمية»، الذي عقد في القاهرة في عام 1994. لقد كان انعقاد المؤتمر بالقاهرة إنجازا كبيرا لإدارة مبارك، حيث استمر لمدة أسبوع وجذب كبار المسؤولين الحكوميين وخبراء التنمية من جميع أنحاء العالم تقريبا، وكان فرصة ذهبية للحكومة المصرية لتعزيز موقعها كدولة رائدة في العالم النامي؛ ولكن لسوء حظ مبارك، أصدر الأزهر بيانات قوية ضد المؤتمر في كل خطوة على طريق انعقاده. وتركزت الاعتراضات الرئيسية للأزهر على برنامج المؤتمر بشأن العلاقات الجنسية وحقوق الإجهاض (61). وأدان مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر فقرات في مشروع القرار الختامي للمؤتمر تناصر حقوق المثليين، وتدافع عن الجنس قبل الزواج، وتؤكد حق المرأة في الإجهاض (62. وفي حين حصلت حكومة مبارك على اهتمام ومديح من وسائل الإعلام الدولية لاستضافة ذلك المؤتمر، إلا أن تركيز الصحافة الدولية كان حول الصراع بين الأزهر والحكومة المصرية، ولم يكن هذا التركيز الصحافي هو ما كان مبارك يأمل فيه.
ويمكن المجادلة بأن موقف الأزهر القوي بشأن ختان الإناث ومعارضته لمؤتمر الأمم المتحدة عام 1994 ليسا، بالضرورة، مؤشرين على النفوذ الأزهري الجديد على الحكومة؛ فربما قرر الأزهر اتخاذ هذه المواقف كمحاولة أخيرة لمقاومة تزايد علمنة الدولة والمجتمع المصري. كما تجلت في مسائل تتعلق بقضايا الأسرة والعلاقات الجنسية ومسألة الحقوق الإنجابية؛ وهي المسائل التي كان الأزهر، ببساطة، غير مستعد لاتباع سياسة الحكومة فيها. (63) ولكن هناك قضايا أخرى تثبت أن الأزهر قد اتخذ مواقف مماثلة ضد السياسات والتوجهات الحكومية الأخرى.
ولعل أحد أعجب المواقف وأكثرها إذهالا قيام بعض علماء الأزهر وبخلاف توجه الحكومة بإصدار فتاوى تعلن ردة بعض أشهر المثقفين المصرين وكفرهم. أكثر هذه الفتاوى شهرة كانت ضد الكاتب المصري د. فرج فودة، الذي اُتهم بالتجديف (الطعن) في الإسلام خلال مناظرة ساخنة مع بعض شيوخ الأزهر في معرض القاهرة للكتاب. واغتال متطرفون إسلامويون فودة، بعد أسبوعين فقط من صدور فتوى بردته من قبل علماء أزهريين متطرفين. ثم حدث تطور عجيب ومثير للدهشة عندما شهد الشيخ محمد الغزالي، وهو عضو بارز في «مجمع البحوث الإسلامية» بالأزهر، في محاكمة اثنين من القتلة المشتبه بهم. لقد قال الشيخ الغزالي: «إن من واجب الحكومة قتل المرتدين عن الإسلام؛ وإذا لم تقم الحكومة بواجبها، فإن من حق الآخرين القيام به»(64). ووضعت «جبهة علماء الأزهر» ضغوطا مماثلة على الحكومة بخصوص يوسف شاهين، مخرج فيلم «المهاجر»؛ وكذلك بخصوص الأستاذ في جامعة القاهرة، نصر أبو زيد، (65) المتهم بالتجديف والطعن في كتاباته بالقرآن.
- ترجمة وتعليق: د.حمد العيسى