الثقافية- محمد هليل الرويلي :
المظفر حليمة «يصدق فيها قول الشاعر:
وقلما أبصرت عيناك ذا لقب
إلا ومعناه إن فكرت في لقبه
فهي لغة الحلم المدروس المكلل بنتائج الظفر.
هي طاعنة المثابرة والتحفز، لديها مبضع التشريح الرحيم وإن تبدى ظاهر القسوة فهي تسير في حقول المسكوت عنه محاولة دك أسواره السرابية وتفكيك وهم أغلاله!
إنها دفقة الضوء لها من اسمها نصيب حليمة مظفر، متورطة بالنور المسجور، والشعاع المنشور يحث خطاها، يقتفي أثرها.. هكذا هو الضوء يبحث عن الضوء الحالم في فضاءات حليمة وأقمارها المأهولة بملامحها المكتنزة البهاء والألق، تحمل حليمة قلبًا كقلوب الأطفال أبيض شفاف عاطر قاطر بالحب والصدق والوفاء، صوتها الهادئ يدثر بالعطف آلاف المسافات والطرق الطويلة، وتزمل مشاعرها أمة من القيم والمبادئ في القرى والمدن المأهولة بالسكان كعصفورة على شبابيك الصباح تحلق بنا أحلام حليمة ذات اليمين وذات الشمال كفراشة بهية الألوان، تطير بنا، تأخذ بأيدينا نحو التلال والربى البعيدة، نحو الربيع والحقول، نحو دفقات المطر والقطر، فننسال كالشلالات الهادرة ماطرة هي حد الفيضان ديمة هي حد الندى المبلل على أوراق الشجر.
ما زالت كما هي من يعرفها يقول إننا قصرنا في وصفها هي أكبر من ذلك، هي أعظم من ذلك، هي أغنية فيروزية عربية، هي مقطوعة موسيقية عالمية، هي لوحة فنان وكنز قبطان أمضى جل عمره يشق عباب البحر ويجوب الأخطار في سبيل الحصول عليه.
يشكل المكان والحرية هاجسا يزرع القلق في روح حليمة مظفر الكاتبة والإنسانة.. إلى أي مدى ساهم المكان في تشكيل وصنع تجربتك الكتابية والصحفية؟
- المكان لا يُشكل أي قيمة دون إنسانه؛ فكلما تمّ الاهتمام بالإنسان وتنميته فكريا وتعليميا سيحظى المكان الذي يعيش فيه بالمستوى الذي وصل إليه؛ والعكس صحيح؛ فلا فائدة من مدن إسمنتية متطورة يستخدمها إنسان غير متعلم أو نموه الحضاري متوقف، لأنه سيُتلفها! والتعليم الذي أقصده هو تنمية الوعي الإنساني السلوكي والأخلاقي الذاتي والاجتماعي؛ وليس تعليم القراءة والكتابة والحصول على شهادات عليا؛ فهناك مُتعلمون نموهم الفكري مُتجمد أو ما زالوا يعانون من أميّة وعي بسبب اهتمام التعليم بالقشرة دون الوجدان، نتيجة للفصام التعليمي الحاصل عندنا، فما يقوله المنهج ويشرحه المدرس لا علاقة له بما يحصل في الشارع ويُمارسه المدرس ذاته خارج الفصل؛ أضرب لك مثالا بسيطا؛ في اليوم الوطني خلال مهرجاناتنا الوطنية نستمع للأغنيات بالموسيقى بينما الطلاب والطالبات في المدارس ينشدونه دون الموسيقى ؛ وهذا مثال بسيط على الازدواجية المؤدية إلى وعي مهزوز.
أما الحريّة فلها علاقة وطيدة بتطور وعي الإنسان وتنمية مسؤوليته مع المكان؛ فالوعي يحتاج إلى حريّة التفكير الذي يفتح مساحات للإبداع؛ ودون الحريّة لا يتطور الوعي بل يتجمد؛ وكلّما كنتَ حُرا أصبحت واعيا بحجم المسؤولية والقيود التي تضعها كي لا تمس حُريات الآخرين؛ فلا تعني العبث؛ أو كما يفهمها بعضهم بممارسة العربدة أو الشتم بحجة حريّة التعبير؛ ولذلك تحتاج الحريّة للبيئة الواعية، والبيئة الواعية تصنعها القوانين الواضحة؛ والإسلام دين عظيم حرر عقل الإنسان ومنحه حريّة اختياره بين النجدين، كي يكون أكثر مسؤولية في تدينه وهو يختار بين الخير والشر؛ كما أن الإيمان يحتاج إلى الحريّة لامتحان التدين؛ فأكثر الناس في البيئات التي يُسلب فيها الإنسان حريّة الاختيار يكون مسلما كهوية لا مؤمنا كفعل؛ وتكتشف المؤمنين في البيئات التي منحتهم حريّة الاختيار.
هاجمتِ أعضاء مجلس الشورى في بعض تشريعاتهم وأطروحاتهم ووجهتِ كثيرًا من الرسائل والنقد الحاد لهم بداية من بيض الحبارى إلى أن أوصلتِهم لكوكب المشتري.. ماذا نريد من المجلس؟!
- لا أسمي ذلك هجوما؛ بل نقدا لبعض أطروحاتهم التي لا تخفى على الكثيرين ممن يتابعون نشاطه المستفز أحيانا لسخرية الناس؛ وربما لاحظت أني استخدم «أعضاء كوكب المشتري»، لأني أرى معظم ما يطرحونه لا يتماشى مع الواقع، وكأنهم ينتمون لكوكب آخر؛ و بكل صراحة في المجلس بعض ممن أعرفهم تدور بيني وبينهم نقاشات أحيانا حول نشاطه، وأعرف حجم التحديات التي يواجهها قلّة فيه؛ لكن أن أتفهم التحديات شيء وأن يكون لي موقفا من طرحهم شيء آخر؛ وإلا كيف يمكن لعقل أن يرفض قانون منع التحرش أو نظاما للحماية الوطنية فيما «بيض الحبارى» يجد الاهتمام لديهم!!
عمّ تود أن تكشف حليمة النقاب في كتابها «رجال منقبون نساء سافرات» في حين فسّرها بعض المتحفظين أنه دعوة متكررة لتغيير مفاهيم النسيج الاجتماعي في مجتمع محافظ؟
- الوجه علامة لهوية الإنسان وبه يُعرف؛ والمرأة السافرة في وجهة نظري ليست فقط التي تُسفر عن وجهها أي تكشفه كما يمكن اختزال المعنى؛ بل التي تُسفر وتكشف عن أفكارها وحقوقها بوضوح مهما كلفها الأمر كما فعلت امرأة مع الرسول صلى الله عليه وسلم وجادلت في حق من حقوقها، وأنزل الله تقدير لها وتعزيزا لما فعلته سورة باسمها «المجادلة» ؛ في المقابل كم من الرجال الذين يُسفرون عن وجوههم لكنهم فضلوا ارتداء النقاب حين يتناولون قضايا المرأة ومشكلات المجتمع؛ أظن كثير من الرجال ارتضوا ارتداء النقاب فكريا لا شكليا، فيما كثيرات من النساء ومنهن المنقبات يُسفرن ويكشفن عن أفكارهن الجريئة، ومقالاتهن ومواقع التواصل الاجتماعي دليل على ذلك، وأمّا من يقول أن الكتاب محاولة لتغيير مفاهيم النسيج الاجتماعي المحافظ؛ فهؤلاء إن كانوا واثقين من أن نسيجهم ومفاهيمهم قوية، لماذا يقلقون من مجرد كتاب، ويحرضون ضده إلا إذا كانت بضاعتهم أساسا مفككة ومهلهلة!
هل صحيح ما سمعناه أن قُدِّمت شكوى ضد كتابك محاولة لمنعه وسحبه من المكتبات في السعودية بحجة تعارضه مع الدين وأنه ضد المجتمع المحافظ؟!
- مع الأسف صحيح؛ علمتُ أن خطابا رُفع ضد كتابي (رجال منقبون.. نساء سافرات) مع مبررات وإدعاءات أعتقد أنها لا تخرج عن مجرد وجهة نظر ذاتية ضد الكتاب لمنعه، وقد استغربتُها؛ لكني أثق كثيرا في المسؤولين بوزارة الثقافة والإعلام ومسؤوليتهم الكبيرة تجاه نشر الوعي والتسامح الفكري والمعرفة.
حليمة ما هذا الطرح «الرجل الكوسا فقير ودمه ثقيل ورجل قرنبيط ليس وسيما ورجل جزرة وفلفل حار ورجل فحل بصل» إن كان ولا بد اقلبي هذا الطرح وتخميناتك على الأبراج ونجمي وليس الخضراوات.. فلماذا الرجل بعينك كذلك؟!
- (تضحك)، هذه الجزئية هي محاولة للسخرية من قناعات الرجل الذكوري في مجتمعاتنا وتفكيره الساذج حين ينظر للنساء على أنهن فواكه، كي يُبرر تعدد الزوجات بدواعي الملل، ولا أعرف لماذا غضب بعض الرجال من هذه الجزئية؛ فماداموا ينظرون للنساء على أنهن مثل الفواكه فهناك من النساء من ترى الرجال مثل الخضروات.
وتكملين محاورة على لسان حذاء وزنوبة وشبشب شرقي وكعب عالي ماركة شانيل الفرنسية وتندبين حظ الحذاء الوطني.. ألم تجدي نقدًا أفضل من الأحذية؟!
- لماذا اختزلت القصة في هذه النظرة المتعالية على الحذاء؟! هل تستطيع أنت أو أي شخص المشي خارج أو حتى داخل البيت من دونه ! أم هي نظرة العربي الأنوية التي اعتادها في تحقير ما يدوس عليه مع العلم أننا يوما سنكون في بطن الأرض، وسيُداس علينا أيضا؛ يا عزيزي الحذاء هو من لا يمل ولا يتعب ويتحمل أوزاننا الثقيلة ويقينا أوساخ الطرق التي رمتها أيدي بني آدم! لقد جعلتني أتذكر ذلك الصحفي العراقي حين رمى حذائه وجه جورج بوش؛ ذلك الحذاء جعل منه بطلا شهيرا عند العرب؛ لكن الغرب نظروا للمسألة باستغراب.. ووجدوا البيضة الفاسدة التي يرمونها في وجوه من يعلنون غضبهم عليهم أجدر من الحذاء!! وببساطة محاولتي كانت أنسنة الأحذية في تلك القصة لا تعني أبدا تحقير للإنسان؛ بل محاولة لإضاءة تلك المساحة المهمشة وغير المرئية في حياتنا؛ فماذا لو تأملنا للحظة بأن ما نحاول أن نخفيه عن الآخرين من أسرار وممارسات تعرفه أحذيتنا.
وأيضًا حوار مع طقاقة فيها زار.. وبائعة حظ تبشرك بأن شريك العمر لا يرى غيرك.. وما ذكرته في لو رأوني أمشي على التايمز.. والبرقع من البدو للشانزليزيه ألا تعتقدين أن هذه الموضوعات تقلبت بين العنصرية والطبقية والتمييز؟ وهل الكاتب مطالب بجلد الذات أيضًا ليصحح بعض أخطاء مجتمعه؟
- لماذا لا تقول إنها محاولة لخلخلة التفكير الخرافي الذي يرتع في بيئتنا ويرعى دون راعي!؟ الطبقية والعنصرية جزء لا يتجزأ من نسيج التفكير الخرافي؛ فحين تخشى قطة سوداء لأن هناك من زرع في وعيك أن الجن يسكنونها، فليس ذلك إلا من تفكير خرافي شوه قيمة اللون الأسود وجعلنا ننظر بهذه النظرة المتعالية التي عززت العنصرية والعبودية؛ مع العلم أن العبودية لم تقتصر على اللون الأسود فقد استُرق أصحاب البشرة البيضاء في الحضارة الإسلامية وكل الحضارات السابقة للإسلام.
وأما الإشارات في سؤالك فهي لشخوص يعيشون وهم الخرافة، ولا يحاولون الخروج منها، لأنها قدمت لهم الطمأنينة نتيجة كسلهم العقلي؛ فالطقاقة مثلا التي ذكرتها استسلمت ببساطة إلى الوهم بأن جنيا يعشقها تسبب في طلاقها وسوء معاشها وميولها الشاذة تجاه امرأة مثلها؛ هكذا تفكير خرافي هو سبب لمعظم مآسينا الاجتماعية؛ وحين تتناول الواقع وتعمل على تشريح شخوصه أفضل من أن تُطبل له وتقول كل شيء تمام يا فندم! ولا أعرف كيف ينظر البعض على أن النقد بمصداقية لواقعنا يُعتبر جلدا للذات!! مثل هذا التفكير البدائي الخرافي هو ما يعيق تقدمنا ويجعلنا نبني أعشاشا في بيئة خرافية، بل سبب من أهم الأسباب التي استغلها الإرهابيون لغسل أدمغة الشباب وجعلهم يقبلون على تفجير أنفسهم وقتل الأبرياء.
ماذا تقصدين.. ألا تعتقدين بتلبس الجن للإنسان؟ وكيف استغل الإرهابيون التفكير الخرافي في تجنيد الشباب ودفعهم للإرهاب؟
- صحيح، لا أعتقد بتلبس الجن للإنسان؛ واعتقادي بالجن لا يتجاوز ما ذكره القرآن الكريم حول هذه المسألة؛ بأن الجن خلق من خلق الله تعالى؛ وأن أذاهم لا يتجاوز إلا ما يسمح به الإنسان نفسه من خلال توهمه وخوفه منهم؛ وقصة الرجال الذين يعوذون بالجن تؤكد ذلك لقوله تعالى:(وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً (فهؤلاء الرجال يعوذون بالجن خوفا منهم فزادوهم رهقا وخوفا؛ فهو عامل نفسي بالدرجة الأولى، كما أن هناك فرق بين الجني والشيطان الذي ذكر تخبط الإنسان نتيجة مسه.
وفيما يخص شطرك الثاني من السؤال؛ فما أقوله دائما وكتبتُ فيه بأن الإرهابيين يستغلون الأرضية الخصبة التي يرتع فيها التفكير الخرافي في أدمغة صغار السن وقليلي المعرفة حول الملائكة والحور العين والكرامات التي يمثلونها ويزيفونها عن القتلى وغير ذلك؛ بنسج قصص تجاوزت ما ذكره الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم، خيالية تشبه قصص ألف ليلة وليلة؛ كقصص محاربة الملائكة في سوريا وقبلها في أفغانستان، وكيف أن مثل هذا يجذب المغفلين للانتماء لجهات مجهولة وإرهابية! وهذا ما زادنا بلاء منذ عهد الأشرطة الدعوية وحتى الآن، والذي زاد مع شرعنة الوهم والخرافة واستخدامها في الخطاب الصحوي؛ فكم قصة نُسجت من خرافة استشهدت بها محاضرات دعوية لوعظ الناس وهي كذب في كذب؛ وكم خرافة حول الملائكة الكرام والحور العين نُسجت من خيال يتجاوز ما ذكره القرآن الكريم، لجذب صغار السن، فهؤلاء يعدونهم بالجنة شرط دخولهم جهنم الإرهاب بقتل الأبرياء!
في كتابك «رجال منقبون.. نساء سافرات» بعض الأفكار والأطروحات قدمتها بشكل ساخر ومشفر، وبعضها على شكل قصص دينية وتاريخية واجتماعية، تدور حول عادات وثقافة المجتمع للجنسين كاللحية والحجاب والمظهر الخارجي والجمال وجوهر الإنسان.. حليمة عنوانك للكتاب مستفز والعناوين الداخلية أكثر استفزازا.. هل ذلك للإثارة أم أطروحات وقضايا تؤمنين بها؟
- لا أكتبُ شيئا لا يتوافق مع قناعتي لأني أرفض النفاق والازدواجية؛ ثم لماذا تتهمني بالإثارة وحياتنا وقضايانا قائمة عليها؛ ألا ترى الكثير من الأخبار الساخنة تُظهرنا وكأننا مجتمع عجائبي!! وأن الصحفيين الأجانب حين يزروننا يظنون أنفسهم سيقصون لقرائهم الأجانب حكاية (أليس في بلاد العجائب)!! فيما تسعى برامج التلفزيون على اختلاف جنسياتها على تصويرنا بغرض الإثارة التي تستضيف فيها مهرجين معروفين بالضحالة وتقدمهم كنماذج سعودية مثقفة تسيء لنا؛ وكثير ما حاولت قنوات أجنبية استضافتي للتحدث حول حقوق المرأة وقيادة السيارة وغيرها من قضايا لكني كنتُ أرفض؛ لمعرفتي بغرضها المسيء للوطن؛ ثم لا تنسى مقاطع اليوتيوب التي تسرق الإشاعة من بيوتنا وشوارعنا وتجعلها حقيقة بكثرة تناقلها عبر الواتساب ومواقع التواصل، فنحن من سمحنا بذلك مع الأسف الشديد نتيجة نقص الوعي وقلة المعرفة، وكل ما أحاوله في الكتاب هو إثارة اليقظة في العقل الذي يستحلب من الخرافة والوهم طمأنينة لقلبه.
صارحيني.. هل تمّ إيقافك فعلاً عن الكتابة في جريدة الوطن بعد ما يقارب تسع سنوات من الكتابة فيها أم ماذا؟
- لستُ من نوعية الكُتاب الذين يتباهون بعملية إيقافهم ومنع مقالاتهم كي تزيد شعبيتهم عبر دعاية مجانية؛ فإن لم يكن الحرف الذي تكتبه للناس سبب شعبيتك فأنت كاتب مُزيف؛ لهذا وبصراحة شديدة ورغم جرأة مقالاتي في جريدة الوطن التي يقول عنها كثيرون أسست لطرح المرأة الجريء في الصحافة المحلية؛ إلا أنه لم يتم إيقافي من أي جهة رسمية، ولا من داخل الجريدة؛ صحيح مُنعت بعض المقالات؛ لكن كل ما في الأمر أنه حصل اختلاف في وجهات النظر حول الزاوية مع الأستاذ طلال آل الشيخ حين كان رئيسا للتحرير الوطن؛ ونتيجة ذلك قررتُ التوقف عن الكتابة في الجريدة؛ لكني لم ولن أتوقف أبدا عن الكتابة للوطن.
ديوان «حبة عنب» لم يلقَ الرواج المأمول وترمين باللائمة على عدم فسحه ورقيا في ظل كل هذا الفضاء الإلكتروني المفتوح.. لماذا؟
- ببساطة لا أجيد تسويق نفسي إعلاميا، ولا أتعامل مع مكتب علاقات عامة يُوزع كتبي على النقاد والكتاب؛ إنما اعتمادي على القارئ ذاته ورغبته؛ فمن أراد أن يقرأ حليمة كشاعرة سيبحث عن كتبها في أي فضاء وسيقرؤه.
آخر ما أصدرته شعرا هو «حبة عنب» عام 2011م وبعد عامين أصدرتِ «ما وراء الوجوه» في جزأين حول حكايات شخصيات سعودية ثم كتابك الأخير العام الحالي
(رجال منقبون.. نساء سافرات) هل هو إعلان مُشفر عن تركك كتابة الشعر؟
- لن أكذب عليك، فلم أعد مخلصة للشعر في ظلّ اهتماماتي المتعددة والكبيرة؛ وأعترف بكوني مهملة جدا لنصوصي الشعرية وافتقد الحماس في تسويقها؛ وكثيرا ما رفضتُ دعوات ومشاركات شعرية محلية ودولية؛ فيما النص الشعري بمجرد أن أكتبه أهجره؛ وحين يُنشر ديوان أعتبره لم يعد لي؛ وكثيرون يعرفونني ككاتبة وإعلامية أكثر من شاعرة؛ ربما لأن الشعر لدي مجرد ضفة أستريح عليها من عناء الحياة والركض خلف الأسئلة التي باتت شغلي الشاغل، وربما لأن التفكير الذي أجنح فيه كثيرا قد أفسد العاطفة التي تغذي الشاعرة لدي؛ خاصة وأني أبحث عن صوتي بتفرد، ومن يقرأ (حبّة عنب) سيفهم ذلك.
كتابك (حبة عنب) على موقع دار سيبويه التي احتكرت نشره تضع تنبيها بأنه مناسب لمن هم فوق 17 عاما.. مثل هذا لم نتعوده في الشعر بل في الرواية والدراما! فهل تتبعين أسلوب الإثارة؟
- وضعت دار سيبويه التنبيه في (حبة عنب) لأنه فعلا يلائم ما فوق 17 عاما، وهذا من قبيل احترام القارئ وأنه غير مناسب لصغار السن؛ وفيما يخص سؤالك حول الإثارة فإن كل شيء قابل للإثارة الصفراء إن كان ذلك غاية سواء في الرواية أو الشعر أو أي مؤلف كان، ويبقى وقتيا وأشبه بفقاعة صابون؛ أما رؤيتي في التوظيف الشعري والسردي للجنس فهو نابع من اعتباره جزءا من طبيعة الإنسان وسببا لوجوده البشري، ولكن الأهم من تضمين ذلك في الأدب هو القدرة على التوظيف الفني ومدى الحاجة له في بناء النص، وأظنني بحسب من قرؤوا الديوان أحسنت التوظيف؛ وتنبيهي سببه أن بعض النصوص في (حبّة عنب) تحتاج إلى مستوى من النضج الأدبي الفكري حتى يستطيع القارئ التعاطي معها، ولا أظن من هم دون هذا السن وصلوا لهذا النضج.
تمتنعين عن نشر قصائدك في الصحافة السعودية بحجة رفضك لقصقصة نصوصك.. هل مازال الحجب والقص مجديا مع هذا العالم المختلط أم أنك تجدينها حجة لتبقى نصوصك بحضنك كما تصفين؟
- تجربتي فيما نُشر من نصوص شعرية بالصحافة يؤكد تدخل الرقيب؛ وهذا ضايقني؛ لهذا احتفظت بها حتى خرجت في الديوان الأخير؛ أما لماذا لا أنشر إلكترونيا فلأني على علاقة بسيطة بهذا العالم؛ أنا نشيطة في تويتر مثلا ولكن لا يعني أني ضليعة في أيقونات الفضاء الإلكتروني.
في عام 2009 وبعد ثلاثة أشهر من إحراق خيمة أدبي الجوف أصرّت حليمة على الحضور والمشاركة وتحدي التهديد بالقتل ممن يرهبوننا تلك الفترة التي ضربت عقول بعض المأزومين والتكفيريين، فلماذا حدث كل ذلك؟ وهل من الممكن أن نجد تفسيرًا مقنعًا له بعد هذه السنوات؟
- بداية، دعني أقدم كل التقدير للأستاذ إبراهيم الحميد رئيس نادي الجوف الأدبي السابق، والذي ترأس النادي تلك الفترة؛ هذا الرجل المحترم تحدى التهديد بالقتل بموقف لمثقف الشجاع وواجه التطرف بالاعتدال والحكمة، وكان يُمكنه تفاديه بمجرد إلغاء استضافتي التي تسببت في إثارة هؤلاء المتطرفين ممن نددوا باسمي عبر ما وصله من بعض الرسائل وفي المنتديات الالكترونية، ولطالما وصلتني عبر بريدي الإلكتروني تهديدات بالقتل والتصفية من مجهولين متطرفين اعتراضا على مقالاتي التي تحارب التطرف والتشدد الديني في جريدة الوطن آن ذاك ولكني لم أحملها على محمل الجد؛ وسبب ذلك الحريق كما يدركه كثيرون ممن عاصروا القصة هو نتيجة لاستضافة حليمة الكاتبة الصحفية لا حليمة الشاعرة؛ وليس كما يروج له بعض السطحيين بأن الحريق بسبب استضافة عنصر نسائي؛ فقبل استضافتي في النادي آن ذاك شاركت عدد من المثقفات بأمسيات وجاءت مشاركتي رقم 15 إن لم تخني الذاكرة، والأستاذ القدير إبراهيم الحميد يعرف ذلك وقد تحدثنا حول الموضوع؛ وبعد حرق النادي سألني : ما زالت الدعوة قائمة فهل يمكنك الحضور رغم كل ما حصل؟ فأجبتُه: بالتأكيد حتى لو أقمنا الأمسية في الشارع، أهم شيء ألا نرضخ للمتطرفين والإرهابيين وهذا هو سبب إصراري على المشاركة؛ وأتذكر حين ذهبتُ إلى الجوف أخبرتُ والدتي ووالدي أني ذاهبة إلى الرياض لعمل ما، وأوصيتُ أخوتي رغم اعتراضهم ألا يخبرونهما حتى أعود؛ لأنهما لو عرفا بذهابي للجوف بعد التهديدات وما حصل لن يغمض لهما جفن؛ والحمد لله زرت الجوف وإقامتي لم تتجاوز 24 ساعة، كنتُ خلاها تحت حماية مشددة منذ وصولي وحتى عودتي، وتمت الأمسية بحراسة أمنية ؛ وهذا كله محل تقدير وامتنان لإمارة المنطقة التي أخذت التهديدات بجدية، وللأستاذ إبراهيم الحميد الذي كان من الشجاعة التي لا يتحلى بها كثير من المثقفين اليوم أن تحدي تهديدات القتل وأصرّ على استضافتي.
«ما وراء الوجوه» ماذا تريد أن تكتشف مظفر من وراء تلك الوجوه؟ ومتى نقول إن هذا الإصدار نتيجة لعصارة الحياة وتجربة عمر حليمة؟
- لقد تعلمت من تلك الوجوه الكثير خلال حفري لما وراءها؛ لكني أترك ذلك لفطنة القارئ؛ واسمح لي أن أدع غيري يتحدث عن الكتاب واقتبس من مقالة نشرتها الكاتبة والروائية الأستاذة زينب البحراني عنه أشكرها عليها؛ حيث قالت: «يُعتبر إضافة نوعية متميزة، لأرشيف تاريخ الحضارة الإنسانية السعودية المعاصرة، إذ أنه بتسليطه الضوء على أكثر من عشرين شخصية مؤثرة في الماضي والحاضر السعودي على مدى مائة عام من تاريخه».
ما بين المفكر مرزرق بن تنباك وتركي الحمد تجمع وتنثر حليمة رؤيتها لأشياء وأشياء وتطرح أسئلة حول ما يؤمنون به.. هل حاجتنا لوجود رمز فكري أصبح اليوم ماسًا في ظل تخبطاتنا وتيهنا الذي نغرق به؟
- أنت ذكرت أستاذين ونسيت واحدا كان أول من شجعني وهو الأستاذ عبدالفتاح أبو مدين الناقد والأديب الكبير، هؤلاء يمثلون لي الشيء الكثير؛ لأني عرفتهم في بداياتي المبكرة؛ وتعاملوا مع كاتبة وصحفية واعدة تشق طريقها بكل حضارة وإنسانية فلم يقزموا حجم أسئلتي المبكرة، ووهبوها اهتمامهم عبر حواراتي الصحفية التي اتخذتها وسيلة لأتعلم ممن أحاورهم ومما يكتبوه وما زلت؛ فقد تعلمتُ من الأستاذ أبو مدين الصرامة في الرأي وعدم المجاملة والحياد؛ ومن الدكتور الحمد كيف تُبصر السياسة والإنسانية في رقعة «الشطرنج»؛ أما الدكتور بن تنباك فتعلمت منه أن في عالم العقل لا يوجد شيء يُسلم به؛ كما تعلمتُ من الكثيرين ممن لا تسعني المساحة لذكرهم ومنهم الأستاذ الكبير الموسيقار غازي علي والقدوة الأستاذ ماجد الشبل والأديب الأستاذ عبدالله الجفري وغيرهم كثيرون وما أزال أتعلم.
تقدم حليمة نفسها ككاتبة وأديبة مثقفة ثم نراها تمارس دور السياسي في تتبع الثورات العربية و مشروع إيران النووي والسياسة الإيرانية وملاحقة داعش والحوثيين حدثينا أكثر عن حليمة الإنسانة بين كل هذه المجالات والتخصصات؟
- تستطيع القول إني مجموعة حليمات (تضحك) وتتابع: لا شك أننا نعيش في زمن التخصص؛ لكن الكاتب شيء مختلف؛ عليه أن يجمع بين التخصص في أمر ما، وبين أن يكون ملما في كل شيء أيضا؛ ففكرتي حول المؤلف هي الفكرة التقليدية التي حملها القدماء، إذ تجدهم يأخذون من كل علم ويؤلفون في كل فن؛ أما السياسة فلا أحب الكتابة فيها، ولكنها بعد الثورات العربية أصبحت لغة الشارع؛ وباتت تتدخل في كل شيء بحياتنا؛ ولا أزعم أني محللة سياسية وإن قدمت العديد من القراءات السياسية التي صدقت في تشريح الواقع بعقلانية في وقت لعبت فيه العاطفة دورها وغلبت الكثيرين؛ وحين أجد هناك ما يجب كتابته كرأي سياسي فلن أتردد في كتابته.
في الماجستير تخصصت في المسرح ومفهوم الدراما.. لكن حضورك ضعيف فيهما فأين أنتِ عنهما؟ وهل هناك أمل في وجود حقيقي للمسرح والسينما؟
- موجودة ولكن عند الطلب، لأني لا أُسوق نفسي؛ ولدي مشاركات عربية تُعنى بالمسرح وذات تأثير بشهادة نقاد عرب كبار رغم قلة مشاركتي، فقد انشغلت في السنوات الأربع الأخيرة بإصدار (ما وراء الوجوه) الذي خرج في جزأين و(رجال منقبون.. نساء سافرات) كما انشغلت بمرض الوالدة ثم بمرض والدي شفاهما الله وهما أول أولوياتي؛ ولكني حاضرة حين يُطلب مني ما أشعر بأنه يستحق؛ فلستُ ممن يهدر وقته لمجرد تسجيل حضور بتقديم أوراق لأفكار تقليدية؛ أما فيما يتعلق بإحياء المسرح ووجود السينما فذلك سيحصل عاجلا أم أجلا؛ لكنهما يحتاجان إلى همة واحتراف وقرار نافذ، وليس إلى هواية واجتهادات فردية مشتتة؛ خاصة ونحن نحتاجهما كثيرا في الوقت الراهن؛ لمحاربة الغلو ومكافحة الإرهاب؛ فالمسرح والسينما ليسا أداة ترفيه بل أداة من أدوات التنوير والوعي والمعرفة، وهو ما تستغله أمريكا التي عرفها العالم كأرض للأحلام نتيجة ما تنتجه هوليود التي قدمت وجهها الجميل وجعلت الناس تنسى ما فعلته يوما في هيروشيما والفيتنام والعراق وما تزال.
هل حليمة عاجزة عن كتابة رواية واحدة تشير لها الأصابع كما تشير الآن لعبده خال ويوسف المحيميد ومحمد حسن علوان ورجاء عالم؟
- لستُ عاجزة؛ وكثيرون من الأصدقاء والصديقات المهتمين بالسرد يقولون أني أتمتع بأدواتها، خاصة بعد كتابي (ما وراء الوجوه) الذي اعتمدتُ فيه السردية؛ وهناك عمل روائي أخطط له منذ سنوات؛ وأنتظر اللحظة التي أبدأ كتابته؛ فالرواية بالنسبة لي ليست مجرد ثرثرة بين شخوص حول هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو غياب الحريّة أو حقوق المرأة المهدورة أو طلاق أو قصة حب أو مشاكلنا الاجتماعية الفاترة؛ كل هذه الأمور مجرد قشرة يستخدمها الروائي لأمر أعمق ينحت فيه من وجهة نظري؛ ولأن الرغبة التي تتملكني هي أن أكتب رواية للأجيال وليست لجيل يُصفق لها عام أو عامين ثم تُصبح مملة وهذا ما يجعلني أتروى.
إذا حققت النجاح ستكسب أصدقاء مزيفين وأعداء حقيقيين، وفي جميع الأحوال أنجح -ستيفن كوفي- حليمة قد تكونين من أكثر الإعلاميين والكتاب الذي ينطبق عليهم مضامين هذا القول هل لأنك نجحت فعلًا أم لأنك كاتبة صاحبة مبدأ واضح وإن كان مثيرًا للجدل نوعًا ما؟
- لماذا لا نقول الاثنين معا؛ النجاح له أصدقاؤه وأعداؤه وأن يكون لديك مبدأ ثابت غير قابل للمجاملة أو النفاق أيضا له أعداؤه، ثم وجود هؤلاء حتمي في حياة الأشخاص الذين لا يفترون عن المضي للأمام؛ لكني ممن يُدير الظهر لهؤلاء، وأكتفي بتركهم خلفي، فليس لدي وقت للالتفات للوراء وأمامي الكثير لأنجزه في رحلة الحياة القصيرة، وخسارة أضيع وقتي عليهم.
أحلامنا تعتبر حياة ثانية حين نعجز عن فتح الأبواب التي تُطل على العالم الثاني من دون أن ندفع ثمنًا باهظاً، ما هو الحلم الذي تنظره حليمة والحلم الذي يئست أن يتحقق؟
- الإنسان الذي ليس لديه حُلم ليس إلا جثة! وبفضل الله معظم أحلامي التي سخر منها بعضهم تحققت بعد تعب وصبر وإيمان؛ فلستُ ممن يؤمنون بكائن وهمي اسمه (مستحيل)؛ ولدي أحلام أنتظر الوقت المناسب لأبدأ الشروع في تحقيقها؛ والطموح لن يفتر إن شاء الله.