المدرسة المثالية في الفلسفة هي المدرسة المقابلة للمدرسة الواقعية، وسوف أعرّجُ في هذه السلسلة الموجزة على زبدة أبرز ما خرجتُ به من دراستي المعمقة للفلسفتين معًا، بتبسيط شديد.
بوابة الدخول عندي هي: الفلسفة المثالية = المصدر المهم للحقائق هو العالم العقلي والحدس والإلهام والضمير وما يدخل في هذه الدائرة الروحية. الفلسفة الواقعية = المصدر الأول للحقائق هو العالم الحسّي الذي نعيشه في واقعنا.
وبعد هذا المدخل، نبدأ التفصيل في الفلسفة الأولى «المثالية»، ومن أجمل ما قيل في تلخيص هذه الفلسفة، أنها التأمل العقلي الشامل لكل ما في الكون، فالعقل هو العريق الشامخ عندهم، وسلطانه هو السلطان المجيد الأكيد الوحيد الراسخ؛ لاعتقاد أنصار المثالية أن الحقائق التي تدرك بالعقول أكثر وأهم من الحقائق التي تدرك بالحواس، فالأفكار -بتبسيط شديد- سابقة على المحسوسات عندهم، كما أن الحقائق التي يدركها العقل البشري أزلية مطلقة، وثابتة لا تقبل التبدّل والتحوّل، أما الحواس برأيهم، فمتصلة دائمًا بالنسبية واللبس والغموض والاضطراب وعدم الاستقرار.
فالملاحظ هو أن هذه الفلسفة تهتم كثيرًا بالروح وتعليها، وتعتبر العقل مظهراً من مظاهرها، باعتباره مصدرًا للإرادة والتفكير، وفي المقابل تقلل الفلسفة المثالية من دور المادة والحواس، كما تهتم هذه الفلسفة بالنواحي الاجتماعية كثيرًا، إذ إنها تؤمن بأن الإنسان كائن اجتماعي جدًا، ويرى بعض فلاسفتها أن الإنسان خليط معقد من الخير والشر؛ بالإضافة إلى أن أصحاب هذا المذهب الفلسفي يرون أن الغاية من التربية هي السمو بروح الإنسان أولا، والارتقاء بأخلاقه إلى أعلى المنازل. وإذا نظرنا لغويًا إلى كلمة «مثالية» سنجدها تعود في لغتنا العربية إلى الجذر «مثل»، ومَثُل الرجل مثالة بمعنى فضُل، أي صار من أهل الفضل وذا مزية بين أقرانه. قال الجوهري في كتابه (الصحاح في اللغة): «فلانٌ أمثلُ بني فلانٍ، أي أدناهم للخير. وهؤلاء أماثلُ القومِ، أي خيارُهم. وقد مَثُل الرجلُ بالضم مَثالةً، أي صار فاضلاً. والمُثْلى تأنيث الأمثلِ».
أما معناها في لغة الإغريق، فالمثال يعني الصورة أو الفكرة. ومن هنا يرى المؤمنون بهذه الفلسفة وجود أفكار عامة وثابتة ومطلقة. فالمعنى اللغوي للمثالية يرتبط دائمًا بالخير والفضيلة والسمو والرفعة وغيرها من مرادفاتها، فنقول: المثل العليا.. ويرتبط أيضا بالفكر والفكرة والأفكار ارتباطًا قويًا؛ ولذلك نجد بعض المهتمين بالفلسفة يطالب بتغيير اسمها من (الفلسفة المثالية) إلى (فلسفة الأفكار).
أما تعريف المثالية في الاصطلاح الفلسفي، فمن أجمل تعريفاتها في نظري غير ما ذكرنا: المذهب الفلسفي الذي يرى أن حقيقة الكون أفكار وصور عقلية، وأن العقل هو مصدر المعرفة الأساسي الرئيس.. فالمثالية مذهب يُعبّر عن الحقائق الكبرى في الوجود بلغة الفكرة والأفكار غالبا. ويُعرّف آخرون المثالية بأنها «مذهب يعتقد المؤمنون به وجود أفكار عامة، وثابتة، ومطلقة، وهذه الأفكار وُجدتْ بطريقة ما، من قبل عقل عام أو روح عامة»،. وهذا يوجب علينا الاستطراد قليلا في نقطة حسّاسة، وهي أن السائد في عدد من الكتابات الفلسفية هو التقسيم إلى: (فلسفة مثالية وفلسفة مادية)؛ ولكن الأقرب عندي هو ما ذكرته، أي أن التقسيم هو إلى (فلسفة مثالية وفلسفة واقعية)، ويؤيد هذا الكثيرون، ومنهم رابوبرت، يقول في كتابه مبادئ الفلسفة، بتعريب أحمد أمين: وقد أخطأ بعض الناس فهم «الروحانية» فلقبوها (مذهب المثال) مع أن مذهب المثال هذا يقابله (مذهب الواقع) لا (مذهب الماديين) كما ستعلم عند الحديث عن نظرية المعرفة.
وللخلوص من هذه النقطة أعتقد - حسب اطلاعي- أن التقسيم الآخر، أي التقسيم إلى (فلسفة روحانية وفلسفة مادية)، هو تقسيم مرتبط بعقيدة الخلق أكثر، أو بعقيدة بدء التكوين إن صح التعبير، أي أنه مبني على الانقسام حول خلق المادة، هل وُجدتْ أو هل بدأ وجودها بقوة روحية أم بقوة مادية مجردة. ومن أروع ما قرأتُ في هذه المسألة، قول جورج بوليتزر مثلاً، في كتابه: مبادئ أولية في الفلسفة، بتصرّف يسير مني: «عمد الفلاسفة إلى تحديد موقفهم من السؤال الرئيسي في الفلسفة، الذي يطرح بعدة صور عن علاقات المادة والروح، فانقسم الفلاسفة وفق إجاباتهم إلى معسكرين كبيرين، فالذين تبنوا التفسيرات غير العلمية أكدوا أن الروح هي التي خلقت المادة، وهؤلاء كونوا معسكر الروحية أو الروحانية. أما أولئك الذين بحثوا عن تفسير علمي للعالم، والذين يعتقدون أن الطبيعة أو المادة هي العنصر الأساسي.. هؤلاء كانوا ينتمون إلى مختلف مدارس المادية». والحقيقة أن هذا التدقيق في التفريق لا يهم إلا فئة المتعمقين جدًا في الفلسفة، ولذلك يكفينا منه هذا القدر في مثل هذه المقالات التبسيطية.
نعود بعد هذا الاستطراد إلى موضوعنا، حيث يرى كثير من الباحثين أن الفلسفة المثالية هي أول فلسفة تربوية مكتوبة, والفلسفة المثالية مذهب موغل في القدم، بدأ مع أفلاطون كما يرى البعض، أو مع فلاسفة أقدم سبقوه كما يرى آخرون، وهي اتجاه فلسفي يهدف إلى تكوين الرؤى والتصورات العامة عن الكون باستخدام العقل، وينص هذا الاتجاه على أن كلَّ ما يوجد في الواقع من الأشياء ليس شيئاً غير أفكارنا في الأصل, فلا يوجد في النهاية أية حقيقة إلا ذواتنا المفكرة، فهي الحقيقة في النهاية دائمًا وأبدًا، ولذلك تُعرِّفُ بعضُ الموسوعات الفلسفية الفلسفةَ المثالية بأنها الاتجاه الفلسفي الذي يُرجع كلَّ وجود إلى الفكر، بالمعنى الأوسع الأعم لهذا المصطلح.
فالمثاليون بشكل عام ينظرون إلى العالم نظرة مزدوجة لها ناحيتان، الأولى هي ناحية العالم الحسّي، بكل ما فيها من خبرات البشر، وهو عالم ناقص عندهم.. أما الناحية الثانية فهي الكاملة الحقيقية وهي عالم الأفكار العلوي الذي يوجد في عالم آخر غير عالمنا بحسب تعبير أفلاطون وغيره من فلاسفة المثالية. وقد تفرّع عن الازدواج السابق في نظرتهم ازدواج آخر، وهو أنهم نظروا للإنسان بوصفه مكوناً من العقل والمادة؛ ولكنهم في غالب أحوالهم يصبّون جلَّ اهتمامهم على الجزء العقلي أو الروحي في الإنسان، مع شيء من الإهمال الواضح للجسد.
والزبدة أن عالم المادة بكل ما فيه هو عالم غير حقيقي في نظرهم؛ لأنه يتميز بالتبدلات والتحوّلات المستمرة وعدم الوضوح ولا الثبات لكل ما يدركه الإنسان بحواسه المختلفة؛ بالإضافة إلى أن المثاليين من الناحية الأبستمولوجية، يتجهون في الجملة إلى أن المعرفة الحقة مستقلة عن الخبرة الحسيّة.
والحق -بحسب غالبية الباحثين- أن أفلاطون الذي عاش بين 427-342ق م، هو رائد هذا الاتجاه في الفلسفة، وربما مؤسسه أيضًا، وخاصة بما برز من أفكاره المثالية في كتابيه المشهورين الجمهورية والقوانين.. ومن أبرز فلاسفة هذا التيار المثالي أيضًا «كانط» و»هيجل» و»ديكارت»، مع ضرورة التأكيد على أن نسبة كبيرة من فلسفة ديكارت أيضًا تدخل في دائرة الفلسفة الواقعية. وقد كتبتُ عن الثلاثة (أفلاطون، وكانط، وديكارت) عددًا من المقالات المفصّلة المتسلسلة، وبإمكان من أراد التعرّف عليهم وعلى تلخيصي للكثير من أفكارهم الرجوع إليها.
وهناك نقطة أكدتُ عليها سابقًا في سلسلة مقالاتي عن (الفلسفة الوجودية)، وهي أن أمَّ الأفكار الوجودية، التي يدور كلُّ شيء في فلكها عند غالب الوجوديين فيما ظهر لي، هي فكرة (الوجود السابق للماهية)، فوجود الإنسان سابق لماهيته عند الوجوديين، أي أنه يصنع نفسه بحرية لا محدودة، ودائمًا أحبُّ تقريبَ هذه الصورة بهذا المثال: لو أراد أحدنا بناء منزل مثلاً فإنه سيذهب لمكتب هندسي ليرسم ويصمم له المخطط الذي يسبق البناء، ثم يبدأ المختصون والعمال في بناء المنزل وفق ما في ذلك المخطط، وبهذا الشرح تكون ماهية المنزل سابقة لوجوده.. وهكذا لو نقلنا المثال من المنزل إلى الإنسان، فسنجد أن كثيرًا من البشر -رغم اختلافاتهم في الأديان والمعتقدات- يرون أن ماهية الإنسان سابقة لوجوده، كما في مثال المنزل السابق، أي أنهم يعتقدون بوجود أقدار إلهية أو ربانية، أو نواميس أو قوانين معينة، وجدت في الكون أو وضعها خالق الكون، تجعل كلَّ إنسان يسير في حياته وفق ما قُدّر أو كُتب له، أو حسب ما يناسبه من تدابير الرب ونواميس الحياة مثلاً. أما الوجوديون فيعتقدون العكس، فيرون أن وجود الإنسان يسبق ماهيته، أي أن الإنسان يصنع ماهيته بنفسه، وبناء عليه اهتموا بفكرة «إثبات الوجود»، فالواجب على الإنسان عندهم إثبات ذاته وتكوين صورة وجوده وخلق ماهيته الخاصة، من خلال مواجهة الحياة والكفاح في هذا العالم.
وسبب عودتنا إلى هذه النقطة هنا في هذه المقالة، هو أن (الفلسفة المثالية) تقف على العكس تمامًا من فكر التيار الوجودي في هذه الجزئية، أي أن المثاليين يقفون مع التيار الآخر الواسع الذي يؤمن بأن الماهية هي السابقة وأن الوجود هو اللاحق. كما يحسن الانتباه إلى أن الفلسفة المثالية تأثرتْ في بعض الأماكن والأزمان بالديانة المسيحية، حيث تبناها واهتم بها كثيرٌ من رجال الدين والمبشرين المسيحيين طوال العصور الوسطى وحتى عصر النهضة، والسبب هو أنها تتوافق مع إيمانهم بوجود الحقيقة النهائية في العالم الروحي المنفصل عن حياتنا وأرضنا التي نعيش عليها، ولذلك يقال: إن الفلسفة المثالية هي الفلسفة الأولى من ناحية استفادتها من عدد من الأديان التي ساهمتْ بقوة في انتشار الأفكار المثالية، وخاصة اليهودية والمسيحية.
وائل القاسم - الرياض