بعد أن نضجنا, وجربنا الحياة كثيرة الكَلَفة؛ صرنا نحِن إلى صباحات بيوتنا العتيقة.
نحِن إلى صباحات الجدات, التي كانت تبدأ بصرامتهن، وهن يُوقظن فينا الصبح من قبل بزوغ النور, قبل أن تتحول إلى ابتسامة غبطة، ومداعبة, وهن يريننا متحلّقين حولهن بأنصاف أعين يقظة.
كن يعرفن بحيل نفسيّة- لا يجيدها كبار الأطباء النفسيين اليوم- كيف يسرقن من ألسنتنا الحكايات البريئة؛ ليَضحكن, ويُضحكننا معهن, فيفتحن بيننا, وبين الصباح نافذة, تنشق لها شفاهنا الصغيرة.
صرنا نحِن إلى تلك الحياة المنسلّة من أبواب الغرف؛ المفضية إلى فناء الدّار, حيث تتربع الجدات مع أوّل بواكير الصباح.
تلك الغرف التي لم يطالب ساكنوها من الأبناء؛ بالاستقلالية التّامة : بهاتف, وتلفاز, وثلاجة, وبقية المرافق.
تلك الغرف؛ التي تجمع بين الأخوة في غضبهم, ورضاهم, وتُعودهم على أن يحتمل كلّ واحد منهم الآخر بحب ورحمة.
نحِن إلى رائحة الخبز( العادي), والعدس بالكمون, والسمنة البلدي من تحت أيدي أمهاتنا.
إلى الشاي الممزوج بحليب( وادي فاطمة), إلى الإفطار الحقيقي؛ بعيدًا عن البان كيك, والكريب بالنوتيلا, والمرتديلا.
إلى حينا القديم، وجيراننا لطيبين.
إلى جاراتنا اللواتي كن يسرقن بثرثرتهن الصباح من أُمّهاتنا, بل ويشاركن في تربيتنا دون تحسس, وتفسير نوايا.
نحِن إلى كلّ الكائنات الحيّة ,التي كانت تشاركنا المنزل, والتي كانت تُهدى لنا بالاسم فور ولادتها, فنبدأ معها رحلة المغامرات بين صديقين, لا ينفك أحدهما عن الآخر من الصباح حتى مغيب الشمس.
صرنا نحِن لحياة الشقاوة في زِقاق الحيّ, والمشاكسة مع أبناء, وبنات الحارة.
نحِن إلى تلك البيوت التي لم تكن للتباهي ؛ تلك البيوت التي كانت أكبر غايات ساكنيها, أن تكون مكانًا تجتمع فيه القلوب.
وعلى الرغم من ضِيقها, إلا أنّ قلوب ساكنيها متسعة!
أثاثها البسيط, تزينه قلوب فاخرة, نادرة في زماننا هذا.
وعلى أن المدينة, هي المدينة؛ إلا أننا ساهمنا في تغير ملامحها بتكلفنا, وجعلناها تدمن التّكلف, حتى صار صدرها ضيّق, و فمها مليء بالشتائم بلغات عدة!
صارت تعاني حالة انهزام دائم أمام الحمق, الذي تُعلمه العَمَالة لبعضها البعض.
انتفخت بالبذخ, فضاعت ملامحها, وصارت في صباحات الإجازات مدن الحبّ للعمال والخدم, بعيدًا عن أعين الرقباء النائمين حتى الظهر.
صرنا أمام كل هذه الأقنعة, والبطالة؛ نحتاج لبساطة تصلنا بنا.
لصدور تتسع لأقدام المارة, دون أخذ إذن, أوحجز موعد مع التكلف.
لصدور ترحب بنا كالجدات والأمهات.
لصدور لا تكترث للوقت, ولا الهيئة التي سيرانا عليها الطارق لباب البيت.
نحتاج لزمن الجارات اللواتي يسرقن الصبح منّا؛ لأننا نهمهن.
الجارات اللواتي يزعجننا بنقاء؛ لأنهن خفن علينا, عندما لم نرد على اتصالهن, دون أن يغضبن, أويفتحن للنوايا السوداء أبوابًا.
نحتاج لصدور لديها القدرة على قفز سياجات النوايا السيئة, ومغادرتها بعيدًا حتى لا تلتفت لها.
نحتاج أن ننهض صباحًا على صوت الحياة التي صرنا نفتقدها.
على صوت العصافير, ونقيق الدجاج, وصياح الديك الذي كان يعلن لنا عن بدء الحياة!
د. زكية بنت محمد العتيبي - الرياض