إن استعمار العقل البشري أو استعمار عقول الأفراد والجماعات،لا يمكن أن يتحقق إلا بمعرفة نقاط ضعف وقوة العقل البشري ذاته،ومن هنا ظهرت إلى النور النظريات التي تبحث في كيفية إمكانية استثمار نقاط ضعف العقل البشري، لاكتشاف وسائل التأثير والجذب والإقناع والاندماج، والتي تعتمد على الاستحواذ على أفكار الآخرين وتفسيرها وفقا لتوجهات أيديولوجية قصدية، أو تجريد الآخرين من أفكارهم وزراعة أفكار جديدة أيضا وفق توجهات أيديولوجية قصدية.
الطبيعة الإنسانية ذات جوهر واحد؛ فالخائف يحتاج إلى فعل يُشعره بالأمان أو إحساس يشعره بالأمان، والمظلوم يحتاج إلى فعل يٌشعره بالعدالة أو أحساس يشعره بالعدالة، والضعيف يحتاج إلى فعل يُشعره بالقوة أو إحساس يشعره بالقوة.
و المهمّش يحتاج إلى فعل يشعره بالبطولة أو إحساس يشعره بالبطولة.
و الحزين يحتاج إلى فعل يٌشعره بالسعادة أو إحساس يشعره بالسعادة، واليائس يحتاج إلى فعل يُشعره بالأمل أو إحساس يُشعره بالأمل.
قد يكون الفعل والإحساس هنا حقيقيين على مستوى المجاز، لا على مستوى الحضور الواقعي،لكن كونهما غير حقيقيين بدلالة الحضور الواقعي لا يمنع من حصول إزاحة للفعل المؤلِم عبر الاستجابة، وتكوين ذاكرة خاصة لأثر معرفي جانبي وإصدار طاقة انفعالية تملك قدرة محتملة على صناعة ردة فعل قابل للقياس والتغيير.
وحصول إزاحة وتكوين ذاكرة جانبية للأثر وإصدار طاقة لصناعة ردة فعل قادرة على التمثيل تحتاج إلى خمسة عوامل تتعلق بطبيعة التلقي وطبيعة الخطاب وطبيعة البرمجة العصبية للمتلقي.
وتلك العوامل هي؛ نسبة المصداقية وتتعلق هذه النسبة بهوية المُصدّر، معقولية الاقتران، كمية التكرار، كيفية الإقناع، نسبة جاذبية المستعرِض.
وهناك جانب آخر، فالاستثمار هاهنا ليس قاصرا على «مهدِدات الفرد أو الجماعة» إنما يشمل ذلك الاستثمار أيضا «زعزعة مُطمئِنات الفرد والجماعة»؛ فالجماعات والشعوب يجب أن تظل خائفة من الأمراض القادمة والحروب القادمة والإرهاب القادم، والتلوث والاحتباس الحراري والكائنات الفضائية التي قد تغزو الأرض وتدمرّه.
وتحول تلك «المٌزعزِعات للأمن النفسي والاجتماعي والاقتصادي والبيئي للجماعات والشعوب» إلى يقين سيُصبح هو المتحكم في المستقبل، يعتمد على ذات العوامل الخمس السابقة؛ نسبة المصداقية، معقولية الاقتران، كمية التكرار، كيفية الإقناع، نسبة جاذبية المستعرِض.
تقول ميريل وين ديفنز مؤلفة كتاب الحلم الأمريكي كابوس العالم» الخوف هو البضاعة الرائجة والشائعة في وسائل الإعلام الأمريكي،... بات مطلب الشعور بالخوف جزءا من الذهنية والنفسية الأمريكيين، ثمة دأب على تفعيل هاجس الخوف لإدامة النظام الرأسمالي والليبرالي القائم على المبادرة على جبهات كثيرة.
ففي عام 1933م قام روزفلت بإبلاغ الشعب الأمريكي «أن الشيء الوحيد الذي ينبغي أن نخافه هو الخوف نفسه».
لكن كيف يٌمكن التحكم في تسيير الطبيعة الإنسانية؛ سواء بالتحكم في استغلال مُهدِداتها وأوجاعها، أو التحكم في المتاجرة في مُطمئِناتها وابتزازها وجدانيا واقتصاديا وعقائديا.؟
من خلال عدة قنوات هي؛ صناعة الرأي العام، تثبيت استراتيجية الثيّمات، الأدب، الصحافة، المسرح، السينما، التلفاز، الإنترنت، مواقع التواصل الاجتماعي.
مرّت البشريّة في تطورها الكليّ حتى الآن بأهم خمس ثورات هي، الثورة الزراعية، والثورة الصناعية، وثورة الاتصالات، الثورة المعلوماتية، والثورة الرقمية.
وقد يرى أنصار الثورة المعلوماتية أنها ثورة خالقة للعدالة الاجتماعية باعتبار أن المجتمع المعلوماتي يتساوى فيه الناس من حيث الوصول إلى المعلومة عبر الإنترنت دون عوائق تمييزيّة، كما يروا أن التقنية الرقمية قوة طبيعية تضع الناس جميعاً في منظومة عالمية أكثر توافقاً.
والإنترنت شبكة اتصالات عالمية تسمح بتبادل المعلومات بين شبكات أصغر تتصل من خلالها الحواسيب حول العالم، إلى البنية التحتية التي تنقل تلك المعلومات عبر القارات.
والظهور الأول للأنترنت كان ذا صبغة عسكريّة أنتجته هيئة الأبحاث العسكرية المتقدمة الأمريكية، أثناء الحرب الباردة لربط مواقعها العسكرية بشبكة اتصالات قوية غير مركزية تستطيع مقاومة الأخطاء في النظام.
وفي ظل ثورة الأقمار الصناعيّة وثورة المعلومات من خلال الإنترنت ظهر لدينا مصطلحان؛ «العولمة والمجتمع المعرفي» وقد يعتبر البعض أن كليهما يدور في فلك بعضهما البعض.
عندما نشر أرسطو بعض محاضراته أرسل إليه الأسكندر المقدوني قائلا «لم تُحسن صنعا أن نشرت بعض محاضراتك فكان من الواجب عليك أن تجعلها سرا نباهي به الأمم»، فرد أرسطو «لا أزال أفضل أن تكون لي قوة العلم لا قوة السلاح»-العولمة إبراهيم التركي-.
ويمكن أن نستنتج من الحوار السابق بين الأسكندر المقدوني وأرسطو أمرين هما؛
الأمر الأول: أن المعرفة سلطة في ذاتها، والأمر الثاني: إمكانية عسكّرة قوة المعرفة، وهو أمر أكدّ عليه نيتشه عندما ربط إرادة القوة بقوة المعرفة.
والمجتمع المعرفي هو المجتمع الذي تقوم بنيته الأساسية على نشر المعرفة وإنتاجها وتوظيفها بكفاءة في جميع مجالات النشاط المجتمعي، من خلال التعليم وتوفير الإمكانيات اللازمة لتسهيل صناعة المعرفة المعرفة والثقافة والإعلام ووسائل الترفيه المختلفة مثل المسرح والسينما.
والمجتمع المعرفي لا يُصبح بهذا التوصيف إلى من خلال الثالوث السابق، الاهتمام بنشر المعرفة دون شرط أو قيد، وإنتاج معرفة جديدة، وتوظيف المعرفة الجديدة من خلال مجالات ابتكارية تسهم في التقدم العالمي.
والانضمام إلى مجتمع المعرفة يعني ما يلي:
1-سهولة الحصول على المعلومة. 2-حرية تصدير المعلومة أو إنتاجها، وهو ما يعني كسرا لقيود الاستبداد الرقابي. 3-توسيع مجالات الخبرة المعلوماتية بين أكبر عدد من الناس من ذوي العقائد والأعراق والثقافات المختلفة. 4-تحول المعرفة إلى حامل سلطة وهو ما قد يؤدي إلى صدمات بين السلطة التقليدية وخاصة الاستبدادية وسلطة المعرفة المفتوحة.
ورغم فوائد المجتمع المعرفي إلا أنه في ذاته هو «سلطة استعمارية» أو قد يتحول إلى «عسّكرة المعرفة»، وخاصة في البلدان «المستهلكة للمعرفة»، لأن المجتمعات غير المعرفية ستتحول إلى مستقِبل للمنظومة المعلوماتية المستوردة من مجتمعات معرفية، وهنا تصنع المعرفة إلى المستقِبل السلبي «كسلعة» ذات خطاب إيديولوجي قصدي يخدم مصلحة «المُورِد» وبذلك تتحول المعرفة إلى «سلطة استعمارية».
ليس بصحيح أن المعلومات المكوّنة للمعرفة منظومة مُفرغة من الإيديولوجية أو على أقد تقدير تحمل خلفية محايدة في مجملها؛لأن تحول المعلومة إلى معرفة يكسبها أيديولوجية وسلطة وخطاب قصدي.
فالمعرفة هي مصدر صناعة الاعتقاد فهي إدراك ووعي وفهم واكتساب واستنتاج في ضوئه يُمثل الفرد أو الجماعة لموقف وعلاقة مخصوصين.
وخطورة المعرفة القادمة من مجتمعات معرفية إلى مجتمعات غير معرفية تكمن في: جاذبية الغالب، وسلبية المستقِبل، والتحكم في تكوين معايير الحقيقة، وتشريع فلسفة الاحتيال.
ومصادر تلك الخطورة ستكون حديثنا لاحقا،إن شاء الله.
- جدة