(الصحف الورقية تلفظ أنفاسها الأخيرة)، (الكتاب الورقي يموت).. هذان ليسا عنوانين، بل هما مقالات كاملة تتكرر كل يوم منذ بضع سنين؛ ربما اكتشف كاتبوها فجأة أن الكتابة أصبحت ممكنة من دون استخدام الأوراق والأحبار فلم يجدوا ما يكتبونه على الشاشة الإلكترونية التي اكتشفوها مؤخراً سوى هذه المقالات!
عبارة (التاريخ يعيد نفسه) عبارة صحيحة ولكن قراءة بعض المتأملين في التاريخ ليست صحيحة؛ وأعني قراءتهم للعبارة ومعناها لا التاريخ وأحداثه.. فهم يقارنون الحداثة بالأصل.. أو بمعنى أدقّ يقارنون الحداثات بالأصول.. والمقارنة هنا خاطئة كلياً.
مثلاً، يقارنون أشرطة الكاسيت الصغيرة عندما ظهرت كيف ألغت الأسطوانات - ربما تناسوا أشرطة (الكاترج) التي لا يزال بعضنا يحتفظ بمكتبات ضخمة منها برغم أن أجهزة تشغيلها قد اختفت تماماً من الوجود! – ويقارنون (الأقراص المرنة) وكيف ألغت أشرطة الفيديو.. أقول: يقارنون إلغاء هذه الأجهزة لبعضها ويسقطونه على حتمية أن تلغي الكتابةُ الإلكترونية الكتابةَ الورقية. هكذا بكل برود يقيسون ويعملون على تكريس الأحكام الساخنة!
المسألة إذا تأملناها جيداً فسوف لا نجدها بهذا الشكل، وأستغرب عندما أقرأ إلحاحاً مزعجاً من أشخاص كان لهم التاريخ الطويل مع الصحف والكتب، وفجأة كأنّ عفريتاً أخافهم صاروا يصرخون بتلك العبارات النادبة والمتباكية على موت الصحف – التي أصبح اسمها ورقية – وموت الكتب – التي اكتشفنا فجأة أنها ورقية أيضاً! – فلا حول ولا قوة إلا بالله.
سأختصر رأيي وأبسّطه رغم بساطته، وأقول: إذا أردنا المقارنة العادلة أو المعقولة بين الكتابة باستخدام الورق والحبر والكتابة باستخدام الكيبورد والشاشة، فيجب أن تكون متطابقة بالمقارنة بين معرفة الوقت باستخدام ساعة الحائط وساعة اليد بمعرفة الوقت باستخدام الشاشة الإلكترونية نفسها التي يحسبونها ستقضي على الأوراق والأحبار من كتاباتنا في حين أنها لم تستطع القضاء على الساعة من حوائطنا وأيدينا!
وكيف إذا عرفنا أن الكتابة بالقلم الحبر على الورقة البيضاء الناعمة كان متزامناً مع معرفة الوقت بعقارب الساعة الميكانيكية الجميلة التي سنظل نتابع أحدث ماركاتها؟
أحسبني اختصرتها (أو جبتها من الآخر!) وتجاوزت عن مقارنات من مثل: الإذاعة والتلفزيون والسينما وغيرها من الشواهد الحاضرة، فقد رأيتها لا تصل لدرجة التطابق والاستقلالية في الاقتناء والاستخدام والعلاقة الحميمية التي تصلها الساعة ذات العقارب مع الناس، والتي تزدهر الآن بأفخم الماركات وأغلاها سعراً على الإطلاق، وتتمادى في النمو مواكبة للعصر.. وكذلك الصحف والكتب الورقية التي تصنع الآن أمجاداً نوعية غير مسبوقة في تاريخها العريق، وتتوسع في مطابعها ودور نشرها ودوائر مقروئيتها ونقاط توزيعها. والتفصيل في هذه وتلك يحتاج أطناناً من الورق وأزماناً من الساعات!
خلاصة الرأي: سيظل الإنسان في إحدى حالتين.. حالة إلكترونية متصلة بالفضاء الرقميّ، تستغرقه عملاً أو لعباً، وفيها ستكون ساعة الحائط وساعة اليد (كماليات) موجودة حول رأسه وحول معصمه، أينما تحرّك أو سكن. وكذلك الصحيفة الورقية والكتاب الورقيّ على طاولة مكتبه ومجلسه وأرفف مكتبته الخاصة التي قد تحتل حتى غرفة نومه(!). أمّا الحالة الأخرى، فهي أن يفتقد الإنسان أدوات الاتصال الإلكترونية، لأي سبب من الأسباب المحتملة المعتادة، وعندها ستكون ساعة الحائط وساعة اليد تماماً كالصحيفة الورقية والكتاب الورقيّ (أساسيّات) لا غنى عنها؛ إلى أجل لا نعلم مداه.
(مقاربة خاطفة): في العام 1780 جرى تسجيل أول براءة اختراع، في لندن، لساعة يد ذاتية الربط. وفي العام 1785 أصدرت حكومة (بريطانيا العظمى) أول صحيفة ورقية بالشكل الذي نعرفه اليوم، وقد كان ظهورها الأول في لندن أيضاً وكان اسمها (التايمز) وترجمة الاسم حرفياً (الأوقات)!
فهل أنا بحاجة لأبرر المقارنة والمقاربة أكثر؟!
يسألون: هل ستنتهي الكتابة الورقية؟ وقد أجبتُ بأكثر من طريقة ومثال هنا؛ فاطمئنوا أيها المتباهون بساعاتكم الثمينة المرصعة بالأحجار الكريمة، فهي باقية بقاء الصحف الرصينة التي يتباهى بقراءتها أو المشاركة بالكتابة فيها كلُّ مثقفٍ معاصرٍ متطوِّر.
والحال نفسها تنطبق على ساعات الحائط بمختلف أحجامها، وعلى الكتب بمختلف مجالاتها. فقد عرفنا أنها أشياء باقية عندما عرفنا كيف الأشياء الأخرى تزول.
- الرياض
ffnff69@hotmail.com