خلال الأسابيع الماضية عرضت إحدى الجمعيات الخيرية بجدة مجموعة كبيرة من الكتب المستعملة للبيع ربما وصل عددها عشرين ألف كتاب في كافة فروع المعرفة بعدة لغات، وبأسعار رخيصة قياساً بالسعر المعهود ليكون ريعها من مصادر الدعم لأعمال الجمعية ومشاريعها.
كتب فريدة و نادرة، وطبعات قديمة قلّ وجودها اليوم، وسلاسل معرفية كان الحصول عليها صعباً واقتناؤها مكلفاً، وأعمال مصوّرة تشير إلى مقتنٍ عاشق لها تفنن في اصطياد النوادر ورعايتها محملة بتوقيعاته، وبعض ملاحظاته، وحكاية رحلة بحث يختصرها اسم المدينة وتاريخ الاقتناء. ثم آلت إلى صالة رثة، وتكدست في كراتين الأدوات الاستهلاكية بجوار الأثاث المستعمل وعيون المشترين تقلبها ببعض الشفقة والحنو والخوف من زمن قادم مماثل.
في صالة العرض قال لي أحد المسؤولين: تصلنا الكتب والأدوات المنزلية والأثاث والتحف من بيوت شخصيات غادرت الحياة، أو أخرى لديها فائض، أو ضاقت لديها المساحات ونحن نبيعها بطريقتنا لتكون ضمن مصادرنا المالية. وهذه ليست حالة خاصة فمكتبات بيع المستعمل معروفة عالمياً وعربياً، وفي جدة على وجه الخصوص كان أشهر بائع لها في «سوق الصواريخ» الشهير، وهو موقع شعبي لا يمكن التنبؤ بما يصل إليه أو يباع فيه، وأجمل الحكايات معه تتمثل في شراء كتب عدة منعتها الجهات الرقابية فانتهت إلى هذا السوق الذي لا يعرف الرقباء إليه طريقاً، وهذه نعمة عظيمة رغم رداءة النسخ وتهالك بعضها، لكن العبرة بالمحتوى؛ وهي قناعة محمودة أحياناً!.
وكانت صحف محلية نشرت تقارير ظريفة عن سوق الملابس المستعملة التي يتخلص منها أبناء الراحلين فينتهي بها المطاف في سوق المستعمل محملة بالذكريات وبقايا رائحة الحياة وأتعابها، وحذرت من أمراض قد تنقلها. ومر زمن رافقت الكتب الملابس القديمة، ولن نقرأ تحذيرات منها، لكنها فكرة مؤسفة ومحزنة أيضاً فالمكتبات المنزلية جزء أثير من حياة أصحابها وفيها حكايات عشق خاص، وتحمل توقيعات لا تتكرر وبعضها مهدى من مؤلفيها، وهي بذلك وثائق تاريخية مهمة تزداد قيمتها مع الأيام، وقد تنتقل ملكيتها، ولكن مع قدر وافر من الكرامة وضمان الوصول إلى مقتن يحفل بها، وليس كما نرى حالياً من ابتذال ورخص ثمن.
الكتاب بمكوناته المادية جزء من محركات الاقتصاد، لكنه استناداً إلى محتواه يمتلك قيمة معنوية فرضت جملة من الأخلاقيات والأدبيات على الأشخاص والأسواق وحركة التداول و الاحتفاظ أو التخلص منه، واتفقت الثقافات على ثراء المكان الذي تعد المكتبة جزءاً منه وغيابها غلق للنوافذ ودفع للحياة.
برنارد شو يقال إنه زار معرضاً للكتاب المستعمل فوجد نسخة كان أهداها إلى أحد أصدقائه معروضة للبيع فاشتراها وأهداها إليه مرة ثانية يلقنه درساً في الاحتفاء، وأظن مؤلفين محليين لو زاروا مواقع الكتاب المستعمل سيشترون نصف المعروض ويعيدون إهداءه مرة أخرى!.
يواجه الكتاب في العالم العربي مصائر شتى وتتخطفه الظروف العصية، وينتهي به المطاف في معامل تدوير الورق أو سوق الكتاب» المهمل» كأرخص موجودات الدنيا مهما كان محتواه، فسعر طابع بريد عتيق، أو تحفة صغيرة، أو لوحة فنية، أو آلة كاتبة صدئة قد يساوي قيمة مئات الكتب التي أسداها الرواد للمعرفة.. وتلك من نوائب الدهر .
وقد نفْرط في التفاؤل فنتمنى من مكتبات القطاعات الأكاديمية والجهة المسؤولة عن المكتبات العامة في المملكة أن تعي رسالتها و تؤدي دورها في الحفاظ على مكتبات الأدباء الكبار والشخصيات الشهيرة المعروفة باقتناء الكتب فهي مصادر عالية القيمة، والتفريط فيها، كما نراه حالياً، مؤسف ولا يليق!.
محمد المنقري - جدة