هل تعلم أن كثيراً من الكتُّاب الذين خاطبوا العقول لم يحظوا - أثناء حياتهم - بكثرة قراء أو أتباع، ولم يحظوا بالشهرة بقدر عظمة أفكارهم، إما لأنهم كانوا يخاطبون عقولاً نائمة أو شبه مغيّبه أو مهجنة إعلامياً (حسب إعلام العصر الذي ينتمي إليه الكاتب). والبعض من هؤلاء لم تنتشر أفكارهم إلا بعد أن فارقوا الدنيا بسنين طويله قد تتجاوز الأربعة والخمسة قرون!.
كتب ابن خلدون المقدمة وكتب ميكافيللي كتاب الأمير كلاهما أبناء حقبة واحدة ولكن: «الصوادر صوادر والورود ورود»، على حد تأصيل عمنا عوض بن سليم رحمه الله.
كانت حقبة ميكافيللي حقبة حراك سياسي وفكري وبداية نهضة شاملة فحظي كل من الكاتب وكتابه بالانتشار وشيوع الصيت. وكانت أيام ابن خلدون أياماً كئيبة، يشاهد هذا المفكر العظيم أمته وهي تترجّل عن قيادة الأمم الفكرية والعلمية والعملية إلى آجل غير مسمى، كانت المقدمة أشبه بالتحذير، وإعطاء الدروس والعبرة والعظة، ولكن كان حاله فيها كالذي يجاوبه صداه في وادٍ سحيق:
ناديت أين أحبتي
فأجبت أين أحبتي
وبقيت مقدمة بن خلدون طيّ ( الهبلان) حتى بعثها الغربيون، وترجمها المستشرقون ووصلت إلى العرب في بداية ما يُسمى بعصر النهضة، وعاد ابن خلدون يملأ الدنيا ويشغل الحياة وأجزم أنه نسُي أو - بالأصح - فُقد تماماً لسته قرون كاملة.
وهناك سبينوزا الذي لم يحظ بوافر شهرة وكثرة انتشار أثناء حياته عندما مات ودُفن اجتمع القساوسة وألقوا عليه باللعنات ورددها وراءهم المدجنون والمهجنون ولم يكتف كبير القساوسة باللعن، بل إنه زاد على ذلك صارخاً: أبصقوا على هذا القبر حيث يرقد المُهرطق سبينوزا! ولكن بعد أكثر من 200 سنة وفي ذلك المكان عمُل تمثالٌ في أمستردام تخليداً لدور سبينوزا الفكري ومن ثم بصق التاريخ ومن ورائه المعرفة على ذلك القس وأمثاله .
في أيامنا هذه هناك أسماء تكتب وتأصل وتبدع ولكن لا أحد يعرفها لأن الإعلام مشغول بفستان أحلام، وبنطلون هيفاء، ومتابعة (نجوم الاستهبال) ودخول الفلاينة على آل فلان وكأنهم يتحدثون عن دخول الرسول وصحابته في فتح مكة. ولا ننسى تغطيات كأس العالم الذي يتحول فيه مرمانا إلى حقل تجارب لقياس مدى قوة الشباك!
هذه الأسماء العظيمة لم يخنقها إلا تافهو إلاعلام الذين يرون أن الحجر يحدث صوتاً والفقاعة تخرقها ذبابة، بالإضافة إلى بيروقراطيي الثقافة وويلٌ للثقافة حين ( تُبقرط)! ناهيك عن السواد الأعظم من الناس الذين أصبحوا يستقون ثقافتهم من البرودكاستات التي تقدم المعلومات بهذ الشكل:
هل تعلم أنه حين تقدم أينشتاين لنيل جائزة نوبل للسلام! كان نيوتن من أول المعانقين له قبل أن ينزل من المنصة.
ويقولون إنه حين عاد صلاح الدين من حرب الصليبيين التقى الإمام أبي حنيفة في الطريق فسأله صلاح الدين هل تم الانتهاء من بناء بغداد يا أبا حنيفة؟ فكان بشار بن برد يستمع لحوارهما فأنشد أبياتاً لأبي العلاء المعري يقول فيها:
إذا وتروا مدوا إلى واتريهم
أكفاً عن الأوتار منقبضاتِ!
فأعجب الأصمعي لهذه الأبيات فسأل بشاراً عن قائلها فقال صلاح الدين إن هذه الأبيات قالها أبو العلاء المعري يمتدحُ فيها الوليد بن عبدالملك ويتحدى الفرزدق وجرير اللذان كانا في أوج مهاجاتهما مع أبي تمام!
هذه ثقافة الواتس آب وانتظروا جيلاً لا يطيق الكتاب، وهذه هي الأجيال التي - حين تنام- لا يوقظها سبينوزا ولا يهزُ سباتها ابن خلدون!
نواف المالكي - بريزبن- أستراليا