قالَ لي:
- تهجّأْ على مَهَلٍ.. إنها كِلْمةٌ...
ليسَ يُخطِئُها القلبُيا ولدي..
ففتحتُ فمِي.. وتنفسّتُ..
ثم تهجّأتُها، دفعةً واحدةْ..وطني
وأجابَ الصّدى: (وطني.. وطني)
يوسف الصائغ
وحتى للشهادة في نجران حضور مختلف..وللشهداء قامات أطول قليلاً عن الآخرين.. والذين يستشهدون يخرجون من الأرض جبالا.. أو يغدون نخلاً والبقية من الأحياء تغدوا خناجر نجرانية وتغدو كلها الوطن.
نجران تختلف.. أطفالها يكبرون مرة واحدة محتزمين البارود والجنابي وترابها منذ الأخدود الأول لم ينطفئ.. وأي بلاد هذه التي ترابها الرماد!!.
نجران لم تكن غافلة وهي تتلقى الطعنة في الظهر..صدر نجران كله كان قد استدار باتجاه أعداء الوطن وكانت تدرك أن ظهرها محمياً بالوطن الأكبر وبأبناء الوطن وكانت نجران كلها تتسابق للشهادة فأهل نجران منذ البدء يحبون الحرب لعبتهم الأولى ومفردة واحدة لا يتهجاها الإنسان النجراني ولا يعرفها الخوف.
كانت نجران مشغولة بتشييع المحاربين وبأعراس الشهداء وبحفر قبورا للأعداء وعندما يتبقى لديها فائض من الوقت كانت تنخرط في الرقص الجنوبي.. الرقص الذي لا ينعقد دون «جنبية» أو سيف أو خنجر نجراني.. والمدن والقبائل التي تقيم على حافة الجغرافيا وقلق التأريخ مستنفرة على الدوام فليس هناك فاصل كبير بين الحياة والموت ولا مكان للغفلة.
وليس من حقي اليوم أن أقول من هي نجران.. ومن ذا الذي يجهل نجران التي لم تجلبها المصادفة ولم تنبت على هذه الأرض فقاعة طارئة.. نجران كانت وبقيت حيث تقاطعت عبرها ومنذ الأزل كل طرق القوافل الذاهبة نحو بصرى ومكة وهجر وعبرتها الأديان السماوية الثلاث وعمدت بالنار وأخذت نصيبها من الحكمة اليمانية وصدرت ما تبقى ضمن قوافل البخور واللبان والهندوان.. ووحده قس ابن ساعدة النجراني أول من قال أما بعد ثم قلده الآخرون..كما حاولت مدن وحواضر أن تقلد نجران وأن تستعير اسمها.. لكنها بقيت هي الأصل وسمحت لمن شاء أن يستعير الصور.
ولأن كانت نجران ذات يوم بعيدة على حافة النون فهي اليوم كل الوطن..والذين خانوا نجران اليوم..كانوا قد فعلوا ذلك أيضا في الأحساء والقطيف وسيهات والدمام والرياض وأبها وسيفعلون ذلك غدا في أماكن أخرى من الوطن..سيفعلون ما هو أشد وأنكى والأقزام يفعلون ذلك وذلك دينهم وديدنهم.
لكن الموجع ليسوا هم هؤلاء الصغار الموجع والمفجع هم نحن الذي نشاطرهم الخيانة دون أن ندرك وخذلنا نجران وما قبلها دون أن أنشعر أم هل يا ترى كنا نشعر؟ لقد خذل نجران وخذل الوطن كل الصامتين والشامتين والمنتقدين على استحياء ومن لم يجرم الطائفية وكل ومن لا يرى ان الوطن للكل وأن طوائفه سواسية وكل من يظن انه هو وحده يعرف الطريق إلى الله, خذل نجران المقيمون على الحياد ومحترفي التبريرات وباختصار الكل مشارك باغتيال وطن. أما أصحاب الفتاوى والتحريض والتبرير فهم مجرمون طلقاء. واليوم ما زال هناك متسع للتكفير عما سبق وما زال تسمية الأشياء بأسمائها ممكناً وما زال في الوطن مساحة للغفران.
عمرو العامري - جدة