ولما وصل إلى الرياض وجد غاية الإكرام، وزاره المشايخ في منزله الذي أُعد له، وتناقشوا في مسائل في العلم، لم يكن من بينها ما أتى من أجله، وكانت لقاءات في غاية الأهمية، اطلعوا فيها على أجزاء من تفسيره، وأعجبهم غاية الإعجاب، ولما كان يوم الخميس الذي يجتمع فيه الملك بالعلماء دُعي الشيخ رحمه الله، وحضر، ثم إن الملك توجه إليه، وأثنى عليه، وقال ما نسمع عنك إلا كل خير، وهؤلاء المشايخ إخوانك، لم يقولوا فيك إلا خيرًا، غير أن ما ذكرت من أمر يأجوج ومأجوج لعله يطوى، فلا فائدة من ذكره، ثم أعقبها بكلمة أظنها من المداعبة قال: أبناؤنا يسافرون للخارج، فيخافون إن سمعوا ما تقول! فقال: الشيخ سمعًا وطاعة، وهذا أمر سهل، ولا ينبني عليه حلال ولا حرام.
ثم استأذن للعودة، فقال الملك سنتوجه للقصيم بعد صلاة الجمعة غدًا، ولعلك تصحبنا فنكون سويًّا في البر، فكان ذلك، وقال الملك لا يتقدم أحد على سيارة الشيخ، فكانت خلف سيارة الملك في الطريق، فلما وصل إلى عنيزة استقبل بالفرحة والبشر، وكان من أول من دعاه إلى القهوة بمنزله ذلك الذي كتب فيه، فأجابه الشيخ مباشرة، وكأن شيئًا لم يكن، ولا زال يقول عن الذين كتبوا فيه: إنهم مجتهدون، لم يريدوا إلا خيرًا..
وظن الناس أن الشيخ سيكون له موقف من الشيخ عمر بن سليم، فلم يقل عنه إلا خيرًا، ولما توفي الشيخ عمر عام 1362 رحمه الله، خطب خطبة أثنى عليه فيها، وبين فضائله ومناقبه، وما أجرى الله على يديه من الخير... فكان لها الأثر الطيب عند طلاب الشيخ بن سليم ومريديه. رحم الله الجميع.
هذه الحادثة تستحق الوقوف عندها طويلاً، ففيها أمارات من علم الشيخ وسعة أفقه، وأمارات حسن خلقه، ومن السمع والطاعة لولاة الأمر، دون مراء أو مجادلة، وفيها أيضًا حكمة الملك عبد العزيز رحمه الله، وتقديره للعلماء، إلى غير ذلك من الأمور التي هي في غاية الأهمية.
لكن ثمة أمرًا أبعد من هذا كله، قلما تكلم عنه الباحثون، وهو أن وراء إذكاء هذه الوشاية، حتى وصلت إلى هذا القدر، ريبة من أمر الشيخ عبد الرحمن، حيث إنه لم يتتلمذ مباشرة على علماء الدعوة السلفية، وكان من مشايخه من لم يكونوا من المحسوبين على الدعوة، فكان موضع ريبة وتوجس.
ولكن نتائج هذه الحادثة بينت خطأ هذا الوهم، وكذب هذا التوجس، فكان حوار الشيخ مع المشايخ، وتفسيره الذي اطلعوا عليه، جلاءً لهذا الوهم، فكانت عقيدة الشيخ محل رضا الجميع، والذي لا يدركه هؤلاء المتوجسون أن الدعوة السلفية لم تعد في إطارها التلقيني الضيق، الذي يمكن فيه حصر أتباعها بالعد والإحصاء، واختبار تبعيتهم وتمحيصها، بل أصبحت منهجًا واضحةً معالمه، باستطاعة البعيد السير في لاحبه كما القريب.
هذا التوجس ظلَّ أمرًا ظنيًّا، يتداول في مجالس بعض طلبة العلم، ولم يكتب فيه، حسب علمي، حتى كتب الشيخ إسماعيل بن سعد بن عتيق كتابه (تاريخ من لا ينساه التاريخ) في ترجمة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله، فقد وشت بعض عباراته بهذا، فقد تعرض لمؤلفات الشيخ عبد الرحمن فقال: (ومن المعلوم أن الشيخ عبد الرحمن بن سعدي ارتوى من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقام بتأليف عدد من الكتب ليس فيها ردود على أحد بعينه، ولكنها في الإجمال كتب جيدة مفيدة، وإن لم تلق رواجًا رغم أنها توزع مجانًا، وكان الشيخ محمد بن إبراهيم يكن له الود والاحترام لنزاهته وعلمه وفضله وزهده... ويلاحظ أن الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله اعتمد على كتب الحديث والتفسير غير أنه قليل الاستشهاد بما ألفه أئمة الدعوة المصلحين في هذا القرن) (5).
وغير خافٍ أثر تلك الدعوى في هذا الكلام، وللشيخ عبد الرحمن عناية بكتب الدعوة السلفية، ومن أظهر ذلك تعليقه على كتاب التوحيد، فقد علّق عليه مرتين، مختصرة ومزيدة، وعنوانه: القول السديد في مقاصد التوحيد، إلا أن هذا الكتاب لم يقع بموقع حسن عند الشيخ إسماعيل بن عتيق، فقال: (وقد كتب كتيبًا صغيرًا سماه القول السديد في مقاصد التوحيد، وقد طبع طبعته الأولى مفردًا، ثم طبع طبعة ثانية ومعه متن كتاب التوحيد، ولم يشر المؤلف رحمه الله إلى أن هذا الكتاب تعليقًا (كذا) أو شرحًا (كذا) لكتاب التوحيد تأليف الشيخ محمد بن عبد الوهاب، اختار هذا العنوان: القول السديد... فهم البعض أنه يعني بهذا كتاب التوحيد المعروف أشبه ما يكون بتبيين التراجم رحمه الله وعفا عنه) (6).
والصحيح خلاف هذا، فبين يدي طبعته الثانية، وفي مقدمتها: (فقد سبق أن كتبنا تعليقًا لطيفًا في موضوعات كتاب التوحيد لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب قدّس الله روحه، فحصل فيه نفع ومعونة للمشتغلين، ومساعدة للمعلمين، لما فيه من التفصيلات النافعة مع الوضوح التام...) (7).
وتعرض الشيخ إسماعيل بن سعد بن عتيق، أيضًا في هذا الكتاب لحادثة يأجوج ومأجوج، ونقل عن الشيخ عبد الله بن حميد رحمه الله رواية غير ما ذكرت آنفًا، وفيها شيء من الغلظة، ثم ذكر أن ثمة رواية أخرى، لكنه أعرض عنها، وقال رواية الشيخ ابن حميد أوثق وأحكم وأدرى! (8).
رحم الله الجميع وعفا عنا وعنهم.
(4)
آثاره وطلابه
بلغت مؤلفات الشيخ 44 مؤلفًا، أشهرها تفسيره، الذي بلغ الآفاق، وكتبت حوله عدد من الدراسات والرسائل الجامعية.
كما درست جهود الشيخ ابن سعدي في الفقه، والعقيدة، وأُلف عددٌ من المؤلفات في ترجمته.
وتتسم مؤلفاته، كما لا يخفى عن الناظر فيها، بجودة الأسلوب وسلاسته، ومناسبته للمبتدئ والمتضلع.
ويبدو أن الشيخ رحمه الله كان حريصًا على نشر كتبه في حياته، إلا أن ثمة موانع تمنع من ذلك، وبخاصة في ذلك الوقت الذي لا تتيسر فيه الطباعة على كل حال.
ومن حرصه على ذلك ما حدثني به شيخنا د. عبد الرحمن العثيمين رحمه الله أن الشيخ عبد الرحمن أرسل أحد كتبه إلى أحد أعيان أسرة البسام في الشام، ليطبع ذلك الكتاب هناك، فأخذه البسام إلى المطبعة، فاشترطت المطبعة أن يراجعوه، وقالوا: لا يمكن أن نطبع كتابًا حتى نراجعه، وبعد أيام راجعهم فدفعوا إليه الكتاب وعليه تصويبات كثيرة جدًّا، وقالوا: لن نطبعه إلا إذا أمضيتم هذه التصويبات، فتوقف البسام، وقال لا بد من مراجعة المؤلف، ثم أرسله إلى الشيخ عبد الرحمن، تفاجأ بعد مدة أن الشيخ عبد الرحمن أرسل له الكتاب موافقًا على طبعه بتصويباته، فاستغرب البسام من ذلك المصحح الذي يصوّب للشيخ عبد الرحمن، فطلب من المطبعة مقابلة المصحح، فقالوا: هو لا يداوم في المطبعة، وإنما هو مصلح ساعات في السوق، فذهب لمقابلته، وإذا هو الشيخ محمد ناصر الدين الألباني. رحم الله الجميع.
وأما طلابه فقد نفع الله بهم نفعًا عظيمًا، وظهر منهم المبرزون الذين لا يقلون عنه صيتًا علميًّا وأثرًا وتأثيرًا.
ولا بد من الإشارة إلى طريقته في التعليم، التي خالفت المنهج السائد في نجد، وقد أخذها عن مشايخه في عنيزة، وهي طريقة تحليل المتن المقروء، شرحًا، وتعليقًا، واعتراضًا، أما الطريقة السائدة فهي ما تُعرف بـ(سم بركة)، التي يقرأ فيها التلميذ كتابًا على شيخه قراءة فحسب، وربما علّق الشيخ تعليقات يسيرة على ما يشكل أثناء القراءة.
ومن طريقة الشيخ ابن سعدي في التعليم إجراء المناظرات، والجوائز، والاختبارات التحريرية، حدثني جدي الوالد زامل الصالح السليم أنه كان يختبر طلبته اختبارًا تحريريًا، فيكتب أسئلة في ورقة ويدفعها لهم ليجيبوا، يخص به كبار طلبته، وذكر منهم أربعة (9).. وهذا كان في زمن متقدم، وأرجح أنه في وقت شيخه صالح القاضي، فقد خرج الجد من عنيزة عام 1341هـ، فالمرجح أن هذا قبل هذا التاريخ.
وأما طلابه فكثير، ومنهم من جاء من خارج عنيزة ليطلب العلم على يديه، ومن هؤلاء (10):
1 - الشيخ عبد الرحمن بن محمد المقوشي، عُيّن قاضيًا في الرياض.
2 - الشيخ عبد الله بن عبد العزيز الخضيري، تولى القضاء، وطلب الإعفاء فعُيّن معلمًا في المعهد العلمي في شقراء وبريدة والمدينة. ت 1393.
3 - الشيخ محمد بن صالح الخزيم، تولى القضاء في الرس وعنيزة. ت 1394هـ.
4 - الشيخ محمد بن ناصر الحناكي، تولى القضاء في الرس والشبيكية والقويعية.
أما طلابه من عنيزة فيكفي أن نقف عند ثلاثة منهم:
أولهم: شيخنا محمد بن صالح بن عثيمين، (1347-1421) وحياته وآثاره العلمية واضحة المعالم، معروفة لأهل هذا العصر، فالعهد به قريب، رحمه الله رحمة واسعة.
والثاني: هو الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام (1345-1423)، وجهود الشيخ رحمه الله مشهودة، منها دروسه في الحرم، ومؤلفاته التي تميزت بالضبط والدقة، ومنها ما ألّفه من مناهج تعليمية للمعاهد العلمية.
وأشهر مصنفاته كتابه: علماء نجد خلال ستة قرون، وخلال ثمانية قرون، الذي أظهر فيه مقدرة بارعة في الجمع والبحث والدقة والصياغة الحسنة.
الثالث: هو الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل (1335-1432).
كان من أكبر تلاميذ الشيخ ابن سعدي، وأطولهم عمرًا، تميز رحمه الله بتبوئه مناصب شرعية كبرى، كقضاء فرسان، والخرج، وعنيزة والرياض، تولى قضاء عنيزة في وقت شيخه ابن سعدي، وكان بينه وبينه مراسلات وقت قضائه في جازان، جمعها في كتاب: الأجوبة النافعة عن المسائل الواقعة»، (11)، وقد احتوت مسائل مهمة، ووثقت أحداثًا في تلك الفترة.
رحم الله الجميع.
(1) رسالتان في فتنة الدجال ويأجوج ومأجوج. للشيخ ابن سعدي. تحقيق: د. أحمد القاضي. (مقدمة المحقق).
(2) الشيخ عبد الرحمن بن سعدي والتعليم الشرعي الأهلي. د. عبد الله العثيمين. 23.
(3) علماء نجد 4/482.
(4) فتح الجليل 97.
(5) تاريخ من لا ينساه التاريخ 115.
(6) السابق 116.
(7) القول السديد 31.
(8) تاريخ من لا ينساه التاريخ 114.
(9) عدهم علي، لكني لم أحفظ غير عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد البسام رحمه الله المتوفى عام 1407هـ.
(10) فقه الشيخ ابن سعدي د. عبد الله الطيار. د. سليمان أبا الخيل 1/57 وما بعدها.
(11) عني بها وعلق عليها هيثم بن جواد الحداد بإشراف ومراجعة الشيخ عبد الله بن عقيل، نشر دار ابن الجوزي في الرياض.
د. فريد بن عبد العزيز الزامل السليم - عنيزة