العنف ضد المرأة..
عنوانٌ عريضٌ لممارسات لا حدّ لها تعاني منها المرأة في جميع المجتمعات تقريباً..
والفرق بين هذا المجتمع وذاك يكمن في اعترافه المعلن بهذه المشكلة (لا أقول الظاهرة)، وسعيه الجاد إلى التصدي لها بخطوات جريئة وملموسة.
ورغم اتساع دائرة هذه المشكلة في مجتمعاتنا العربية (والخليجية بوجهٍ خاص) فإننا مازلنا نجد ممانعة من بعض الفئات ضد وضع قانون لمكافحة التحرش، يكمل ويساند «نظام الحماية من الإيذاء» الذي صدر قبل سنوات، ويدفع عن المرأة الأذى الجسدي والنفسي الذي تتعرض له بسبب التحرش بصوره المختلفة.
لا يجهل الممانعون أنّ أكثر من 70 % من النساء (بحسب عينة الدراسة التي أعدتها الباحثة منيرة السبيعي) تعرضن لعنف لفظي من الزوج، يتجاوز الشتائم المعهودة أو المستهلكة إلى ما هو أكبر وأخطر!
ولا يجهلون أنّ جميع الدراسات تتحدث عن نسب مرتفعة أو مخيفة للعنف الذي تتعرض له المرأة في السعودية – على سبيل المثال -، فتشير إحدى هذه الدراسات إلى تعرّض ربع الحوامل للعنف الجسدي، وتشير أخرى إلى تقبل أكثر من 50% من الرجال لممارسة العنف ضدّ المرأة. وإذا كانت المرأة تتعرض لما سبق داخل المنزل أو في دائرة الأسرة، فمن الطبيعي أن يكون ما تتعرّض له خارج هذا الإطار أكبر وأخطر، وقد أكدت 92% من السعوديات – بحسب إحدى الدراسات - أنّ التحرش الجنسي بالمرأة في محيط الأسرة، وأماكن العمل، والميادين العامة في تصاعد مستمر!
إنّ النسب والأرقام في هذا السياق (وإن كانت مرتبطة بعينة محدودة) تؤشر على خطورة هذه المشكلة، وعلى أنّ المرأة التي نصفها في خطاباتنا المختلفة بـ (الملِكة) ليست إلا ضحية لظلم الرجل، واستكبار العادات والأعراف والتقاليد، أو أنها – في أحسن الأحوال – داخلة في إمكانية التعرّض للظلم في أي وقت، ومن أي طرف من الأطراف.
ويؤكد هذه الخطورة اهتمام الروايات النسائية الخليجية – في السنوات الأخيرة - بتمثيل الاعتداء اللفظي والجسدي الذي يمارسه الرجل ضد المرأة تحت مظلة القوامة كالضرب والحبس، أو مصادرة حريتها وحقوقها تحت مظلة الوصاية الاجتماعية كالمنع من التعليم أو الزواج أو العمل.
وتجاوزت الروايات في هذا السياق تمثيل هذا العنف المعتاد أو المرئي إلى العنف غير المرئي كالسحر، أو العنف الممنهج الذي تمارسه المؤسسة، أو مؤسسة العمل، بما في ذلك العنف الذي يمارسه المثقف (المزيّف)!
وفي هذا السياق مثلت مجموعة كبيرة من الروايات حالات التحرش التي تتعرض لها المرأة، وحالات الاغتصاب، وما يترتب عليها من آثار جسدية ونفسية مدمّرة.
ويعدّ العنف اللفظي تجاه المرأة وجهاً من أهمّ وجوه العنف المعيش في روايتها، كما في العنف اللفظي الذي يمارسه الزوج ضد زوجته، والأب والأم ضد ابنتهما، والأخ ضد أخته، ووالد الزوج ضد زوجة الابن، والرجل الغريب ضد المرأة في الميادين العامة.
وتشير متابعة هذه التمثيلات المتنوعة في الروايات إلى أنّ المرأة تمثّل دور المفعول به في هذا المعيش المسكون بالعنف، فهي تتعرض للعنف في جميع مراحلها (طفلة، مراهقة، امرأة، عجوز)، وفي جميع حالاتها تقريباً (ابنة، حبيبة، زوجة، زوجة ابن، مطلّقة، أمّ، زميلة)، ومن جميع الأطراف أيضاً (أب، أخ، زوج، أم، حبيب، رجل المؤسسة)، وفي جميع مواقفها (مطيعة أو مخالفة، مصيبة أو مخطئة، بريئة أو مدانة، قاصدة أو مضطرة)، في حين يبدو العنف اللفظي الذي تمارسه المرأة ضدّ الرجل في هذه الروايات بمثابة ردّ فعل على اعتداء جسدي أو معنوي (وهو الغالب)، أو نتيجة اضطراب نفسي.
وتشير التمثيلات السابقة أيضاً إلى أنّ العنف اللفظي الذي تتعرض له المرأة متنوّع، يمسّ عدداً من أبعادها المهمّة المكوّنة لهويّتها (كالجسد مثلاً)، لكنّه في الغالب يستهدف جانبها الأخلاقي من خلال نفي الشرف عنها، كما في وصفها بالمومس والعار والفضيحة والفسق والفجور والانحراف والانحلال والفساد.
إنّ العنف في الصور السابقة (بما فيها صورة التحرّش) يتجاوز التدخل في حياة المرأة، ومحاولة حرمانها من حرية التفكير والرأي وتقرير المصير (وهو معنى من معاني العنف) إلى استعمال القوة ضدها بالشكل الذي يفضي بها إلى أذى مادي أو معنوي خطير.
وإذن فكتابة المرأة تلتقي مع الدراسات التي أشرتُ إلى بعضها في التعبير عن اتساع دائرة العنف الذي يستهدف المرأة الخليجية، وكيف أنه يؤدي بها – في بعض الحالات – إلى فقدان الحياة، أو إلى إعاقة جسدية مستمرة، كما يؤدي – في بعضها الآخر – إلى أزمة نفسية، يترتب عليها هرب المرأة من محيطها الأسري، أو وقوعها في الجريمة، أو إقدامها على الانتحـار.
من هنا تحرّفت فئة واعية بأبعاد هذه المشكلة إلى المطالبة بوضع قانون خاص لمكافحة العنف الذي يستهدف المرأة بوجهٍ عام، ومكافحة التحرش بوجهٍ خاص، وتفعيل العقوبات في هذا الباب، والبحث عن صيغ تضمن أن تكون هذه العقوبات رادعة (كالتشهير مثلاً).
لكن هذه المطالبات اصطدمت بممانعة معتادة، يخاف أصحابها من المرأة أكثر مما يخافون عليها، ويقلقهم أن تمتلك المرأة حريتها، أو أن تعيش في ظلّ تكييف قانوني يمنحها القدرة على دفع ما يقع عليها من عدوان مادي أو معنوي.
وقد عجبتُ من أحد الباحثين الشرعيين (كما يصف نفسه) حين سوّغ رفضه لفكرة قانون مكافحة التحرّش بأن لدينا محاكم تحكم بشرع الله، وأن شرع الله يغني عن وضع قانون خاص لهذه المشكلة، وازددتُ عجباً حين اطلعتُ على مقالات لبعض الأكاديميات يرفضن فيها هذا القانون لأنه يمهّد للاختلاط، أو لأنه قانون مستورد من ثقافة مخالفة للثقافة العربية والإسلامية، أو لأنه يستند إلى النظرية النسوية، التي تتغيا منح المرأة الحرية الكاملة على نفسها، أو لأنه يسعى من خلال إدانة التحرّش إلى إباحة الزنا بالتراضي!!
وكل ما سبق يؤكد (لي على الأقلّ) أنّ الممانعة هنا مرتبطة برؤية منغلقة متوجّسة من المرأة أولاً، ومن الفئة التي تطالب بهذا القانون ثانياً، وهي ممانعة عتيقة، لكنها تجدّد نفسها على عتبات كل مشروع يخدم المرأة؛ لذلك التمس كثيرٌ من أصحابها الحلولَ البعيدة، فحمّلوا المرأة تبعات التحرّش التي تتعرض له، وطالبوا بمنع التبرج والسفور في الأسواق، وإغلاق القنوات الفضائية (المسفّة)، والفصل التام بين الرجل والمرأة، ومضاعفة أعداد رجال الهيئة، ومحاسبة الكتاب والإعلاميين الذي يصادمون الثوابت.. كلّ ذلك في نظرهم أسهل وأسرع وأنفع من وضع قانون يخالف تعاليم الدين (أو الدين كما يرونه)!!
إشارة:
• حين صدر الأمر الملكي بتعليم المرأة السعودية، وفتحت المدارس، خطب أحدهم قائلاً : «هي مدارس ظاهرها الرحمة، وباطنها البلاء والفتنة، ونهايتها السفور والفجور، فإن لم تدركوا الحصول على إغلاقها فلا تقبلوا فتحها في بلاد لم تفتح فيها، فإن تساهلتم حل بكم ما حل بغيركم، وستندمون وقت لا ينفع الندم»! (نقلاً عن: عبدالله الوشمي: فتنة القول بتعليم البنات، ص44).
• حراسة العنف امتداد لحراسة الجهل!
خالد الرفاعي - جدة