أتصفح العدد الأول من مجلة التخطيط والسياسية اللغوية الذي أصدره مركز الملك عبدالله لخدمة اللغة العربية، ونفسي يملؤها الإعجاب بهذه الجهود النوعية الراقية التي تتوالى من المركز، وقد أصدر هذا العدد وحدة التخطيط اللغوي في المركز، كما أقامت الوحدة الندوة الدولية الأولى في التخطيط والسياسية اللغوية تجارب من الدول العربية في يوم الاثنين 13-1-1437هـ، الموافق 26-10-2015م، وقد تشرفت بحضور هذه الندوة ووعدت بأن أكتب أبرز ما لفت نظري فيها:
فمن حيث التنظيم يتميز المركز بالاحترافية الشديدة في التنظيم واستغلال الوقت بصورة كاملة في إقامة جلسات الندوة، فما تحضر من المطار حتى تبدأ الجلسات في اليوم التالي منذ الصباح الباكر إلى ما بعد العشاء، ويتخلل ذلك وقت راحة قليل (المهم أن ما يجري هو خلية نحل وعمل دؤوب ولهاث معرفي لا يتوقف)، ليس هذا فحسب بل إن اختيار الموضوعات والمدعوين ليدل أيضا على احترافية أخرى تزيد ندوات المركز تألقا يلي ذلك طباعة الأعمال التي تتم بسرعة وفي وقت قياسي...
وقد جمعت علماء لغة مهمين من أنحاء العالم العربي ومن المملكة العربية السعودية، وقد عرضت في الندوة الحال السيئة للغة العربية، وما يعترض سبيلها من ازدواج لغوي، وتعليم بغير لغتها، ومدارس أجنبية بدأت تنتشر كانتشار النار في الهشيم، وثنائية لغوية في أنحاء، وتعدد لغوي في أنحاء أخرى، وتراجع بل تدهور في حالها ولا يبقيها إلا القرآن، أي أنها ستنزوي لتكون لغة دينية إن لم يحسن التخطيط اللغوي لها..
وإذا كانت السياسية اللغوية تعني ما يوضع من قوانين ومن تعليمات ومن أنظمة حول اللغة فإن التخطيط اللغوي هو كل تلك الجهود التي تقوم على تنفيذ تلك السياسية سواء تولاها أفراد أو مؤسسات أو دول، وأكثر الدول فيها سياسية لغوية مضمرة أو تخطيط لغوي مضمر، ولكن الإضمار هنا هو أقرب إلى الإهمال منه إلى الإعمال، هي مجرد نصوص دستورية لا تمثيل لها في الواقع أو يبقى التمثيل لها ضعيفا جداً، لذا من الواجب أن تكون ثمة سياسية وتخطيط لغويين معلنين وتتولاهما مؤسسة تشرف على تنفيذه ومتابعته خصوصا في وضع الصراع اللغوي العالمي الذي يتحول إلى صراع هويات.. وصراع وجود.
أما أبرز ما سجلته ذاكرتي عن هذه الندوة فهي في النقاط الآتية، وهي إن كانت مبعثرة إلا أنه يجمعها هم واحد:
- التقيت بالعالم المصري الكبير محمود فهمي حجازي وجاذبته الحديث حول تدريس كتبه في الجامعات وأخبرته أنني أدرس كتبه، كما عرضت عليه اقتراحا بأن يؤسس في جامعة الدول العربية وحدة للسياسية اللغوية فأيدني على المقترح وطلب أن يكون ذلك من بين التوصيات، وقال لعل الجامعة تنجح في مجال العلم والثقافة.. كنت أتمنى أن تجمعني به صورة للذكرى إلا أن الوقت لم يتح لي ذلك. في ورقته أبرز ما لفت نظري هو تقليله من الخطر الذي يستشعره أو يضخمه البعض حول العامية وتفاؤله الشديد بمستقبل العربية، وتفريقه بين لغة الإذاعة والتلفاز، حيث أكد على رقي الأولى وانحطاط الأخرى..
- كانت المحاضرة الأولى للعالم العراقي علي القاسمي، وقد عرض أهمية المفهوم الجديد للتنمية البشرية وليس التنمية الاقتصادية وعلاقة ذلك بالتخطيط اللغوي، ومن أهم القضايا التي ركز عليها قضية الديمقراطية التي لا يمكن نجاح أي مشروع من غيرها بما في ذلك التخطيط اللغوي.
عرض القاسمي لتجربة كوريا التي لا تسمح للكوريين بالدراسة في المدارس الأجنبية لأنها للأجانب فقط، وكيف أن اللغة الكورية هي لغة الشارع ولغة التعليم كما عرض للفارسية وكيف تدرس بها العلوم كافة وأن ذلك سبب من أسباب فهم العلم ثم القدرة على الإنتاج.
- في السودان الواقع اللغوي لا يقل مشكلات عن غيره كما عرضه د. أشرف عبدالحي.
- فؤاد بوعلي هو الوحيد الذي شعرت معه أن ثمة سياسة لغوية وتخطيطا لغويا في المغرب في حالة حياة وتحفز، رغم ما ذكره عبدالقادر الفاسي الفهري في أن الأمازيغية في تقدم والعربية في تراجع في المغرب، وقد أجاد عرض موضوعه والأبعاد حول التخطيط اللغوي في المغرب والمؤسسات المعنية بذلك.
- محمد رباح من الجزائر التي تعد ثاني دولة فرنكفونية حلل الوضع اللغوي في الجزائر في ظل الثنائية اللغوية والتعدد اللغوي، الذي شدنا أكثر كلسان حال يغني عن كثير مقال أن ورقته التي يلقيها هي الأولى التي يلقيها بالعربية بعد أكثر من خمس وعشرين سنة، ولكنه كان متميزا في ورقته وفي لغته.
- على الرغم من أن التخطيط اللغوي كان في الرياض وبعيدا عن المشكل الأمازيغي إلا أن حيزا من المناقشات أخذته المسألة الأمازيغية، والعجيب أن كبار العلماء ذوي الأصول الأمازيغية هم من يتولى الدفاع عن اللغة العربية ومنهم الذين حضرا الندوة د. فؤاد بوعلي ود. مجمد رباح.
- عرض محمد داود للوضع اللغوي في تونس، وللسياسات التي وضعت للغة العربية، وأوضح بمرارة الفجوة الهائلة بين صاحب القرار وبين خبراء السياسيات اللغوية..
- في التخطيط اللغوي في سوريا اعتذر د. حسان الطيان، وألقيت الورقة نيابة عنه، وقد أوضحت الورقة نجاحاً ملفتاً للتخطيط اللغوي في سوريا، إن كانت رياح ذلك لم تسلم من نقد التدخل السلطوي وتقلبه في تعلم اللغة الثانية..
- أحسن د. حسن حمزة في رسم صورة مؤلمة للسياسة اللغوية في لبنان، وأوضح التراجع الكبير للغة العربية في هذا البلد الذي كان من أول الباعثين للتراث العربي، وأوضح كيف أن ضغط الأهالي في بعض المدارس أدى إلى جعل اللغة العربية تقبع في الهامش مقابل الإنجليزية التي تحول الاتجاه إلى تعلمها أكثر من الفرنسية.
- ونصل إلى أبرز المهتمين بالتخطيط اللغوي في المملكة السعودية د. محمود المحمود الذي أوضح السياسة اللغوية المضمرة وجوانب من التخطيط اللغوي في المملكة، ومن المضحكات المبكيات أنه في بحثه أوضح تقدم متكلم اللغة الإنجليزية في المكانة، كما أوضح أن مصطلح فصيحة يطلق على اللغة الإنجليزية وليس اللغة الفصحى ولا العامية..
- وفي النهاية حلقة النقاش حول اعتماد مقرر للسياسة اللغوية والتخطيط اللغوي اشترك فيها كل الحاضرين، واتضح أن المقرر الوحيد هو في معهد تعليم اللغة العربية التابع لجامعة الملك سعود وهذا تقدم علمي يستحق الإشادة، وفي هذه الجلسة، طرحت وضع ماجستير خاص بالتخطيط اللغوي والسياسية اللغوية وبرنامج دكتوراه كذلك، وأشرت إلى علاقة تحليل الخطاب بالسياسة اللغوية، ثم أحسست بألم وارتفاع في حرارتي وتركت القاعة تحت تأثير ذلك..
وما يجب قوله إن اللغة إضافة إلى كونها ممارسة اجتماعية كأي ممارسة أخرى عرضة للتغيير، ولكنها تحمل الهوية والثقافة، لذا يجب الاهتمام بإيجاد هيئات خاصة بالسياسية اللغوية والتخطيط اللغوي في كل بلد، وخصوصا في منبع العربية، كما يجب البدء باعتماد خطة مرحلية لتعريب التعليم في التخصصات جميعها، ولكن على مستوى تنسيقي مع العالم العربي الذي مادام مفتقدا للديمقراطية فسيظل مفتقدا لأي تنسيق محتمل في السياسية اللغة والتخطيط اللغوي..
اللغة هوية.. اللغة مجتمع.. اللغة اقتصاد.. اللغة مسألة حياة أو موت وهذا إنذار يكفي لمن لا يشعر بخطر السياسة اللغوية والتخطيط اللغوي...، قبل سنوات ذكرت أن تعليم اللغة العربية الفصيحة يتم في مراحل التعليم الأولى كأنها لغة ثانية، بل كأنها لغة ميتة؛ فهي تعلم فولولجيا أكثر من تعليمها كلغة حياة وهذا طامة من الطوام التي ننتظر تخطيطا لغوياً سليماً يشترك فيه لسانيون ونقاد وتربويون لتجاوزها.
د. جمعان بن عبدالكريم - الباحة