ختمتُ الجزء الأول السابق من هذه المقالة بسؤال نصه: هل يعني كل ما أوردتُه أن نستسلم لهذه الرؤى والتصورات أو لهذا الشعور شبه المتفق عليه عند كثير من الحكماء والفلاسفة ورجال الأديان، وهو أن حياة الإنسان حياة شقاء وعناء وقسوات ومعانيات في غالبها، فنعيش في الهم والغم والكآبة، مرددين ما قاله كثير من الأدباء والحكماء حول بؤس الإنسان وتعاسته وتعبه ونصبه؟
والإجابة عندي بالبنط العريض هي بالطبع (لا) فتسليم الإنسان بأن الحياة تعب وكبد، لا يقتضي بالضرورة أن يستسلم للتبعات السلبية التي تترتب أحيانًا على هذا التسليم، فيعيش حزينًا مكتئباَ قلقاَ مهموماَ.. بل عليه في نظري أن يبذل كلَّ ما بوسعه للاستمتاع بكل لحظة في حياته، وأن يجتهد في اختيار وتطبيق وتجريب كلِّ السبل والوسائل التي يراها مرشحة لتحقيق شيء من السعادة في هذه الحياة من جهة، وللتأقلم والتكيف مع متاعبها وصعوباتها من ناحية ثانية.
والناس يختلفون في ذلك، أي في القناعات حول السبل والطرق المؤدية للسعادة، التي يتفق الجميع على أنها الغاية الكبرى لكل إنسان، فالجميع في كل أعمالهم وأقوالهم وسلوكياتهم المختلفة الظاهرة والباطنة، لا يقومون بشيء أكثر من البحث عن السعادة والهروب من رؤية حقيقة الحياة وزواياها الكثيرة المخيفة المظلمة.
إنني أرى أن الإنسان كائن مسكين مضطرب تائه موجوع متخبط حائر منذ الأزل، ولكن التطور الهائل للتقنية ووسائل الاتصال والإعلام اليوم، أظهر لنا هذه الحقيقة بكل وضوح. وأرى أننا كبشر لا نعرف الكثير عن غالب الأشياء.. إننا لم ننجح طيلة تاريخنا الطويل في الوصول إلى حقائق مؤكدة عن كثير من الأمور؛ ولذلك نتحدث ونكتب في كلِّ شيء، وندّعي معرفة كلِّ شيء، ولن نتوقف أبدًا عن هذه الادعاءات؛ لأن الذين يعرفون أنهم لا يعرفون قلّة، وحتى هؤلاء لن يتوقفوا؛ لأنهم أحياء، والحياة النابضة فيهم تدفعهم للاستمرار في كل ما هم فيه.
نعم؛ إني أرى أن كلَّ أقوالنا وأفعالنا في هذه الحياة، ليست أكثر من محاولات متكررة للهروب من رؤيتها كما هي؛ ولكني مقتنع جدًا أنها محاولات مهمة، بل إنها ضرورة للعيش والبقاء، وتنجح في تحقيق قدر من السعادة والاستمتاع والتكيف عند الكثيرين، ومن هنا جاءت فكرة هذا الموضوع، فقد شعرتُ -بكل صراحة- بعد خروجي من السجن بشيء من الإحباط والتعب، وهذا ما أضاف لتأملاتي السابقة شيئاً جديدًا أكملَ الصورة المرسومة في ذهني سابقًا، فقررتُ البحثَ عن الأسلوب الشامل الكبير، الأنسب والأقرب لتحقيق شيء من الراحة والسعادة في هذه الحياة القصيرة المليئة بالمشقات.
فخلصتُ بعد طول بحث وتأمل وتجربة، إلى نتيجة واسعة، ربما أستطيع تلخيصها بربط كلمة (هدوء) مع كلمة (ضحك)، فبربط الكلمتين وتأمل مدلولات الربط وإسقاطها تطبيقياً على واقع حياة الواحد منا، أعتقد أننا سنستطيع تحقيق قدر من الراحة النفسية وشيئا من السعادات المؤقتة المتفرقة، أي الموزعة في أيام حياتنا، توزيعًا يشتت ويخفف من حدّة وشدة الكروب والمآسي التي لا بد أن يتجرَّع كلُّ إنسان شيئاً من مراراتها في أوقات معينة من عمره، تطول أو تقصر وتقل أو تكثر باختلاف ظروف ومعطيات وتفاصيل حياة كلِّ فردٍ منّا.
وخلاصة الفكرة أن يعيش الإنسان هادئاً في كلِّ أقواله وأفعاله قدر استطاعته، وضاحكًا في الوقت نفسه قدر استطاعته أيضًا من كل ما يراه ويسمعه ويعايشه ويحس به من عجائب الحياة، مهما بلغتْ من القسوة عليه أو إزعاجه أو حتى تعذيبه وإرهاقه جسديًا أو معنويًا.
الهدوء يرتبط بالاستمتاع أيضًا، ومنظومة الهدوء الشاملة التي أسعى لتحقيقها، تختلُّ إذا استمرَّ اختلالُ أيِّ جانبٍ من جوانبها العديدة، فمن الهدوء المطلوب لزيادة الاستمتاع وتحقيق الاستقرار، العمل والتدرب على الهدوء في نبرة الصوت عند الكلام مثلا دائمًا وأبدًا، والاجتهاد في استمرار الابتسامة الهادئة في غالب اليوم قدر الإمكان في كل المواقف والظروف، ومحاولة الهدوء بعد تلقّي الصدمات باختلافها أيضًا مهما اشتدّتْ.
ومن ذلك أيضًا الهدوء في التواصل مع الناس، فمن الخطأ الكبير في نظري الاندفاع والمبالغة في التواصل الاجتماعي، وإقامة العلاقات دون ضوابط، مع أني أميلُ شخصيًا -وقد لا يناسب هذا الجميع- إلى عدم الاحتكاك المباشر بالناس إطلاقًا، إلا وفق آلية معينة خاصة بي، تظهر من خلال فكرة (المشخلة الاجتماعية)، التي يعرفها عنّي رفاقي المقرّبون منّي.
قال ابن منظور في لسانه: «شَخَلَ الشَّرابَ يَشْخَلُه شَخْلاً: صَفَّاه، وشَخَله يَشْخَله: بَزَلَه بالمِشْخَلة. والشَّخْل التَّصْفية. والمِشْخَلة المِصْفاةُ». وخلاصة فكرتي في ضرورة الهدوء الاجتماعي والمبالغة في شخل الناس، هي أن الإنسان المحب للهدوء، خاصة إذا كان مهتمًا بالتأمل الفلسفي، يكفيه أن يكون له رفاقٌ أو جلساء بعددٍ محدود، يختارهم بعناية، وفق مشخلته الخاصة، التي تعمل -وفق قناعاته- على التصفية المركّزة الدقيقة للناس قبل اختيار من يناسب منهم لإقامة علاقة معينة معه.. فمن أسباب التشتت والانزعاج فتحُ الأبوابِ للعلاقات والصداقات بلا حدود، خاصة في هذا الزمن، لاعتبارات أعتقد أن الكثيرين يتفقون معي فيها ويطول شرحها.
«....»
ومنه هدوء التفكير عامة، وخاصة التفكير في المواضيع التي يترتب على نتيجة التفكير فيها اتخاذ قرارات مهمة، فالفكرة السليمة الصحيحة تكون عادة نتيجة لعملية تفكير متمهلة عميقة، أخذ العقل المتأني كفايته من الوقت عند القيام بها، والعكس صحيح أيضًا غالبًا.
وكذلك الهدوء في حركة العينين، عند الرمش من جهة، وعند نقل البصر من مكان إلى آخر من ناحية ثانية.. ومن الهدوء أيضًا الهدوء في التنفس، وهذا مهم جدًا، بنفس الطريقة المعروفة في تمارين الاسترخاء، وهي الشهيق والزفير ببطء وعمق شديدين.
ومنه الهدوء في التنقل والحركة بشكل عام، خاصة حركات اليدين والرجلين، فالمشي يحسن -في نظري- أن يكون هادئا جداً في غير أوقات الرياضة، وكذلك العمل اليدوي أيضًا مهما كان شكله ونوعه، ويدخل فيه الهدوء في تناول الطعام، بتقسيم الوجبات وتنظيمها والميل إلى التخفيف، وعدم الاستعجال في التهام الوجبة، بل تقسيمها إلى لقيمات صغيرة، يكون بين كل لقمة وأخرى منها وقتاً مناسبًا كافيًا للمضغ والبلع والتلذذ بالمذاقات.
لا تستغربوا من هذا التفصيل، فلا بد عندي أن تتسع دائرة (هدوءات الإنسان) وتترابط، لتشمل كلّ شيء، فيصلُ الإنسان بالمراسِ والتدريبِ إلى الجوّ الهادئ العام، فيقترب أكثر من السعادة والاسترخاء والاستمتاع.
ولابد -وهذا مهم- أن يدرك الإنسان أنه إذا نجح بالتمرين والمحاولات الدخول في هذه الدائرة الواسعة من الهدوء والبرود الشاملين الجميلين، فإنه سيخرج أحيانًا عن هذه الدائرة رغمًا عنه، مهما اجتهد في البقاء داخلها، فكلنا بشر، ومن طبيعتنا الغضب والانفعال والاستعجال والاندفاع والاضطراب أحيانًا باختلاف أشكاله وألوانه؛ ولذلك قلتُ في فقرة سابقة أعلاه: «إذا استمرَّ اختلالُ» ولم أقلْ «إذا اختلَّ»؛ لأن الثبات الدائم على هدوء كامل مستمر في أي جانب شبه مستحيل عند البشر، ولا أعرف أن إنسانًا في التاريخ قدر عليه.
ولكن الانتصار يظهر في نقطتين، الأولى هي قدرة المرء على الرجوع إلى دائرة هدوئه بسرعة بعد أن يخرج منها لأي سببٍ أو أسباب فاقتْ قدرته على البقاء داخلها، والثانية هي قدرة المرء على البقاء في دائرة الهدوء فترات طويلة، وقلّة المرات التي يفقد فيها السيطرة فيخرج عن دائرة ذلك الهدوء.
هذا هو الشرح والمعيار في موضوع الهدوء المنشود العام الكبير عندي. أما الضحك، فلا يقل أهمية عن الهدوء في مسلكي هذا الذي وصلتُ إليه، بل هو مرتبط به مكمل له، وهو عندي قسمان أو على صورتين أو معنيين، الأول: ضحك ظاهر حقيقي فيه معنى الفرح والمرح والتفاؤل والانشراح وبقية الشبيهات والمرادفات، والثاني: ضحك مختلف فيه معنى السخرية والتهكم على كثيرٍ من الأمور المزعجة، خاصة ما لا يعرف الإنسان سببه ولا يستطيع دفعه.
اهدأ وابردْ واضحكْ، دائمًا قدر الإمكان في كل أحوالك، لتقترب من السعادة.. أعتقد أن هذا هو ما أردتُ قوله في هذه المقالة الطويلة.
إن الحياة لا تستحق في نظري (الجدية التامة) التي أراها عند كثير من الناس، والعمر أقصر من المبالغة في ذلك؛ فاضحكوا فيها وعليها، وعلى كلِّ ما يمر بكم فيها، سواء كان المارُّ مُسعدًا مريحًا أو مُزعجا مُنكّدًا مُكدِّرا.. اضحكوا على المُسعد ضحك الفرحين المستمتعين، واضحكوا أيضًا على المزعج ضحك الساخرين غير المكترثين.
وأستغلُ الفرصة السانحة في هذا الموضوع، لأرسل اقتراحًا إلى المسؤولين عن المناشط في مجتمعنا فأقول:
مع ظروف الحياة وتعقيداتها وضغوطاتها وتحولاتها السريعة المتشابكة في هذا الزمن، أقترحُ على الدولة أن تهتم بموضوع الضحك، كأن تحدد شهرًا أو أسبوعًا في كل عام مثلا، اسمه (أسبوع الضحك) على غرار أسبوع المرور.. الشجرة.. إلخ.
تقام فيه فعاليات مختلفة للضحك القوي لكافة فئات المجتمع، على غرار مهرجان (التراشق بالطماطم) في إسبانيا مثلا، أو غيره من المهرجانات والنشاطات الكثيرة المتنوعة المشابهة، ويكون شعار كلِّ السعوديين فيه مثلا: اضحكوا.. اضحكوا من قلوبكم.. اضحكوا فقط؛ فكل متاعب الحياة وتفاهاتها وتناقضاتها وغباواتها وعجائبها وكوارثها، ترسل لنا رسالة دائمة مفادها: اضحكوا، فليس في الحياة ما يستحق غير الضحك.
وائل القاسم - الرياض