قد يعتقد البعض ممن قرأ الجزأين السابقين من هذا الموضوع أنني لا أهتم بمبدأ ضرورة الصدقية فيما يتعلق بمسألة اعتناق «العقيدة الهُبليّة» ودور تلك الصدقية الفاعل في توثيق علاقة الفرد بتلك العقيدة، ولعل هذا الاعتقاد قد يكون الإحساس به صادر من خلال تركيزي على «دور مصلحة الفرد ونفعيته» في اختياره للعقيدة التعويضية عن عقيدته الأولية.
لا شك أن الصدقية هاهنا أقصد «ضرورة تفعيل الاعتناق» تتجاوز الدور المساند إلى دور رئيس يسهم في حصول «الإقناع بالاعتناق».
والتركيز على دور «المصلحة والنفعية» هو مرتبط شرطيا بالصدقية؛ فنحن نُصدّق كل ما يتفق مع مصلحتنا ونفعيتنا، كما أننا ننكر ونحارب كل عقيدة تتعارض مع مصلحتنا ونفعيتنا، وبالتالي فالصدقية ضرورة قائمة بالحتمية كما أنها ضرورة شرطية، مؤكدة بحصول مصلحة ونفع، ولهذه التتابعية لم يتم التصريح بها تحليلا.
وعليّ هنا أن أذكر أنني أتحدث عن عقيدة يتم اختيارها وفق السبق والإصرار، مما يعني أن الصدقيّة حجر الزاوية في عملية الاختيار تلك.
والأمر يختلف فيما يتعلق «بالعقيدة المتوارثة»؛ فالصدقية هاهنا ليست ضرورة قائمة بالحتمية، أو فلتقل إن التوارث كتتابع اطّراديّ ثابت للعقيدة العرفية معادل هنا لضرورة الصدقية وحتميتها.
وقد يسأل البعض أليست الحقيقة هي أيضا مصدرا للصدقية؟ وهذا السؤال لا أظنه مقطوعا بإجابة واحدة؛ لأن الحقيقة غالبا ما تدخل في باب «التوثيقات» المُعينة على «تحقق الصدقية»، فالدين والتاريخ والعرف والقانون والعلم كل تلك «توثيقات» تُثبت صدقية ما أو تُنفيها، ولذلك يظل الالتزام بها من قبيل «مساندات المنطق الجدلي».
ومن خلال القاعدة السابقة لمصدري الصدقية «الاختيار والوراثة» سنلاحظ أن انتقال الفرد إلى العقيدة التعويضة سيُفرغه تلقائيا وبتوجيه ذاتي من تاريخه الخاص والعام، وهو تفريغ إجباري وليس في مقام الفرض الكفاية.
وثمة أسباب لضرورة ذلك التفريغ سواء على مستوى المنتمِي الجديد للعقيدة التعويضية أو على مستوى «قصدية خطاب العقيدة التعويضية ذاتها».
فيما يتعلّق بالفرد المُنتمِي للعقيدة التعويضية فتنازله عن تاريخه الخاص والعام أي المتعلق بعقيدته الأولى هو نوع من الانتقام من تلك العقيدة، كما أنه إعلان ثورة لإلغاء كل تعاليم تلك العقيدة التي أضرت به كما يعتقد، وهما، أي الانتقام والثورة يحررانه من عقيدته الأولى.
ومن هنا تُصبح علاقة المنتمي الجديد للعقيدة التعويضية بالتاريخ في مجملها علاقة مضطربة؛ فالتاريخ في ذهنه مرتبط بماضيه وليس بالحضارة، وهذه الشخصنة للتاريخ هي التي تزرع فكرة كراهية وعداوة ذلك المنتمي المتطرف للتاريخ في كل أشكاله التمثيلية سواء آثار أو عقائد دينية وطائفية مختلفة عنه، وهو ما يُفسر لنا موقف المتطرفين من الآثار التاريخية الحاملة لهويات تاريخ الحضارات، ولذلك يسعى إلى تفريغ أي مكان يستعمره من تاريخه ليستطيع التجانس معه.
وفي المقابل، فإن المحافظة على التاريخ أو الأشكال التمثيلية له مثل الآثار والمُؤَلفات والرموز، ليست في مصلحة قصدية خطاب العقيدة التعويضية؛ ليس لأنها تتعارض مع منهج برمجة صناعة الأيديولوجية الموحِدة للمنتمين الجدد إليها القائمة على الإفراغ التاريخي لهؤلاء المنتمين فقط، بل يهدد ثبات الإفراغ التاريخي لدى المنتمي الجديد، ويُلغي أحادية الصحة المطلقة لقصدية خطاب تلك العقيدة؛ لأن الرضا بحضور تمثيل تاريخي رمزي أو عقيدي يجاور التاريخ الجديد للمنتمي إلى تلك العقيدة يُخفف من مركزية صحة معايير تلك العقيدة، وبالتالي يُزعزع ثقة أحاديتها ومصداقية تلك الأحادية عند المنتمين الجدد والقدماء.
أما فيما يتعلق بمستوى قصدية خطاب العقيدة التعويضية ذاته، لو تأملنا «خلايا» العقيدة التعويضية سنجد أنها مختلفات الأعراق والصفات والانتماءات وما يتعلق بها من جذور تاريخية متغايرة ومتفاوتة، وهذه مشكلات كبرى تواجه صنّاع قصدية خطاب العقيدة التعويضية، وهي مشكلات كبرى لأنها تواجه أيديولوجيات مخالفة لبعضها البعض وسيكولوجيات مختلفة مع بعضها البعض وثقافات متقاطعة مع بعضها البعض.
قد يقول البعض أليس تلك الخلايا لا يتم لها أي تكوّن إلا بعد تصفية ذاتية وإفراغ اختياري لتاريخها الخاص والعام وكل ما يتعلق بهما من أيديولوجية وثقافة وميول واتجاهات؟
إذن لماذا إعادة عملية الإخلاء والتفريغ مرة أخرى من قبِل صناع قصدية خطاب العقيدة التعويضية؟
وأمر الإعادة هاهنا مرتبط بثلاثة عوامل عامل تأكيدي، التأكد من عملية الإفراغ الذاتي لتاريخ الفرد الخاص والعام وأن المسألة لا تتعلق بإزحة مؤقتة تحركها الانفعالات الوجدانية والانجذاب العشوائي، والتأكد من الاستعداد الكلي لممارسة كل طقوس الأخوية التعويضية.
والعامل الثاني هو عامل احترازي ويفيد هذا العامل الاكتشاف الاستباقي للمندسين بين المنتميين الجدد أو المتطفلين أو غير المؤهلين للتحول إلى خلايا مُنتِجة داخل تلك العقيدة.
والعامل الثالث يتعلق باستراتيجية صناعة «سلعة الأفراد» أي خارطة التوزيع والتسويق؛ إذ إن المُنتمين إلى العقيدة التعويضية غالبا من فئات ثقافية مختلفة تبدأ «بالأُميّ» وتنتهي إلى من يحملون شهادات جامعية في المجالات كافة ودراسات عليا وعلماء طبيعيين وفكريين، وفئات من جنسيات مختلفة عربية وأجنبية.
وهذا التنوع التاريخي والعرقي والعلمي لخلايا العقيدة التعويضية الذي يذكرنا بتنوع خلايا الأخوية الماسونية هو قيمة في ذاته بالنسبة للعقيدة التعويضية لأنها دليل على جاذبية تلك العقيدة.
ونستطيع تفسير «مصطلح الجاذبية» هنا بعدة دلالات؛ الاحتياج أو الاتفاق أو المشاركة، وكل دلالة لها مقصدها؛ فالاحتياج يحقق التعويض والاتفاق يُثبت المعيار المتفق عليه أو مسطرة المعايير، والمشاركة تحقق التمكين.
كما أن تلك الجاذبية هي مُساهم عميق في رفع كثافة خبرة تلك العقيدة سواء على مستوى التخطيط أو الإجراءات التقنية أو ثقفنّة الرؤية التطرفية الداعمة لها أو فكرنّة خطابها الإرهابي.
كما أن تلك الجاذبية هي مؤشر على «عالمية» العقيدة التعويضية من خلال تنوع الخلفيات العرقية والثقافية، ولكن ذلك التنوع في بدايته لاشك أنه يمثل للعقيدة التعويضية أزمة تتعلق «بكيفية التنسيق أو كيفية تصميم أيديولوجية ثابتة الزاوية تُوحّد كل تلك الفراغات بمحتوى يدعم قصدية تمكين العقيدة التعويضية ووفق اطّراد قابل للبرمجة الآلية.
إن الخلايا أو «الأفراد الجدد المُنتمِين إلى العقيدة التعويضية» في حال إفراغهم التاريخي ليسوا مهيئين لتكوين خلايا انتمائية مع بعضهم البعض؛ فالفراغات المتساوية وإن شكّلت حيزا فهي لا تمثل دلالة.
وهذا ما تسعى إليه قصدية العقيدة التعويضية؛ تمثيل الدلالة لأنها هي المؤسِس التعويضي للتاريخ البديل الموحد لتلك الخلايا وبذلك يتساوى محتوى كل مُفرَغ شكلا ومضمونا، كما أنها -تمثيل الدالة- تُمصّدر الانتماء الجديد لتلك الخلايا وتوحدّه.
وتوزيع الأفراد في كل خلية من خلايا العقيدة التعويضية يشبه توزيع الأفراد في الخلايا الماسونية؛ أي قائم على البعد الوظيفي لطبيعة الفرد وما يملكه من مؤهلات وقدرات.
إضافة إلى أن هناك أساسا آخر يسهم في توحيد أيديولوجية المنتمين إلى تلك العقيدة في كل مكان أساس يقوم على «أن كل فرد منتمي إلى هذه العقيدة هو مجند في عون الفرد الآخر المنتمي إلى هذه العقيدة، في أي بقعة من بقاع الأرض، والعون هنا المساعدة على تحقيق أهدافه أي الأهداف التي تسعى إلى نشر قصدية خطاب العقيدة التعويضية وتمكينها.
وبذلك فنحن هنا أمام ما يُشبه «بميثاق الأخوية الماسونية».
- جدة