(يعفو عنك من نوى بك استعمالا أنفع له من الثأر)
أنسي الحاج
(1)
لم أكن أعرفه، لكني عرفت قبعات إدوارد دي بونو. في سنوات سابقة كنت قرأت (أريد أن أكون ملك استراليا 1999) الكتاب الحالم الذي ينقل قارئه من مَلَكة الأفكار الساذجة إلى الكيفية التي تسير فيها الأحلام، وإن بطرق متعرجة، نحو التحقق. كيف لمالطيٍ أن يصبح ملك استراليا؟ استراليا ليست ملكية، مع ذلك حلم مواطن في جزيرة صغيرة أن يكون ملكها. لا ضير في هذا، الأحلام الصعبة وإن كانت صعبة التحقق لكنها سهلة. ليدي سلفير كتبت (الديدان تأكل اللحم الميت 2002) قرأتها ثم رأيتها. على الطريق الذي أوصلني إلى أليس سبرينغ، شاهدت الحيوانات النافقة التي تأكلها الديدان.
استراليا قارة، لطالما اعتقدت أنها أصغر من ذلك، لكني لمحت حصاناً ميتاً على الطريق، حصاناً لا بد أنه تعثر بحجر أو صدمته حافلة. ربما كان يعبر الطريق الضيقة في الليل أو بدايات الصباح وذهب طعاماً للديدان. الفرنسيون يسمون ديدان الأرض (vers de terre) لكن الأرض هنا صفراء وحمراء من رمال لا ترحم من عليها. غير أن الأشجار تنبت والطيور تصلُ رغم المسافة بين الطريق وبين المحيط. لا مياه هنا وما بقي منها متخمٌ بالكبريت. لكن هل تأكل الديدان الطيور أيضاً، لا أعلم. الطيور التي التقيتها مرمية إلى على الأرض الكبريتية ومتخشبة كانت بحلة جيدة، لكنها ميتة.
قال لي صديقي، إنهم من هنا يصعدون بالصواريخ إلى الفضاء. لكن لا أثر لذلك، الصحراء تحتاج لبدويٍ يحترف المشي على الرمال. مع ذلك فإنها تعطي انطباعات تتراوح بين البطولة والتفاهة. لست بطلاً، ميرسول بطل ألبير كامو كذلك لم يكن بطلاً، كان حقيقياً رغم الغليان الذي كان يتصاعد في رأسه كمرجلِ سيارة في القيظ. على الطريق لم يوجد بشر غيرنا، السيارة تسيرُ بإطارات كاوتشوكية كبيرة لكنها لا تحمي من الأفاعي. كيف وصلنا إلى هنا، لا أعلم، ميرسول كان يحب بجنون لكنه كان يفتقر إلى الحماس الذي يدفعه للذهاب إلى بيت حبيبته البعيد. الطرقات هنا طويلة لكنها تحرض على الكسل والتراخي. الشمس قد تكون سبباً مقنعاً لكن الراديو الذي يثرثر طوال الطريق هو السبب.
أغانٍ إنكليزية على الأرجح تُرقصُ سكان هذه البلاد لكنها لم تعنِ لي شيئاً. أين أعثر على طلال مداح في هذه الطريق؟ أريده أن يغني لي وحدي في المدى الواسع، أريد أن أبكي وحدي لكن الحيوانات النافقة على طول الطريق لا تسمح لي بالبكاء. قال لي صديقي إن الطريق من جدة إلى الرياض شبيهة بهذه لكن بلا حيوانات نافقة.
كانت أمنيتي أن يرافقني عبد الرحمن الحيدري، كنت سأستمتع قليلاً بمقاربته اللغوية الإنكليزية وأتخيل صورته على الفايسبوك جالساً في صالون كبير فضي يلف رأسه بغطاء مذهب، كما لو أنه مهرجا جاء من أزمنة كانت فيها المأكولات حريفةً أكثر من الدجاج المشوي في nandos، حيث كان يحلم فهد الربيعة، أن يكون بيته أمام الشواية الكبيرة، ليشاهد الدجاج وهو يتقلب في فيلم مكرر ومستعاد ومثير للملل.
(2)
في المكتبة بالقرب من تشيبو، المكتبة المنتصبة وسط الشارع، كانت العناوين لافتة وخاوية (كيف تدير وقتك؟ عشر نصائح) ثم (كيف تعثر على الأوبال في الصحراء) ثم (ألف رسالة نموذجية للعشاق) ثم … إلخ.
المقهى صغير وكراسيه هي المقاعد التي وضعتها البلدية للمتعبين. تركت الواجهة الكارثية للمكتبة ثم مشيتُ أتأمل الواجهات الزجاجية الملونة، والنساء السمينات الواقفات في طابور لا بأس به أمام متجر Hungry Jack›s للوجبات السريعة.
يأكلون كثيراً هنا، مونيه رسم سلالاً من الفواكه لتزين صالات الطعام الخشبية في القصور ثم رسم كلباً يأكل عظمة. لم يكن مونيه يأكل كثيراً، كان يحب الأكل الذي يذهب به إلى الاسترخاء لولا الآلام المبرحة التي كانت تغلي في يديه. الواقفات في الطابور لا يرسمن بل يأكلن، الأكل متعة بشرية فريدة. حين أصدر رياض الريس النقاد التي تميزت عن الناقد بالمقالات القصيرة ورسوم الكاريكاتور، قال لي إن النقاد مثلها مثل الهامبرغر تشبع ولا تغذي. تجاوزت كل شيء الآن. لبنان بعيد والحرب أصبحت حديث المقاهي. حتى الأدب هنا لا جدوى حقيقية له إن لم يكن فكرة تسير كالرصاص.
ماذا يفعل الجميع في راندل ستريت سوى الأكل ومطاردة الوقت الذي يمر بطيئاً في هذه القارة. عبده بشور كان يطارد السفن العتيقة ولم يعثر على سفينة أحلامه. ربما وصل إلى استراليا، لا أدري. ألفارو موتيس لم يذكر استراليا في الرواية. وصل إلى حدود إندونيسيا لكنه توقف، دون سبب واضح وعاد أدراجه إلى قبرص ثم لندن ثم الأرخبيلات الجهنمية في كولومبيا ثم إلى باريس ثم إلى بيروت.
لا ندري كيف يمكن للبناني أن يصل إلى إندونيسيا ولا يتابع طريقه إلى استراليا دون أن يقتحمه كابوس يودي برأسه. أنهى موتيس الرواية بموت بطله دون أعذار منطقية، كان يجب أن يَتملكه الجنون ويذهب به بعيداً نحو الذعر الحقيقي الذي يمكن أن يَتملك رجلاً ترك وحيداً في سفينة تحترق.
اعتقدت دائما أن على يوسف المحيميد أن يعثر على بطل مشابه لعبده بشور. لا أعلم كيف، لكني طالما علقت في هذه الفكرة ولم أتركها. كيف يعثر على عبده في الصحراء؟ كتب نزهة الدلفين بعد حمام بريدة الذي لا يطير. ماذا يفعل الحمام هناك إذاً؟ المرة الأولى التي قرأت فيها عنوان يوسف توقعت ألا حمام في بريدة. لكن أين هي بريدة؟ كان علي أن أبحث في الأطلس لأشاهدها نقطة على الخارطة. هذا حصل قبل أن يتبرع غوغل بنقلنا إلى أي مكان في ثوان. حتى استراليا البعيدة أنتقل إليها بغمضة عين كما لو أنها تحت مخدتي.
(3)
في تشيبو جلست طويلاً. جاء الطليان إلى هنا مع ماكيناتهم، الإنكليز لم يعرفوا القهوة جاؤوا ومعهم أباريق الشاي من سيلان ولم يتذوقوا القهوة. عرفوا عدن لكنهم لم يعرفوا القهوة ذهبوا إلى الحبشة لكن القهوة لم تعنِ لهم شيئاً. جاء الطليان وحملوا معهم عشقهم لرائحة القهوة تهف في صباحات الغربة.
في أدلايد، المقاهي ترف الغرباء الوحيد، خارجون كل من روايته نشرّح روايات كثيرة عن بلاد بعيدة غارقة في الرمال والشمس. قبل أن يباغتنا كالعادة، الفتى البدوي بشعره الأسود وقبعته الإفرنجية وحكايات القبائل والأنساب وسكاكة التي تقطع نقطة على طريق طويل.
سيمون نصار - باريس