وهي أهم مكان يعشقه الأديب والمثقف، ويعيش حياته متفانياً في متابعة الجديد من الكتب لتتسع الجدران، وتنمو الحدائق في الرفوف، ويشع ضوء بين السطور لا شيء يعدل سطوته وحسن عشرته، ثم فجأة يغادر البستاني، وتنطفئ العيون التي تسقي الورد والكلمات وتطبع الأغلفة باللطف كل يوم.
يحدث هذا عند رحيل أحد المثقفين أو الأدباء والمفكرين فتذهب مكتباتهم النوعية طي النسيان، أو تغلق عليها الأبواب، وبعضها ينتهي به المطاف في أسواق الخردة أو شركات إعادة تدوير الورق، بكل أسف. ومن يزر أشهر سوق للمستعمل في جدة «سوق الصواريخ» يجد كتباً فريدة بتوقيعات مؤلفيها تباع بثمن بخس يحجم كثيرون عنها.. ولم ينشغل أحد بمعرفة الأسباب التي أوصلت هذه الأوعية الثقافية إلى النهايات المؤسفة، ولم تبادر المؤسسات الثقافية الكبرى في البلاد إلى وضع خطة معلنة تخدم هذا المجال وتشرّع بدائل يلجأ إليها أبناء الرواد والمثقفين حين يعجزهم التصرف في هذه المكتبات، أو تضعف قدرتهم على إدارتها والانتفاع بها.
هذا لم يحدث عند رحيل الكاتب الأستاذ عابد خزندار وقد عرف الجميع مكتبته الفريدة في منزله بجدة وأظن الأخرى في باريس أكثر ثراء وتنوعاً فهو مثقف مختلف وناشر ومترجم وصاحب علاقات متنوعة بالساحة الثقافية فقبل أيام دعت ابنته المثقفة سارة عبر وسائل التواصل الاجتماعي القارئ ليستفيد من الإصدارات النوعية التي وضعتها الأسرة تحت تصرف الناس وقد طبعت عليها عبارة «إهداء من عابد خزندار»، أما أكثر المقتنيات فقد ذهب إلى مكتبة الملك فهد الوطنية بالرياض، وجزء آخر إلى المكتبة الوطنية الفرنسية، ويبدو أن بعض المكتبات العلمية في جدة لم ترحب بإهداء المكتبة إليها واحتكمت إلى «النسق البيروقراطي» الذي تذمّر منه كثيراً في مقالاته وطالته سطوته بعد رحيله فأي عقل يمتلك هؤلاء وهم يفرطون في فرصة نادرة ومكتبة نوعية ستغدو إضافة لمقتنياتهم ورافداً مهماً لو كانوا يعقلون.
والمؤسف أن تمتلك الأندية الأدبية الميزانيات فتصرف أجزاء كبيرة منها في أبنية تفوق احتياجاتها، ولا تبادر إلى أعمال تحقق رسالتها ودورها الثقافي فتتلقى هذه المكتبات أو تدعم ملاكها في سبيل إدارتها وتوسيع الاستفادة منها، ولكن الأندية لم تعد قادرة على الابتكار والمبادرة وارتهنت إلى أنساق تقليدية نفعها محدود ونادر أحياناً.
هناك بوادر جميلة قادتها مكتبة جامعة الملك عبد العزيز بجدة، حيث خصصت أجنحة للمكتبات المهداة، ومثل ذلك فعلت مكتبات أخرى لكنها خطوات محدودة لا تسلم من النسيان والإهمال مع مرور الزمن وأتذكر رأياً جريئاً لأستاذنا عبد الرحمن بن معمر يرى فيه « إهداء مكتبات الرواد إلى الجهات الثقافية ضياعاً وتضييعاً لها وإهانة وامتهاناً لأن إهداء الشيء ابتذال له، فإذا كان الورثة من الموسرين فلماذا لا يحتفظون بها في مكان يتيح الاستفادة منها»، ويدعو الأستاذ المعمر الجامعات والأندية الأدبية إلى إعانة أبناء الراحلين بشراء هذه المكتبات لا أن تستغل عواطفهم بالتبرع ثم يندمون بعد أن يمنون عليهم بخطاب شكر أو خبر صغير في جريدة لا تقرأ!
ربما تعجز أسر عن إدارة هذه المكتبات، وقد لا تمتلك مواقع لبقائها وإتاحتها للجمهور، وهنا يأتي دور المؤسسات الثقافية للقيام برسالتها بشفافية ونزاهة وحسن إدارة، ولعل أقربها إلى ذلك المكتبات العامة المنتشرة في أرجاء البلاد لكنها، بكل أسف، متهالكة وضعيفة الإدارة، ولا يرتادها القارئ، ولا أظن ابنا باراً من أبناء الرواد يرضى لمكتبة والده أن تتآكل في أقبيتها المظلمة، وذهابها إلى المكتبات الوطنية يضيّق مساحات الاستفادة منها، وهنا يجد الوارث نفسه أمام أمرين أحلاهما أكثر مرارة من الآخر، ولكن لا مفر.
محمد المنقري - جدة