يورد ابن شهيد الأندلسي في نهاية كتابه (التوابع والزوابع) قصته الخيالية مع الإوزة-العقل التي أقحمها في النص ليحاول من خلالها أن يناقش العقل والأدب، فجاءت مستضافة في النص على غير ما سرده من وقائع سالفة مع الشعراء والخطباء والجن، إذ إنها لا تنتمي إلى أيٍّ من هؤلاء، وجاءت بمعزل عن الشعر مستضيفة للنص القرآني والجدل الحواري العقلاني ليضع بها فيصلًا بين العقل والأدب كنهاية لنصه الأدبي.
وتفاجئنا قصته مع الإوزة-العقل حينما رآها في بركةٍ بجانبه وهو يجادل الجن في النقد، فهو لم يذهب إليها-إليه كما فعل مع جميع الذين ارتحل إليهم من قبل وهم الشعراء والخطباء والجن، بل إنه يرى الإوزة-العقل «تثني سالفتها، وتكسر حدقتها» (ص150) فهي في مكانة ساميةٍ مغرورةٍ ليست هي كالأدب القريب اليسير.
وتبدأ الإوزة-العقل جدالها معه بالمنطق والعقلانية حينما تحوِّلُ نقدَه وتفوقَه على الجني - الذي صار أصغر من الخنفساء بعدما تغلب عليه ابن شهيد في النقد والأدب - إلى منطق عقلاني، فتُجري معه حوارً جدليًا يرتكز على العقل لا الأدب المشاعري:
- «فقالت: أيها الغار المغرور، كيف تحكم في الفروع وأنت لا تُحكِم الأصول؟! ما الذي تحسِن؟!
- قلتُ: ارتجال الشعرِ، واقتضاب خطبةٍ، على حكم المقترح والنصبة.
- قالت: ليس عن هذا أسألك.
قلتُ: ولا بغير هذا أجاوبك.
قالت: حكم الجواب أن يقع على أصل السؤال، وأنا إنما أردتُ بذلك إحسان النحو والغريب اللذيْن هما أصل الكلام، ومادة البيان.
قلتُ: لا جواب عندي غير ما سمعتِ.
قالت: أقسم أن هذا منك غير داخل في باب الجدل.
قلتُ: وبالجدل تطلبيننا وقد عقدنا سلْمَه، وكفينا حربه... وهو من تعاليم الله عز وجل.
قالت: أقسم أن الله ما علمك الجدل في كتابه « (ص151)
ثم سرد عليها قصة جدال النبي إبراهيم مع النمرود كدليل على وجود الجدل في القرآن.
وفي هذا الحوار الجدلي الذي يعتمد على السؤال والجواب، ويعتمد على النحو والمنطق، لما للنحو من علاقة بالمنطق، لأنهما يشتركان في قوانين الألفاظ، ويختلفان في كون النحو يهتم بألفاظ أمة معينة كالعربية والمنطق عام في ألفاظ كل الأمم (راجع إحصاء العلوم للفارابي ص34)، وقد بدأ السؤال من الإوزة-العقل (الأوْزَقَل) كمحفز للأديب الشاعري الذي يناقض العقل، لذا انتهت القصة بالسؤال: «أيهما أفضل: الأدب أم العقل؟ قالت: بل العقل» (ص152)، مثيرٌ إلى إشكال العقل في ذاته، وإشكال العقل مع الأدب، فإشكاله في ذاته عندما يُعتمد عليه في الحوار في الحين الذي يرفضه الأديب، وإشكاله مع الأدب حينما يكون التصادم بين الإوزة-العقل وبين الأديب-الأدب، فيبدأ الحوار بتعالٍ من (الأوزقل) ثم ينتهي بتعالٍ من الأدب-الأديب، فلما انتصر الأدب على الأوزقل عادت إليهم وقد «اعتراها ما يعتري الأوز من الألفة وحسن الرجعة، فقدمت عنقها ورأسها إلينا تمشي نحونا رويدًا، وتنطق نطقا متداركًا خفيا» (ص152)، فهي علاقة انتصار وتضاد وصراع، لا علاقة ارتباط ومواءمة.
استعلاء يعقبه إذلال
إذلال يعقبه استعلاء
فيغيب خطاب العقل من النص كاملًا بل إنه يعتمد على ضده في العالم الميتافيزيقي-الجن، فيأتي العقل متأخرًا في نهاية النص، وينتهي متأخرًا في نهاية قصة (الأوزقل).
الأوزقل الأحمق:
لماذا جاء العقل في أوِزّة؟!
الجواب هنا يتضح من خلال سؤال الأديب (للأوزقل): «فهل تعرفين في الخلائق أحمق من إوزة؟! ودعيني من مثَلِهم في الحبارى» (ص152)، فالحمق هو السبب في كون العقل إوزة، فالإوزة حمقاء لذا جاء العقل أحمق، بل إنه تجرأ على مخالفة المثل العربي في حماقة الحبارى ليستبدله بحماقة الإوزة.
فالحمق ضد العقل، والحماقة هنا صفة للعقل فيكون العقل أحمق في نظر الأدب، والأدب أحمق في نظر (الأوزقل)، فكلاهما أحمق كما أن كليهما متعقل، لكن عقل الأوزقل منطقي يعتمد على الجدل بينما عقل الأدب يعتمد على التجريب» قلت: فتطلّبي عقل التجربة، إذ لا سبيل لك إلى عقل الطبيعة، فإذا أحرزت منه نصيبًا، وبؤتِ منه بحظ، فحينئذ ناظري في الأدب» (ص152)، فهي علاقة تنافر لأنها توقن بامتلاك العقل وتوقن بنفي العقل.
إن إشكال العقل والأدب نابع من تعريب الفلسفة اليونانية، وهذه العلاقة الشائكة مبثوثة في كتب الأدب نجدها حتى عند التوحيدي في مقابساته، بل إن إحدى ركائز كتاب المقابسات هي العقل مع الوعظ والخلُق «واعلم أن الغرض كله من هذا الكتاب، وجميع ما أُثبت عن هؤلاء الشيوخ، إنما هو في إيقاظ النفس وتأييد العقل» (المقابسات ص209)، ونلحظه عند التوحيدي أيضا في (الإمتاع والمؤانسة) بقوله -وهو يوافق بين الدين والعقل- «ألا يعلم أن المدار على العقل الذي من حرمه فهو أنقص من كل فقير» (الإمتاع والمؤانسة ص1-87)، وبذا نستفيق على قبول التوحيدي للعقل مقابل رفض ابن شهيد له، ولهذا دراسة أخرى سأطرح فيها العقل عند أبي حيان بشيء من التحليل، إلا أنه هنا ينبينا عن اهتمام الأدباء بالعقل رفضًا وقبولًا من خلال النص الأدبي ذاته. والتأويل الثقافي سيمهّد لنا مسلَكًا لاستظهار العقل في النص الأدبي القديم.
صالح بن سالم - المدينة المنورة