قد يتحول العلم إلى أيديولوجيا وقد يتأثر بالأيديولوجيا، ولكن الأيديولوجيا ليست علماً ولن تكون علماً، إن المهم حقاً هو دراسة العلاقات التي تنشأ أو تتسرب بين العلم والأيديولوجيا من خلال الممارسة سواء أكانت ممارسة علمية أو ممارسة خطابية.. وهنا لا بُدَّ من النظر إلى أن العلم والأيديولوجيا يلتقيان في كونهما نوعاً من المعرفة، لكنهما في علاقتهما يمثلان مستويات مختلفة من العلاقات التي قد تكون تضاداً وقد تكون تناقضاً وقد تكون احتواء وقد تكون علاقة كعلاقة الذراع الآلية، أي علاقة استعمالية خارجية تبقي وهم الانفصال بين العلم والأيدلوجيا واستقلال العلم لمزيد من التثبيت للأيديولوجي وللعلم الذراعي الآلي الذي تستعمله.
وهنا يكون العلم متكيفاً قسرا مع الجسم الأيديولوجي ولا ينمو إلا من خلال الوظائف التي يتطلبها ذلك الجسم، ولا يتطور إلا من خلال الرؤية الأيديولوجية مهما تدعى المنهجية والصرامة ويظل على وهم التقدم وهو في الحقيقة لا يتقدم وإنما ما يتقدم هو الأيديولوجيا.
وفي مستوى آخر من العلاقة بين الأيديولوجيا والعلم يجبر العلم الأيديولوجيا على إعادة تأويل نفسها خصوصاً إذا كانت أيديولوجيا شمولية فراراً بين التناقض الذي يظهر باستمرار كلما تقدم العلم، ومن ذلك ما يقوم به المهتمون بالإعجاز العلمي للكتب المقدسة، رغم أن تلك الكتب ليست كتب علم هي كتب لها وظيفة أخرى بعيدة كل البعد عن العلم.
وفي النهاية تتخذ الأيديولوجيا الشاملة بالذات، (مهما كانت ومهما أطلقت من دعاوى أيديولوجية ومن نصوص تدل على تقديرها للعلم وأنه لا يوجد تناقض بينها وبين العلم)، موقفاً متوقعاً بتحريم العلم ومطاردة العلماء إن عاجلا أو آجلاً هذا في العلوم الطبيعية، أما في العلوم الإِنسانية فهي إما تحرم علوماً ومناهج كلياً أو جزئياً أو تربط بين تلك العلوم والمناهج وبين أيديولوجيات معادية أو منافسة، مما يجعلها في النهاية ترفض تلك العلوم كلياً أو جزئياً مهما بدت حيادية وعلمية وبعيدة عن المؤثر الأيديولوجي. بل إن نمطا أو مستوى من مستوى العلاقات تقوم فيه الأيديولوجيا بإنتاج شبيه العلم وليس هو بعلم من خلال استعمال مناهج العلم والنقد والمختلفة في تثبيت الأيديولوجيا أو استعمالها كخط إنتاج أيديولوجي.
إن مستويات تلك العلاقات يمكن فقط دراساتها من خلال علمين أحدهما فلسفي وهو الابستمولوجيا، والآخر لساني وهو تحليل الخطاب وتحليل الخطاب النقدي لفصل الشوائب الأيديولوجية وفصل العناصر وفصل الممارسة وتوضيح النتائج.
ولا يمكن لنا في الحال هذه إغفال ابستمولوجيا العلم والصراع الأيديولوجي الشديد على تكونات العلم بين وضع النظرية البحت وبين وضع الأيديولوجية البحت، وهذا هو موضوع الابستمولوجيا الأول إذا نظرنا للابستمولوجيا كنقد للنظريات العلمية، أن ابستمولوجيا العلوم عند الغرب تتلقى منحنياتها مع منحنيات الأيديولوجيا حيناً وتتباعدان حيناً آخر، ولكن ذلك كله داخل أيدلوجيات الغرب وداخل علومه، مما يوجد عند الأيديولوجيات الأخرى خوفاً من الذوبان في الأيديولوجية الغربية وفي الابستمولوجيا الغربية، لأجل ذلك نرى حرصا مبالغاً فيه على رفض نتائج العلوم الغربية بما فيها العلوم الطبيعية في بعض الأحيان، وحرصاً مبالغاً يظهر فيه الصراع في ساحات مصطلحات العلوم تارة وفي أعمال المفكرين الذين يدرسون التراث تارة أخرى.
وفي نظرنا أن مهمة الابستمولوجيا إضافة إلى أنها فكر نقدي للعلوم هي تخليص العلم من الأيديولوجيا ليس لمصلحة أيديولوجيا بديلة بل لمصلحة العلم ذاته، أما الانطلاق من إخضاع الابستمولوجيا للإشكالية التراثية للفكر العربي المعاصر ولسؤال الهوية في مقابل الآخر، فمما سيؤدي إلى استعمال الابستمولوجيا في خدمة أهداف نظرية وأيديولوجية بعيدة عن أصلها، وتصبح قيمتها لدينا فيما تمكننا منه من نتائج نرتجيها مسبقاً في الميدان الذي تطبق فيه ( انظر : عبد السلام بنعبد العالي : 2001، ص 18).
وقبل الإشارة إلى حال العلم مع الأيديولوجيا أشير إلى أن الاستعمال الاصطلاحي في اللغة العربية للمصطلحات الغربية في العلوم المختلفة وقع في المأزق الأيديولوجي.. وهنالك جملة من المآزق التي وقعت فيها حركة المصطلحات خصوصا المصطلحات الحديثة، أولا من خلال علاقتها بالمصطلح التراثي القديم، وثانيا من خلال الطريقة التي يجري بها توظيف المصطلح أو الطريقة التي تتم به الإحالة إلى المفاهيم والمصطلحات في نظريات غربية، إِذْ هي طريقة استلابية تحاول أن تحشو العلم بإحالات إلى أعلام غربيين وإلى أفكار وإلى نصوص عادية جداً ! ولا تحاول أن تكون دقيقة في اختيار المصطلح المفهومي المتميز لتوظيفه فقط، وثالثا من خلال شبه انعدام القدرة على إنتاج المصطلحات الحية المرتبطة بأجهزة مفاهيمه ونظرية ذات صرامة علمية، ورابعا من خلال مرورها بالأفق الأيديولوجي الغربي حتى وإن كانت مصطلحات علوم بحتة، ولو بما يملكه اللفظ من غرابة لغوية ترده إلى أصول غير العربية سواء أقبل دخيلاً أم عرب أم ترجم.
وهنا يبدو الصراع صراعاً أيديولوجيا وخوفا على استمرار التبعية أو ذوبان الهوية في الآخر، ومثل هذا الصراع إذا استمر سيصبح أزمة أيديولوجية مزمنة لن يتمكن معها العرب من الإنتاج العلمي وسيظلون في لهاث أيديولوجي لا يتوقف. ولا حل إلا الالتفات إلى التخصص الدقيق وإنتاج النظرية العلمية أو إنتاج المقولة الفلسفية دون غضاضة من البناء على المصطلح الغربي، وتناسي الأيديولوجيا العالقة به، ويكون التناسي (حالة ابستمولوجية)، وليس فعلاً فردياً هذا التناسي مهم للتجاوز الأيديولوجي، وللبدء في بناء العلم والمصطلح الجديد، ولكن للأسف بالنظر إلى الوضع التكاملي للبناء الحضاري في العصر الحديث يبدو أن الخلل الأيديولوجي العام الذي تعيشه الحضارة العربية والإسلامية والاستلاب والضعف السياسي، إضافة إلى طغيان النظرة الأعرابية على الأداء الحضاري المتمثل في تركز القرار المهيمن في أياد جاهلة حتى بالوضع الأيديولوجي وبالوضع الحضاري وبالوضع العلمي الذي تعيش في إطاره واهتمامها في الغالب باللعب بالأيديولوجيا التجهيلية أو الأيديولوجيا القاتلة للحفاظ على التسلط والاستبداد، كل ذلك زاد الطين بلات جمة.
عموماً فإنَّ للأيديولوجيا مع العلم أحوالاً تتم في إطار مفهومي (اتصال - انفصال)؛ إِذْ هما أنسب مفهومين موجهين لهذه المقاربة؛ ولذلك ثلاثة مراتب:
- اتصال، وفيه تتجلى كل مستويات العلاقات.. بما فيها التضاد الذي يعيش فيه العلمي مع الأيديولوجي أو التناقض الشكلي الذي يغيب فيه العلم أن حضرت الأيديولوجيا، بل إن أي علم لا ينشأ في بدايته إلا في حقل أيديولوجي ما، وأن تطوره فيما بعد مترتب على الصراع مع حقله الأيديولوجي أولاً، ثم مع أيديولوجيته الخاصة التي تختلط مع انبثاق النشأة ثانياً، ثم قيامه الذاتي بالقضاء على العوالق الأيديولوجية القبلية الخفية ثالثاً، هنا نصل إلى العلم في مرحلة وهم الانفصال.
- وهم انفصال، وهي المرحلة التي يفرض فيها التقدم العلمي ما يشبه الاستقلال عن الأيديولوجي تماماً، لكنه يعود ويشكل أيديولوجيته في الوقت نفسه وهي أيديولوجيا تنشأ تلقائيا من خلال قضاء العلم على كل التصورات والمفاهيم القديمة وإحلال تصورات ومفاهيم جديدة يرتبط به موقف أيديولوجي ما. وقد يستعمل العلم أيضاً في هذه الحالة كجزء أيديولوجي، أو كأداة أيديولوجية بطريقة غير مباشرة في الصراعات الأيديولوجية.
- انفصال، وفي هذه الحالة تنقي ابستمولوجيا العلم الخاصة العلم من كل اللاعلم وتصل به إلى اكتماله العلمي في انتظار قطيعة ما وتترافق مع ذلك مرحلة جديدة تسمى أخلاقيات العلم، وهي مرحلة بدأت تظهر بقوة في أمريكا خصوصاً بعد ظهور مصطلح الأخلاقيات التطبيقية التي ظهرت في أواخر الستينيات التي نتجت عن الاهتمام بدراسات الحالات الخاصة التي استجدت بأسباب التقدم العلمي والحضاري الهائل، وقدر ركزت في البداية على أخلاقيات الطب والبيولوجيا ثم انتقلت إلى ميادين مختلفة منها أخلاقيات البيئة، وأخلاقيات التجارة والأعمال، وأخلاقيات وسائل الإعلام، وأخلاقيات الممارسة السياسية.
وفي نظرنا أن هذه الأخلاقيات ستكون عالمية وهي بعالميتها وتوافق كل الأمم على الاعتراف بها من منطلق حركية العلم ذاته لا ما يفرضه النسق الأيديولوجي، وسوف تضع هذه الأخلاقيات حداً لتحول العلم إلى أيديولوجيا أو استعماله في الصراعات الأيديولوجية أو استعماله استعمالا غير إِنساني بصفة عامة، وهنا يتحقق الفصل النهائي بين العلمي والأيديولوجي وفقاً لشرطين رئيسين شرط داخلي وهو تحقيق العلمية في إطار الحركة الابستمولوجية للعلم والتجاوز المستمر لذاته، وشرط خارجي يتعلق بتحقق أخلاقيات العلم التي نعتقد أن أول شروطها سيكون في المستقبل عدم السماح للأيديولوجيا بالتحكم بالعلمي أو التسرب إليه وسيكون ذلك عن طريق ملاحقة الأيديولوجي داخل العلمي وفضحه.
د. جمعان عبدالكريم - الباحة