(الشعوبية) -كما يراها النقاد- مذهبٌ اجتماعيٌّ ينطوي على أهداف سياسية؛ نادى به بعض المتعصبين من الشعوب الأجنبية التي أخضعها العرب لحكمهم؛ وبخاصة الفرس، وهو يقوم على أساس مهاجمة العرب، والحطِّ من شأنهم، والتهوين من دورهم الحضاري في تاريخ الإنسانية، وتمجيد الحضارة الفارسية، من أجل الإطاحة بالحكم العربي، وهدم السيادة العربية، وإعادة الدولة الفارسية إلى سابق عهدها وحضارتها.
ورغم المحاولة الجادة التي يسعى من خلالها هذا التعريف إلى بيان هذا التوجه إلا أن فيه نوعاً من القصور، لأنه يحصر دوافع التوجه الشعوبي في السياسة، ويكاد يقصره على الجنس الفارسي، والحق أنَّ الأمر أكثر اتساعا من ذلك، فليست السياسة فقط هي الدافع الوحيد، وليس الفرس فحسب هم من يسعى إلى تحقيق هذه الأهداف.
وحين يطالع المتأمل كتب النقد والتاريخ القديمة لا يجد اتفاقاً بين المؤلفين في تاريخ ظهور هذا التوجُّه، فبعضهم يرى أنَّ أصله زياد بن أبيه، حيث يؤكد صاحب الأغاني أنه «لما ادُّعي إلى أبي سفيان وعلم أنَّ العرب لا تقرُّ له بذلك مع علمها بنسبه ومع سوء آثاره فيهم، عمل كتاب (المثالب)، فألصق بالعرب كلِّها كلَّ عيبٍ وعار، وحقٍّ وباطل»، ويرى آخرون أنَّ بدايتهم كانت حين ظهر الإسلام وأضعف دولهم، فحنقوا عليه» فالتفَّ كثيرٌ منهم حول أبي مسلم داعية العباسيين بخراسان، وما لبثوا أن زحفوا بجيش ضخم أدالوا به للعباسيين من الأمويين، وللفرس من العرب، إدالةً نفذوا في أثنائها إلى مناصب الدولة العليا، بحيث كان منهم أكثر القواد وأكثر الولاة».
ولعلَّ هذا الرأي الأخير أقرب للصحة، وأشير هنا إلى أنَّ هذا التوجه بلغ القمة في القرن الثالث الهجري؛ حيث زاد تعصُّب الخلفاء العباسيين للإسلام دون العربية، ولقي العرب من العجم عنتاً شديدا، فالوزراء أكثرهم عجم، والدسائس تُدسُّ في القصور لإضعاف شأن العرب، وإذا ثار العرب في جزيرتهم أو في الأطراف نكَّل بهم قوَّاد العجم وجيوشهم أشدَّ تنكيل.
ولم يفت على الجاحظ في الحيوان أن يشير أهم دافع من دوافع ظهر الشعوبية، وهو التعصب ضدَّ الإسلام، حيث يقول: «وربما كانت العداوة من جهة العصبية، فإنَّ عامة من ارتاب بالإسلام إنما كان أولُ ذلك رأيَ الشعوبية والتمادي فيه، وطول الجدال المؤدي إلى القتال، فإذا أبغض شيئاً أبغض أهله، وإذا أبغض تلك اللغة أبغض تلك الجزيرة، وإذا أبغض تلك الجزيرة أحبَّ مَن أبغض تلك الجزيرة، فلا تزال الحالات تنتقل به حتى ينسلخ من الإسلام؛ إذ كانت العرب هي التي جاءت به، وكانوا السلف والقدوة»، وواضحٌ من هذا الكلام أنَّ الجاحظ يشير إلى الجانب العقدي بوصفه دافعاً لظهور هذا التوجُّه، وهذا صحيحٌ تماماً، غير أنه لم يكن الجانب الوحيد، فالمتأمل في تاريخ هذا المذهب يلحظ أنه لم يكن عقيدةً محدودة المعالم، لها شعائر ظاهرة معينة، بل هي أقرب إلى النزعة المذهبية.
ومهما يكن فإنَّ الناظر في تاريخ الشعوبيين يرى أنه لا يجمعهم دافعٌ واحد، بل تختلف دوافعهم باختلاف أحوالهم، وقد أبان شوقي ضيف عن بعض هذه الأحوال، فمنهم سياسيون يريدون أن يسـتأثروا بالحكم والسلطان دون العرب، ومنهم قوميون كانوا يستشعرون مشاعر قوميتهم ضدَّ العرب الذين اجتاحوا ديارهم، وقوَّضوا دولهم، وهي مشاعر ما زالت تحتدم في نفوس الفرس حتى أحيوا لغتهم ودولتهم فيما بعد، ومنهم مُجَّان خلعاء أعجبتهم الحضارات الأجنبية وما اقترن بها من خمرٍ ومجونٍ واستمتاعٍ بالحياة.
ولا شكَّ أنَّ الباحث في المصادر القديمة والحديثة سيجد مزيداً من الآراء حول تاريخ ظهور الشعوبية ودوافعها، ومهما يكن فقد ظهرت لها أشكالٌ عدَّة في تراثنا النقدي القديم، وسعى أنصارها إلى تأصيلها من خلال عددٍ من الوسائل، من أبرزها: التنظير لإلغاء فضيلة العرب، كما يرى المتأمل مثلا في كلام ابن عبدربه الأندلسي حين استشهد بآيات التفاضل بالتقوى، وأورد عدداً من الأحاديث النبوية التي تؤكد أن الأنساب لا تنجي صاحبها يوم القيامة، وروى بعض ما أُثر عن العرب من نصوص يفتخرون من خلالها بأفعالهم لا بآبائهم.
- الرياض
Omar1401@gmail.com