مقدمة:
ينتابني الشعور أحياناً عندما أستدني موضوعاً للكتابة عنه، أن الحاضرَ سيكون أدرى فيه من المحاضِر، وأن على المحاضر الغوص في أعماق البحث من أجل الإتيان بالجديد قدرالإمكان، وكنت كتبت بمناسبة الاحتفال بالذكرى المئوية مقالاً موجزاً بعنوان: خالد الفرج؛ كويتي - بحريني - سعودي، مارس الطباعة في الهند (جريدة الجزيرة 9522 لعام 1998م) متضمّناً أبرز النقاط عن حياته وعن آثاره الفكرية، فأحسست منذ ذلك التاريخ أن سيرته تستحق أكثر من مجرد مقال.
لكن اسمه - بالرغم مما كتب عنه حتى الآن - بدأ يتوارى عن الأذهان تدريجيّاً، فلا يكاد يُـذكر إلا لماماً، ولم يـعُد يُـعرف إلا بتعريف، فأصبح التذكير به وبتراثه الأدبي دافعاً قويّاً لعقد هذه المحاضرة.
شاعر الخليج:
وخالد الفرج، اصطُلح على تسميته في سوريا ولبنان «شاعر الخليج» في لقب أطلقه عليه الصحفي الفلسطيني محمد علي الطاهر مُنشئ مجلة «الشورى» المصرية عام 1343هـ (أكتوبر 1924م) وهي تسمية للفرج لم تنطلق من فراغ، حيث ينحدر من أصول سعودية تعود إلى البدارين من الدواسر، وقد ولد في الكويت من أسرة ميسورة الحال، ووالدته هي شيخة بنت ثنيّان عبد الرحمن الثنيّان من قبيلة الخليفات القطرية، عاش في الهند فالبحرين ثم في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، وأمضى العامين الأخيرين من عمره في بلاد الشام، قال عنه خالد سعود الزيد «حسبُك علماً أن تتفاخر بخالد الفرج ثلاثةُ أقطار كلٌ منها تدّعيه لنفسها».
فالفرج جمع الأمجاد من أطراف الخليج والجزيرة العربية، مجسِّـداً في تنقّلاته وحدة المنطقة ومعبّراً في أشعاره عن هموم الأمة، وكان في زمنه ملء السمع والبصر، كوّن صداقات وتبادل المراسلات والقصائد الإخوانية مع عدد من رموز الثقافة في الكويت (من أمثال عبد اللطيف النصف وعبد الرحمن النقيب ويوسف القناعي وخالد العدساني وصقر الشبيب) وفي البحرين (من أمثال قاسم الشيراوي وعبد الله الزايد) وفي المنطقة الشرقية (من أمثال آل الجشي وآل الخنيزي والعوّامي والخطّي، علاوة على زميل دربه هاشم الرفاعي مدير الجمارك).
رائد الملاحم:
وهذا الأديب - المولود في الكويت منتصف ربيع الآخر عام 1316هـ (1898م) المتزوج عليّة بنت أحمد بن سلمان البريكي الدوسري عام 1342هـ ومن عائشة بنت عبد الله الفرج سنة 1348هـ، ووالد كل من محمد وعلي وشيخة، والمتوفّى مستشفياً في لبنان سنة 1374هـ (1954 م) وقد تزامنت وفاته مع وفاة الملك عبد العزيز بفارق عام واحد - هو مثقف وشاعر ومؤرّخ اشتهر من نظمه ملحمة «أحسن القصص» التي طبعت في القاهرة في (130) صفحة في حدود عام 1348هـ (1929م) من تقديم محمد علي الطاهر، ثم راجعها عالم قطر الشيخ عبد الله الأنصاري وطبعت في الدوحة عام 1402هـ (1982م) وهي مطوّلة شعرية غطّت العقود الخمسة الأولى من حياة الملك عبد العزيز منذ ولادته سنة 1292هـ (1876م) وحتى دخل الحجاز في حكمه سنة 1344هـ (1925م) وورد في ديباجة الملحمة:
هو ذا الدهر أكبر الأسفار
فيه أسمى العظات والاعتبار
ما الليالي فيه سوى أسطار
في طروس من نسج طول النهار
ملأت من تقادم الأعصار
صفحاتٍ ملئن بالأخبار
لذوي الاتّعاظ والإبصار
والملحمة مقسمة إلى عشرين فصلاً تشتمل على (800) بيت سباعية التشطير على وزن واحد (البحر الخفيف) وقد نظمها وطبعها إبان عهد الملك عبد العزيز عندما كان ملك الحجاز ونجد وملحقاتها، وضمّنها إهداءً قال فيه: «وهذه منظومة تحتوي على سيرتكم كتبتها للحقيقة والتاريخ، لا مبالغة فيها ولا تحامل على أحد، وليست سوى صدى لما توّجتم به هام العروبة بأكاليل الفخار، وصفحات بيضاء أضفتموها إلى تاريخ العرب المجيد أنتم أعلم بجلائلها ودقائقها، نظمتها للأمة العربية التي رفعتْ رأسها بكم».
كما اشتهر من آثاره الشعرية القصيدة البائيّة «الخبر والعيان في تاريخ نجد» في خمسمائة بيت، نظمها على مرحلتين في عامي 1367 و 1368هـ (1947 و 1948م) قائلاً في مطلعها:
إلى مجدك العلياءُ تُعزى وتنسبُ
وفي ذكرك التاريخُ يُملى ويُكتبُ
تولى الباحث عبد الرحمن الشقير تحقيقها ونشرتها مكتبة العبيكان عام 1420هـ (2000 م) في مجلد يزيد على حمسمائة صفحة، وقد توقّف توزيعه لاحقاً بسبب تعرّض أبيات من الملحمة لبعض القبائل.
وبحسب خالد سعود الزيد، يوجد للفرج قصيدة لاميّة طويلة ثالثة سمّاها «الملحمة الذهبية» نظمها بمناسبة الذكرى الخمسين لدخول الرياض، وقال في مطلعها:
بالحمد والتكبير والتهليل
شيّدت دوماً فخر هذا الجيل
وكنتُ نشرتُ مقالةً عن المطوّلات الشعرية التي وثّـقت ملحمة توحيد المملكة (جريدة الشرق الأوسط، العدد 10891 لعام 2008 م) ورصدتُ فيها ملاحم خالد الفرج ومحمود شوقي الأيوبي وبولس سلامة وفيكتور البستاني ومحمد عبد الله العوني وعبد الله العلي الزامل وأحمد إبراهيم الغزاوي وحسين سرحان وخير الدين الزركلي وعبد الله بالخير وفؤاد شاكر ومحمد بن عبد الله العثيمين وغيرهم، ورجّحت أن يكون الفرج الأسبق بينهم في هذا النوع من الشعر الملحمي ذي الطابع السردي التاريخي.
هجرة مبكّرة إلى الهند:
وإذ تستفيض المراجع الكويتية والسعودية كما سنرى، في الحديث عن إنتاجه التأليفي المخطوط والمطبوع وعن الكتابات التي تناولت سيرته، فإنها تمرّ مسرعةً على محطات مهمة معيّنة من حياته دون أن توليها ما تستحق من اهتمام، ومن ذلك دواعي هجرته المبكرة إلى الهند وعمره آنذاك سبعة عشر عاماً تقريباً، في إقامة امتدت حوالي خمس سنوات (بين عامي 1334 و 1339هـ - 1916 و1920م) وتكتفي بالإشارة إلى أنه تردّد عليها وأنه تعلم الإنجليزية وشيئاً من مبادئ الهندسة، ومارس النشاط التجاري من خلال إنشاء المطبعة العمومية التي طبع فيها بعض الكتب العربية بعضها كان على نفقة الملك عبد العزيز، وذُكر أن نبوغه الشعري قد بدأ في الظهور في تلك المرحلة من عمره، وقد جاءت هجرته تلك مماثلة لهجرات العديد من أهل الخليج والأحساء ونجد الذين كانت الهند وجهتهم المفضّلة، وكان والده قد سبقه إلى بومبي.
تقول الكاتبة الكويتية سعدية مفرّح في مقال بعنوان «خالد الفرج شاعر الخليج كله» نشرته في مجلة العربي الكويتية عام 1432هـ (2012م):
«إن خالد الفرج لم يبق في الهند طويلاً، بل خمس سنوات تقاطع فيها العمل الوظيفي التجاري بالعمل الثقافي، والذي توّجهُ بإنشاء المطبعة العمومية هناك لطباعة الكتب العربية، إلا أن الحنين إلى مرابع الطفولة والصبا قد بلغ أوجه فعاد إلى الكويت ليقضي فيها بعضاً من الوقت، قبل أن يتجه إلى البحرين التي استقبلته بحفاوة تليق باسمه كمثقف بدأ يعرف المنطقة كلها».
مسيرة ثقافية:
تتناول الصفحات التالية ملامح من سيرته وأبرز الكتابات التي تحدثت عن شخصيّته وفكره، أما بالنسبة لإنتاجه الشعري، وبخاصةٍ ملاحمه الثلاث التي نظمها في سيرة الملك عبد العزيز وفي مسيرة توحيد المملكة والأغراض الشعرية التي نظم بها وكذلك قصائده الإخوانية، فأدعها لذوي الاختصاص الأدبي ومنهم السيد عدنان العوّامي الذي سبق أن نشر في مجلة «الواحة» دراسةً متعددة الأجزاء عن أدب الفرج وعن القصائد التي لم تنشر له.
عاش خالد الفرج نحواً من ثمانية وخمسين عاماً من التنقّل المكاني عبر كل إمارات الخليج تقريباً، ليجد ضالته في التوطّن أخيراً في المنطقة الشرقية حيث تكوّنت أسرته، ووجد من الاستقرار النفسي والمعيشي والوظيفي والأسري ما جعله يتفرّغ للفكر والإبداع، ومع أنه أقام في الكويت والبحرين والهند والأحساء والقطيف والدمام وتردد عليها، ثم أقام في بلاد الشام قبيل وفاته، وكانت إقامته في المنطقة الشرقية الفترة الأكثر خصوبةً وحيويّةً في حياته الفكرية والإدارية والأطول من الناحية الزمنية (قرابة نصف عمره) إلا أن الساحتين الثقافيّتين السعودية والكويتية تنافستا في الاحتفاء بسيرته وبتراثه عبر العديد من المؤلفات والدراسات النقدية والمقالات التي تليق بمكانته، فلقد ترجم له وكتب عنه كل من حمد الجاسر وعبد الله بن إدريس وعبد الرحمن العُبيّد وعدنان العوّامي وعلي باقر العوّامي ومحمد سعيد المُسلم ومحمد رضا نصر الله وصالح محمد الذكير وحمّاد السالمي وعبد الله شباط (من السعودية) وعبد العزيز الرشيد وخالد سعود الزيد وحسن الشطّي وعبد الله زكريا الأنصاري وسعديّة مفرّح وعواطف العذبي الصباح وفاضل خلف وخليفة الوقيّان وعباس يوسف الحداد وسالم عباس خدادة وسليمان الشطي ونورية الرومي (من الكويت) وغيرهم ممن لا يتسع المقام للإحاطة بذكرهم، وقد أطلقت الكويت اسمه على إحدى مدارسها، وأصدرت له طابعاً بريديّاً ضمن مجموعة من أدبائها، وصنّفه مثقفوها على أنه - كما سيأتي - من أبرز أدباء حقبته، وفي صفّ مجايليه من الشعراء المجدّدين الكويتيين، كصقر الشبيب وفهد العسكر.
تضمّن التراث الفكري لخالد الفرج مجموعةً من الكتب المطبوعة والمقالات التي نشرها في حياته، وبعض مخطوطات لم يتمكّن من استكمالها أو من طباعتها قبل وفاته، وكان العلامة حمد الجاسر من أقدم من تناول سيرته ومؤلفاته وشعره بالتفصيل، إذ رثاه بُعيد وفاته بمقال مطوّل في مجلة اليمامة (ربيع الآخر 1374هـ - ديسمبر 1954م) استعرض فيه أبرز محطات حياته وإنتاجه الفكري متتبّعاً هجرة أسرته - ولأسباب غير معروفة - في أواخر القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميلادي) من بلدة نزوى في وادي الدواسر لتستقر في بلدة الزبارة في شمالي شبه جزيرة قطر، ثم رحلت إلى عُمان، ومنها اتجهت إلى الكويت، وقد خرج من هذه الأسرة ابنُ عمه الأديب الكويتي المعروف عبد الله محمد الفرج المتوفى في الكويت عام 1319هـ (1902 م) وهو موسيقي وملحّـن مجيد، وله ديوان شعر بالفصحى والعامية أعده وطبعه خالد الفرج عندما كان في الهند في حدود عام 1338هـ (1919 م) ثم أُعيد طبعه مراراً.
وبينما عدّد الجاسر مؤلفات خالد الفرج، انفرد بالقول إن له مقالات في مجلة المجمع العلمي العربي عن الشهور العربية، وفي جريدة الأخبار المصرية عن بعض المشكلات السياسية، وفي مجلة الحج في نقد كتاب صحيح الأخبار لابن بليهد، فضلاً عن مجموعة من المقالات في الصحف الكويتية والبحرينية والسورية، وأنه ألقى بعض المحاضرات عن الشعر النبطي، وكان مفتوناً بنظم أبيات تحتوي على التواريخ بحساب الجُـمّـل (الأبجدية) مورداً أمثلة لذلك، منها شطر بيت أرّخ فيه زيارة الملك عبد العزيز لمدينة الجبيل (المسمّاة تاريخيّاً بلدة البوعينين) قال فيه: «شرّفتم عينين أيّها الملك 1348هـ» ومنها بيت أرّخ فيه مناسبة تركيب أول مضخّة لرفع الماء في مزرعة يعقوب الهاجري في الأحساء قال فيه:
ومع الثناء أقول في تاريخها «للزارعين فتحت باب هناء» (1348هـ)
وفي كتابه «معجم المطبوعات العربية» المنشور بإشراف حمد الجاسر، استعرض الأديب العراقي د. علي جواد الطاهر سيرة الفرج وأبرز الكتابات التي تناولتها والمؤلفات التي صدرت عنه حتى عام 1400هـ (1980م) وهو عام بداية صدور المعجم بأجزائه الأربعة.
وشمله عبد الله بن إدريس بالذكر في كتابه «شعراء نجد المعاصرون» الصادر عام 1380 هـ (1960م) وعدّه في طليعة شعراء نجد، وتحدث عن أسرته وعن تنقّلاتها في بلدان الخليج، كما أورد نماذج من إنتاجه الشعري، ووصفه بـ «المجدّد والعبقري وبصفاء الفكر وبروز الصورة وحسن توزيع الألوان».
.. يتبع
** ** **
* من محاضرات دارة الملك عبد العزيز بمناسبة اليوم الوطني، منتدى م. جعفر الشايب بمحافظة القطيف (الثلاثاء 28/ 11/ 1435هـ - 23 / 9 / 2014 م).