سأرتب هذه المدينة وأرحل
غير أنكم لن تروني مرة أخرى
يكفي أن أعلق نكتة سوداء على شفاهكم وأمضي
معي كلاب بيضاء تصعد الجبل
وقواقع ملونة ترشح بالأمس
ألوذ بظلال النائمين حتى دلوك الشمس
ها مدينتكم انشقت فإذا هي وردة كالدهان
يحزمها طفل بدمه ويموت
ألم تروا ملائكة الماء مخلوعة من القرمز
ألم تروا القنافذ الزرقاء تلهو على مائدة الهباء وتقذف الإبر
ما كنتم لتزهقوا الخِضر في روح شجرة
انصرفوا إلى يوم الزينة
حيث الفتيات يصطدن الثعالب طمعاً بالمتعة
إحداهن تذيب الشمعة في كرة البلور.
سأخلع على كل عتبة عباءة بيضاء، لئلا تذوب القوارير
قل هو كتاب ينصب فخاخه لنسوة الجبل، فأي غواية تتهيأ بآلاتها اللدنة لرمي النرد؟
وأي سرير هذا الذي يحوّل الحلم إلى يود؟
قل هي مدينة تحرس ساعاتها المتشابهة داخل ألواح الخزف، كأنما تباغتك الدمى المنسوبة لمغزل أعمى، فما يرى ليس إلا طائراً يقترف رقصته المتأخرة في سوقه الأخير.
لا المطر المتشبث بوميضه الوحشي ولا الأصابع المرتعشة باللذة المستلة من أول الظلام ولا الأوز المتخافت تحت زرقة القمر، ولا الأباريق المنمقة بألق الزنوج، تقدر أن توقظ من يغفو على سريره كحاو يزدرد الحصى على مقربة من أنثى تتفحص أساورها وتهمهم: أن لا ضحك في المدينة!
لنقتسم الفجيعة معاً.
نهر من الرماد يؤرقنا بحبر الجنة، ورد الزينة لا ينمو، الحدائق ذابلة بدبق خمولها.
من يحرس قنديل المدينة؟ هل الفراش العالق بالطين يلهو؟
إلي بالنقود المسكوكة من قوس قزح، عسى أن نسرف الأسبوع ممسوسين بمناسك الليمون.
لتكن الحجرات مقتدحة بالكبريت، حسبنا صديقات يؤثثن التخوت بمراوح الريش.
ورب الزجاجة هكذا تزهر المدينة، فيعود الحجر طفلاً حاضراً يبادهنا بركضه الأخضر بعد غيابه المستحيل، يركب القارب الهارب من حقول الشجر، يلامس القصب فإذا هو قاذف سكره في الناي.
مدينه بلا شرفات كيف تكترث بالشجر؟
القنديل مزيت من دم الطير هل الفتاة المحبوسة بالقن تزهو؟
ها هم يهدرون حلم الوردة، فيما يقتنصون الحصص بأسيافهم المذهبة، ولو أدركوا أن صورة السراب بلا ألوان لانتفضوا مخافة فتنة، ولعرفوا أن الإنسان طيف مرتحل من الريح! بل هو اللحظة التي لا تجيء...
ما فتئت أنكس رأسي
أنا المتربص مدينة يولد فيها اللوز والغرباء
الرقص في البرية
الراقصون في البرية تولد أجسادهم على العشب. دليلهم هدهد مفتون بالسرد، غير أنه لا يسرد الأثر. يسبقهم ويسكن المسافة حتى إذا اكتشفوا الياقوت في أجنحتهم، هرعوا إلى وكر وحشي ليشهدوا على حطام العنقاء.
الراقصون في البرية عبر حواسهم يولد أصل العالم، لكنهم يعرضون عنه طمعاً بالفراديس السرية التي تمنح لغير المكترثين، أولئك الذين لا يعلقون فوانيسهم على سماء مرهقة بالدم. ولا يكترثون كثيراً لهذا الجرف الأزلي وهو يموه كمائنه في عراء تتمدد فيه اللبونات. هم رعاة القمر وهو مقصور عليهم يضاجعونه في مغارة غطش ليلها بنهارها تقطر منها الفضة ويحرسها حنكليس القيامة بذيله الكهربائي، مغارة بجوار شجر مريب على هيئة مجهولة مع الفجر يطلقون القمر من الحبس وعلى حرشفته مني متجمد وحجر يحترق.
إنهم المنشدرون يخاتلون الوقت كلما أوغلوا في العشق ترتبك الأزهار في حضرتهم وتسقط كهرمانة الجبل. أقلعوا عن منازلهم ولم يعيروا أدنى وزن لمهلك الأهل، كأنما يترصون الألواح ويقتنصون النيازك عبر الرقص.
يستخفهم برق منفلق من سلالة الدم الأنيس. ساقطون في ريف أسود، هوت بهم عجلات تعرج في السماء. ها هم يخلعون الأقنعة التي جمدتهم في مرتبة التماثيل.
يهرقون النبيذ فتشتعل عيونهم وتحترق أرواحهم في المشاتي البعيدة.
يصنعون زورقاً من خشب لا ليبحروا به وإنما ليتذكروا شروط البحر.
هو الرقص إذاً، لا يخضع للمداولة يشق الفراسخ والأقفاص، يسمونه زهرة الفوضى، الرقص هندسة تتشكّل عن جذر وحشي يغط في شبكة معتمة. عراة تحت قمر يعقدون مشنقة النعناع للغسق، تخلبهم رسولات بلا أجراس يوزعن الحلوى عليهم فيما يمارسن السعي في هذا الخلاء الشاسع، ثم يتدافعن عبر الفجر من المصائر والمعادن والمواقيت ريثما يساقط ريش غزير يحجب الجهة الأكثر وعورة في رحلة القنص.
مشيئة غامضة يزحف بها شاغل الدم والصلصال وهو يكبكبهم مع أقدارهم تحت قرع المطارق في الجهة التي ترفض نفسها لتنفتح على أول العري.
مشيئة تتوج الحواة بأحبولتها متداركة انكسار الأركان لحظتئذ تسرق الراهبة بوصلة الصياد. مشيئة تذهب بهم دون وصاية من أحد تعتقل مشرديها بالقدري بالحزن والظل الغامض. إنها المشيئة طفلة العدم وحكايته المشاكسة.
ملهاة الكائن
خذ القنديل وعلّقه على الشجرة
كن حذقاً مثل زئبق يتسلل إلى نومنا ليحرس ساعته اللزجة، حيث الحلم وأشكاله اللاهية، إذ يتكون عالم بلا تأريخ.
كن عري المرآة واكشف مكيدة الأزل حين يموه الموت مبتدعاً حمامات منسية في ملهاة الكائن.
التمس مهدك المائي أيها المداهم في خلوة التابوت.
قربك حجر ينزف في العتمة.
هو الذي نزع عنك وحشتك وآنسك بالميسر وأوحى إليك أن انتبذ مكاناً أهله يربون عباد الشمس في حقولهم ويعرون تحت صارية المدينة عرائس أكثر طيشاً من مجون المياه... دليلهم الغواية، يمضون مهرقين الصاعقة برقاً برقاً على حجر الروح.
ليس للنعامة إلا أن تحنو عليك
كلما عوى ذئب من ورائك
نفشت ريشها أو باضت في النهر
حتى إذا أويت إلى صخرة ترضع الغمام
خف إليك نوتي تنزلق الشرانق بين يديه
يبلل اليل بلعابه
ينتحل نفسك الأليفة
فيما يسميك زجاجة المدى
وعند شجرة الأغاني يلمع نايه بالحصى مأخوذاً بأطفال يعقدون الأعشاب على رؤسهم ويرقصون
يا من تلتقط بقفازك بيضة الهباء ثم تهوى بها في الأقاصي
تمهل قبل أن تؤذي النسناس النائم في خلاء مشمس
ذاك الذي كلما غنى اخضر ما حوله
ألا تراه يسرح دنانه متوسلاً بعين أخرى دالية تلوذ بها شهوة العنب
ستراه وسترى ملاكاً يندلق الضحى من ثدييه
إما رأيته رأيت المكان مزيناً بأباريق الظلال
لكنه كالورد يذوب في النزهة مرتشقاً حبر الأنثى
حتى إذا مر به أول الطيور اصطفاه لنفسه وأغواه بخواتم النيروز
تمهل إذاً
تمهل قبل أن تتهمه بدمية شمع ملقاة على الساحل
مرايا النهر
بادهتني الريح فوضعت ثيابي على شعر شقيقتي الممتد من قرية قصية تكاد تختفي الآن.
رأيت من عيني الواقعة على قرون حلزون ذاهب في النعاس، رأيت صبية أشبه بذباب الفاكهة يلعبون في النهر كأنهم يلهون في دمى.
قلت: خلقت من هذا المكان ولن أبرح حتى يريني الكلب رزقه قدميه!
لقطة زجاجية / مرايا البحر
الملاحون نائمون على خرائطهم الليلية
يرعون أعشاب البحر في قمرة أحلامهم
يكتشفون فناراً يضيء نايات تنتحب في زوارق الليل
قلت: هذه السفينة مخلعة الألواح
أنى لأهلها أن يتأملوا القطن وهو يدخل فترة الظل
طالما أن النوارس ترفو رزقه الأماكن؟
كنت مطارداً وموشكاً، مثل بالون يحاول التفلت من دائرة القطط.
نفرت إلى كوخ بين جذوع النخل يغزل اللهو لأشخاص غامضين ذوي معاطف تثير الريبة وغلايين مضيئة تتدلى من شفاههم إلا أنها مشغولة بغزلان فقدت قرونها ثم تاهت في البرية.
تركيا 2007م