حوار - د. محمد خير البقاعي:
أمضى 25 عاما يبحث ويعمل في الموسوعة، وقد خذلته مراكز البحث العلمي، أخذه تخصصه الأدبي إلى البحث في مواطن الشعراء وأطلالهم ومرابعهم، فأمضى 25 عاما في تأليف وإنجاز موسوعة جغرافية أدبية، هي موسوعة موطن القبائل وطرق القوافل في الجزيرة العربية، حاول من خلالها استكمال ما بدأه قبله كوكبة من الأعلام مثل الأصمعي والهمداني والحموي والمحدثين وان كان يرى جهودهم مبعثرة.
يشكو الدكتور فضل العماري من مراكز الأبحاث لعدم التعاون معه، بل لرفض جهده العلمي في هذه الموسوعة دون التحقق والتحكيم العلمي.
حوار لا تنقصه الصراحة مع الباحث الدكتور فضل عمار صالح العماري نترككم مع تفاصيله.
* منذ متى وأنت تعمل في الموسوعة؟
أعمل في الموسوعة منذ ما يقرب من خمسة وعشرين عامًا، أي منذ (1998م).
* أنت متخصص في الأدب، فما الذي دفعك إلى الاشتغال بالجغرافيا؟
في الواقع، أن ما أعمل به هو الجغرافيا الأدبية، وأنا متخصص في الأدب القديم، وتحديدًا في الشعر العربي القديم، وعماد الجغرافيا الأدبية الشعر القديم، إذ كان العلماء يستنبطون المواقع من الأشعار والشروحات المصاحبة لها.
* هل يعني هذا أن التأليف الجغرافي لم يكن ميدانيًا؟
لا، أبدًا، ولكن التأليف الجغرافي اعتمد هذه الطريقة متأخرًا، أما البدايات الأولى، فكانت عن خبرة ومعرفة ومعاينة واختصاص، فعرام، عمل رسالته «في أسماء جبال تهامة ووديانها وجبالها»، وهي عبارة عن مدونة صغيرة، حققها عبد السلام هارون تحقيقًا علميًا دقيقًا، على الرغم من مسائلها الشائكة، وكانت هذه الرسالة البداية لمثل تلك الأعمال الاختصاصية، ثم تلاه الأصمعي (ت216هـ) في كتابه «جزيرة العرب»، المنسوب خطًا إلى لغدة الأصفهاني. وفي القرن الرابع الهجري تزامن عملان يغلب عليهما طابع الرواية والنقل، وهما عمل الهمداني (321هـ)، والهجري، صاحب كتاب «التعليقات والنوادر» غير أن العمل الميداني استمر فيما يخص الديار المقدسة: مكة المكرمة والمدينة المنورة، وما يتعلق بهما من طرق الحج.
* إذن، ما الإضافة التي أضافها كل من البكري وياقوت؟
لا شك أن المكتبة الجغرافية الأدبية غنية بالمؤلفات، ولكنها لا تضيف جديدًا إلى عمل هذين العلمين، مع أن عملهما لم يكن ميدانيًا، بيد أنهما -ومن حسن الحظ- أن ياقوتًا لم يطلع على كتاب البكري «معجم ما استعجم»- ضما مادة ضخمة هي الأساس في دراسة المواضع.
5- ألم تسد النقص، وتكمل الطريق أعمال كل من ابن بليهد، وحمد الجاسر، وسعد بن جنيدل، وعبد الله بن خميس، وعاتق البلادي، ومحمد العبودي، إضافة إلى دراسات عبد الله الشايع؟
حقًا! أنجز هؤلاء العلماء الأفاضل، وسواهم، أعمالاً ميدانية رائعة، غير أن جهودهم جميعًا ظلت مبعثرة، إذ توزعت على المناطق فيما بينهم، فمثلاً البلادي اضطلع بـ»معالم الحجاز»، والجاسر ركز على المنطقة الشرقية وشمال غرب الحجاز وأنحاء من «السراة»، وابن جنيدل اختص بـ»عالية نجد»، وابن خميس بـ»اليمامة»، فتبعثرت الجهود، وتشتتت الأعمال، حتى قال الجاسر: «هل يعجز علماؤنا حين يتصدون للقيام بعمل من الأعمال الجديدة التي تعد أساسًا للحفاظ على كيان الأمة العربية مثلاً في خدمة لغتها بوضع (معجم كبير يساير الزمن، ويتمشى مع فن التأليف المعجمي الحديث) أن تكون المعلومات التي تقدم فيه مبينة على قواعد من الصحة والوضوح والإفادة، تتفق مع ما يحتاج إليه الباحث في هذا العصر؟»
* وعلى هذا الأساس، فأنت تحقق هذا الحلم الذي راود الجاسر، فجاءت: «موسوعة مواطن القبائل وطرق القوافل في الجزير العربية»!
كان ذلك توفيقًا من الله وسدادًا!
* ولكن كيف شرعت في تنفيذ الموسوعة؟
لقد هداني الله إلى مقولة تقول: إن الشاعر لا يتحدث في أطلاله إلا عن مراتع الطفولة والصبا والشباب، وإن الظعائن انتقلت منها عبر طريق قوافل مسلوكة مطروقة. ومن هنا تناسيت كل إنتاج جغرافي قديم وحديث، وبدأت في استخلاص المواضع من الشعر.
* يبدو هذا واضحًا من تقسيمك الموسوعة بحسب الشعراء، فأنا أرى أنك بدأت في الجزء الأول بجذام التي منها «عاملة»، قبيلة عدي بن الرقاع، فعذرة، كما يمثلهم جميل بثينة، فالأزد (الأنصار)، الذين منهم حسان بن ثابت والأحوص، فطي الذي يمثلهم كل من حاتم الطائي والطرماح، فإياد، كما يمثلهم أبو دؤاد...!
هذه هي الحقيقة، ومن ثم بدأت البحث عن التحديد في المعاجم قديمها وحديثها، مستعينًا بالخرائط والإحداثيات المعاصرة، إضافة إلى ما استجد من أعمال. ولم تغب عن بحثي المعرفة الشخصية المكانية بكثير من المواضع.
* هل يعني هذا النقل والتدوين؟
لا، وكيف يكون هذا، وأنا أطبق نظرية قلبت كثيرًا من الموازين، خذ مثلاً قول جرير:
يا حبذا الخرج بين الدام والأدمى
فالرمث من برقة الروحان فالغرف
وقوله:
ساروا إليك من السهبي ودونهم
فيحان فالحزن فالصمان فالوكف
فالإجماع على أن هذه المواضع هي المواضع المعروفة، جنوب شرق الرياض، و»السهبي» هي وادي «السهباء» المعروف هناك، في حين أن جريرًا لا علاقة له أبدًا بـ«الخرج» وأنحائها، وإنما دياره التي يشيد بها هي «الوشم»: «ثرمداء» ونواحيها، فحتمًا لن تكون تلك المواضع إلا في جهاتها الغربية. وخذ مثلاً الحديث عن «الكلاب الثاني»، فالتاريخ والجغرافيا يريان أنه في جهات (حفر الباطن)، وهذه مغالطة علمية، فـ»الكلاب» الأول والثاني كلاهما في واحد، وهو في جهات جنوب شرق (الشعراء- الدوادمي).
* ولكنك الآن تتحدث عن المواطن!!
يقينًا؛ لأن الموسوعة ركزت على المواضع في الشعر كله، سواء كان موطنًا أو غير موطن؛ انظر مثلاً إلى الإجماع على أن «عينين» هي مدينة (الجبيل)، وما هي إلا (عين أم سبعة) بالأحساء، وانظر إلى توجيه الشعر إلى جبل (وارة) في الكويت، وما هي إلا جبل شرق (الحناكية).
* هل كانت هناك لجنة علمية شاركتك في صنع هذه الموسوعة؛ لأن مثل هذا العمل الذي يستنفد العمر كله لا يقوم على قدرات باحث واحد؟
لقد آمنت منذ البدء بأن اشتراك أي أحد فيها سيفسد خطتها ونتائجها؛ ولهذا، اعتمدت على الله وحده، فنهضت بها وحدي.
* ألا ترى أنك تغامر بطرح مثل هذه الآراء والنتائج التي صنع فيها المعاصرون معاجمهم، وأنت تخالفهم كثيرًا؟
هذه واحدة من العقبات التي واجهتها، غير أني نشرت كثيرًا منها في مجلة «العرب» التي تصدر عن (مركز حمد الجاسر)، ونشرت بعضها في مجلة (الواحة)، وعقدت ندوات عدة بشأنها، إضافة إلى أبحاث هنا وهنالك، ولم يتصد أحد بالاعتراض أو الرد علانية، أما خفية، فربما ثارت ثائرة أحدهم، وامتعض آخرون!
* ذكرت «العقبات»، فما العقبات الأخرى التي اعترضت سبيل إصدار الموسوعة، أمادية هي، أم تقنية
لقد تحملت كل أعباء المشروع المادية، طيلة مرحلة العمل.
* إذن، أين مراكز البحوث؟
إنك تثير المواجع والشجون، فلقد عرضت المشروع على (مركز البحوث) بكلية الآداب، بجامعة الملك سعود، فكان الرد: هذا عمل مكتبي، لا يضيف شيئًا. وأما (مركز البحوث) في جامعة الملك سعود، فكان رده أكثر قساوة، إذ قال مديره آنذاك إن الأولوية لدعم المشروعات الميدانية والتطبيقية، ولدينا أعمال كثيرة؟ وتعاقب بعده مسؤولون اقتدوا به، أو أنهم طالبوا بتحكيم الموسوعة، أما «الدارة» فوضعت في الأدراج، بعد أن كان ردهم أن اللجنة العلمية لم توافق على المشروع.
* أليس هذا تحكمًا في عمل أكاديمي، وهو عمل لنقل أنه خاص، ولا شبهة سياسية عليه، أو اجتماعية، أو دينية، سواء كان خطأ أو صوابًا؟
إنها العودة إلى ماضٍ ما عاد ملائمًا للعصر، وسنة التطور، وتوجه البلاد، وكان الجاسر ينادي بأعلى صوته: «إن التبعة في ذلك تقع أول ما تقع على مثقفي الجزيرة نفسها، وقد انتشر فيها العلم حيث زادت جامعاتها على العشر وهي تضم مئات ممن يحملون أعلى الشهادات العلمية في مختلف العلوم فماذا عمل هؤلاء في سبيل تمهيد الطريق للباحثين في أي علم من العلوم، ومنه ما يهيئ لواضعي المعجم الكبير الوسائل لتقديم معلومات صحيحة وافية عن تحديد المواضع الواقعة في الجزيرة».
* نرى أنك أنجزت المشروع، فهل تتوقع أن تشارك به في معرض الرياض هذا العام؟
إنك تنكأ الجراح حقًا! كيف لي أن أشارك في المعرض؟
* لكنك تكفلت بالموسوعة دون عون من أحد!
هذا هو الواقع.
ولكنك تتعامل مع القبائل في الجاهلية والإسلام، فمثلاً تغلب وبكر، ويربوع..إلخ، رحلت عن المملكة العربية السعودية، أما طي وهذيل مثلاً، فهي في أماكنها لم تبرحها، إضافة إلى أن كل من ألف في المواضع كان مدار أحاديثه عن القبائل!!!
ماذا أفعل؟ وكيف أقنع أحدهم بأن هذا العمل مثل بقية أعمال المعاصرين الذين ذكرتهم. ولكني أقول لك: ستصدر الموسوعة- بإذن الله- فنحن في زمن لا حجاب دونه، ولا حجر عليه.
لقد شكلت «القبائل» ظاهريًا معضلة للجميع، مع أن نظرية الموسوعة تقوم على أساس «مواطن القبائل»، فإذا انتقض الأساس، انتقض البناء كله، وعدنا إلى طريقة الجمع والتراكم علمًا بأن هناك من حقق كتاب ياقوت «معجم البلدان»، وكذلك، كتاب البكري «معجم ما استعجم»، وظلت مسائلهما كما إلا في تغيير الطباعة، وادعاء التحقيق.
* هل يعني هذا أنك تجشمت تكاليف الطباعة ومعاناة البحث، دون تدخل خارجي؟
هذا هو الواقع، على الرغم من أننا في بلد عمت خيراته، تتقدمه راية يحملها ملك الإنسانية، ونائبه الأمين.
* ألا ترى أن مثل هذا العمل جاء متأخرًا؟
هذا هو الواقع، ولكن هل هذا وحده من شوهه التاريخ؟ وهل هذا وحده من قمت بإعادة صياغته، فنالني منه ما ينال كل من يكسر الحواجز ويقدم الأفكار؟
* ألأنك لم ترض بتحكيم الموسوعة بعد ذلك؟
كيف- يا أخي- يحكمون الموسوعة- وقسم الجغرافيا بكلية الآداب جامعة الملك سعود، الذي يفترض فيه أن يكون جديدًا متجددًا يصدر موسوعة لا تتعدى ما أجمع عليه القدماء والمعاصرون؟