إن هذه الدراسة ستكون باكورة عددٍ من الدراسات التي تهتم بالذات والآخر في الرواية السعودية، وفي القصص الشعبية المبثوثة في مواقع التواصل الاجتماعية، كالواتس أب وتويتر والفيس بوك، لتدارسها دراسة ثقافية مستعينة بالنقد الثقافي وبما ابتدأه إدوارد سعيد وهومي بابا وغيرهما ممن اهتموا بدراسات التابع، لاستحضار العلاقة الهامشية والمركزية بين السعودي وغير السعودي من جنسيات وثقافات أخرى، وآمل أن أوفق في تأويلها ثقافياً، وفضح الأنساق الثقافية المضمرة خلف (التهريبات النسقية).
رواية (سمراويت) محاولة فاشلة في لملمة ما تشظى من الذات، هذه الذات التي تبحث عن ذاتها في المركز (السعودي) من خلال هذه الشظايا التي توزعت في كل مكان وزمان، بضمير السارد المتكلم (أنا)، (أنا) التي منحت (عمر) بحبوحة ليبحث عن ذاته، وتجعله يتعمق في دهاليزها بين شكوى وذكرى، وبين فرحٍ وترحٍ، وحبٍّ وفقْد.. فقد تكون بعض هذه الشظايا هنا في (جدة) أو هناك عند (سمراويت)، وقد تكون في أمريكا أو بريطانيا، لكنها حتمًا لم ولن تكون هنا في السعودية/ المركز «لم يكمل أحمد دراسته الجامعية في الهند بسبب ظروفه المادية؛ فعاد خاليًا إلا من رغبة عارمة في أن ينتقم لذاته. وكنت أحمل الرغبة نفسها بشكل مضاعف» (سمراويت 90). وهناك في إريتريا يعاود البحث عن شظاياه مراتٍ وكرات «كثيرة هي الأشياء التي ينبغي البحث عنها في إريتريا، أولها البحث عني، فبمجرد أن يتوقف الشتات ستبدأ ملامحي في التشكل والاكتمال» (سمراويت181). حتى تحولت رحلته إلى إريتريا بديلاً عن كونها ذهاباً من (جدة) وعودة إليها إلى عودة وذهاب «حيرني الختم، كان ينبغي أن يكون عودة وذهاباً» (سمراويت183).
يزاوج بين (جدة) و(إريتريا)، ويعتبر نفسه زائرًا ووحيدًا في إريتريا وطنه الأصل، بينما يستذكر أعوامه الخوالي في أزقة (جدة) وأحيائها القديمة، إنه ينسلُّ من وطنه، ويحاول أن يعيد الوطن إلى قلبه المجزوء إلى جزءَيْن «لم أكن إريتريًّا خالصًا؛ لأن القلب اختلط بقلب؛ فلم يعد مجديًا معرفة أين يبدأ الأول، وأين ينتهي الآخر» (رواية سمراويت ص12).
انقطع عن وطنه، وانبتت علاقته بالوطن حتى إنه لم يعرف نشيد وطنه إريتريا حينما سمعه في احتفال القنصلية الإريترية بجدة، وطغى عليه الخجل حينما وجد نفسه بين الراقصين على أغنية شعبية إريترية وهو لا يتقن الرقص الإريتري.
إنه تشعّب مؤلم، أفقده ذاته بسبب البؤس (السعودي) الذي طغى عليه، وصادرَ منه كل شيء، صادرَ ذاته وأحلامه وكينونته حينما تقاطع مع الجمود الثقافي الذي تلبّست به الذات (السعودية) حتى إن الشيخ يرفض فكرة تجنيس غير السعوديين بل يعتبرهم سببًا لتلوث البلاد (سمراويت 36). حتى المثقفون يتعاملون مع غير السعودي بتعامل دوني وجامد؛ إذ إنهم يعتبرونهم (جرابيع) (سمراويت37).
إن الذات الإريترية في رواية (سمراويت) تعتبر ذاتها (هامشًا) مقابل الذات/ الأنا السعودية (المركز)، وهذا المركز يمارس المركزية مع غير الغربي، وفي الآن ذاته، فهو (هامشيٌ) مع الذات الغربية، وعليه فإن الآخر في الرواية السعودية بين غربي/ مركز وغير غربي/ هامش، وغير الغربي هنا قد يكون إفريقياً أو آسيوياً
غربي/ مركز * سعودي/ هامش
غير غربي/ هامش * سعودي/ مركز
ويتحول المكان (جدة)، واللغة/ اللهجة الجداوية في الرواية إلى سيماء ثقافية، تحضر لتلبي حاجة الذات الإريترية المتشظية حال غياب الذات المركزية/ السعودية، هذه المدينة التي تحوي جل الثقافات، وتحاول أن تدمج فيها كل الجنسيات؛ فهي وحدها التي ملأت رغبة (عمر) الإريتري، ولهجتها هي وحدها التي شنّفت سمعه، ويذوق معها حلاوة اللغة واللهجة، بل وجد فيها ما لم يجده في لغته الأم (التغري)، فهو يبحث عن ذاته في هاته اللهجة (الجداوية)، التي تختلف عن لهجات السعوديين في المملكة، ولأن هاته اللهجة يتحدث بها معظم غير السعوديين في جدة ممن وُلدوا وتربوا فيها، فتحولت هاته اللهجة إلى ذات بالنسبة له، تؤانسه في غربته التي يعيشها بين السعوديين، بين هؤلاء الذي يعتبرونه (تلوث) و(جربوع)، فما غير اللهجة/ اللغة تكون أنيسًا له في هاته الغربة؟!
فتتحول (جدة) إلى ذات جديدة للإريتري بعد أن فقد ذاته الأساس (إريتريا)؛ يشاركها الألم واللذة، وتخترم ذاكرته وهو هناك في زيارته الأولى لذاته الأولى/ إريتريا، فتحضر معه وكأنها ذاته التي لا يمكن أن يتخلى عنها «لم تكن جدة مكانًا والسلام؛ يلم شعث تشردنا بعد أن انتقلت إريتريا من الجغرافيا لحواف الذاكرة» (سمراويت 85). فهو هنا يفصل بين (جدة) والمواطن السعودي؛ فجدة هي ذاته، والسعودي هو الآخر، فيتحول المكان إلى ذات، ويتحول السعودي إلى آخر، ويبقى هو بينهما باحثًا عن ذاته.
وتحضر الذات الإريترية حينما تغيب الذات/ السعودية؛ إذ إن الإريتريين لديهم مرونة ثقافية بقبولهم قبيلة (الرشايدة) بينهم في إريتريا حينما هاجروا إليها من الجزيرة العربية قديمًا، فلم يعاملوهم كفئة مهمشة منبوذة بينهم (سمراويت 51).
حضور الذات الإريترية = مرونة ثقافية
غياب الذات السعودية = جمود ثقافي
وفقدان الذات الإريترية هو فقدان تام لم يقتصر على حضور الذات/ السعودية فحسب، بل إنه فقدان حتى في حضور الذات الإريترية الموازية أيضاً؛ وذلك لأنه لم يجد ذاته هناك في إريتريا عند (سعيد) المبتورة يده، المبتورة ذاته. إن الذات ليست هناك عند (سعيد) لأنها عائمة ضائعة متشظية مشتتة في كل الأنحاء وفي كل الشخصيات، بمعنى أن الذات/ الإريترية في الرواية تنمّ عن تشظي لا يمكن جمعه إلا في حضور الذات/ السعودية/ المركز. وبما أن هذا المركز يعتبر الذات الإريترية (جربوع) و(تلوث) فإنها لا يمكن أن تجمع شظاياها؛ لذا فإن التشظي يستمر حتى الجانب الرياضي من خلال الميول الرياضية لأحد الأندية الرياضية في السعودية، فنادي الاتحاد هو نادي الأجانب، بينما نادي الأهلي هو نادي الأمراء؛ فيعتب أحمد على صديقه تشجيع فريق الأهلي الذي يختص به السعوديون، ويترك نادي الاتحاد الذي ينتمي إلى أعضائه اللاعب الحارس الإريتري (حسن خليفة). فهل سيتحول الباحث عن ذاته/ عمر إلى محافظ عليها ومنافح عنها حينما وجدها في هذا اللاعب الرياضي الإريتري (حسن خليفة)؟!
وهل وصل بالباحث عن ذاته أن يتشبث بأي سيماء تدله عليها، وإن كان لاعبًا في نادٍ رياضي؟!
فعلاقة (عمر) الذات بالسعوديين في الرواية علاقة تنحى منحى سيئًا، أو علاقة رافضٍ بمرفوض من خلال رأي الشيخ الذي يرى في غير السعودي أنه مصدر تلوث، ورأي المثقف الذي يرى أنه (جربوع)، وحتى صديقه (البدوي الأخير) عادل تركه إلى اسكتلندا، وترك له حرية البحث عن الذات؛ فبقي وحيدًا في بلدٍ يتلفع بالجمود الثقافي، ويستميت في ذاته عن الآخر.
وينثال هذا التشظي على أغلب شخصيات الرواية، وإن معاناة (عمر) في البحث عن الوطن/ الذات لم تقتصر عليه وحده بل إنه يراها في وجوه الإريتريين جميعًا، فيرى «إباءً خلفه بحث مضنٍ عن الوطن طيلة عقود» (سمراويت ص29)، ويتوزع هذا التشظي على سمراويت، ومنى، وشخصية إبراهيم المطبخي، وهو الأقوى انشطارًا في ذاته؛ لأنه يُنافس في المسابقات العلمية على مستوى المملكة باسم جدة، مع أنه لا يحسن لبس (الشماغ والعقال)، فهو انشطار بين الذات/ الهامش والمركز/ السعودي، وعندها لم يجد سبيلاً إلى ذاته ووقفًا لهذا الانشطار المضني إلا بالسفر إلى أمريكا بحثًا عن ذاته في التعليم بعدما رفضه المركز/ السعودي، وحال دون تعليمه.
و(منى) الإريترية هي الأخرى تبحث عن ذاتها هناك في شاليهات جدة بعدما أفقدها الخجل سني عمرها الأولى، فما وجدت غير تحطيم هذا الخجل الحائل بينها وبين ذاتها.
أما (سمراويت) فإنها اطمأنت لذاتها في باريس وجدتها هناك، ولم تشعر نحو إريتريا إلا بشعور الذات الثانوية أو الذات الأصلية الثانوية؛ لأن الذات الإنسانية ابتدأت معها منذ أن تزوج والدها الإريتري بأمها اللبنانية، وعاشت في باريس.
فيئن (عمر) ويشتكي فقْدَ ذاته لـ(سمراويت) عندما طلبت منه ذكرياته الرائعة، و(مقالبه) مع أصدقائه. لم يتطرق إلى ذهنه إلا الألم والحزن، ذاك الشيء المكبوت الذي يعبر عن ذاته «ليس حزنًا خالصًا يا سمراويت، إنه نوع من الشجن، تختلط فيه مشاعر متناقضة، سعادة غامرة وحزن أصيل؛ لهذا ربما أشعر بحالة عدم التوازن هذه؛ أشعر بأشياء ترفعني للأعلى وأخرى تشدني إلى الأسفل، وما بينهما تكاد روحي لا تجد لها مستقرًا تركن إليه» (سمراويت 142). وإن ما يبعثر هذا الألم وتلك الذاكرة المليئة بالأسى (السعودي)، ويحيله إلى ذاته مباشرة دون وسيط، هو زواجه من (سمراويت) «أريد شطب قائمة خيباتي الطويلة، واستبدالها بنصر مؤزر بحجم إحدى فتوحات التاريخ العظمى، حينها سأوقف معاركي، وأسرّح جندي، فعند تخوم سمراويت تنتهي الفتوحات العظمى» (سمراويت177). لكن هذا الزواج أو تلك الذات الضائعة لم يتم ولم يجدها، فقدها وفقد كل شيء، فلم تعد (سمراويت) التي كادت تكون ذاته هي ذاتُه بل حالت أمها (الهوُيّة اللبنانية) بينه وبين ذاته.
فتظهر لنا الرواية أن الذات الإريترية لا يمكن أن تجد ذاتها إلا بالفرار إلى بلاد الغرب: أمريكا كما فعل إبراهيم المطبخي، وباريس كما فعلت سمراويت. أما (عمر) و(منى) (غير السعودي/ الهامش) فإن البحث عن شظايا ذاتهم مستمر في هذا الجمود الثقافي المثخن بعاداته البئيسة التي صدّته عن التأثر والتأثير.